{myadvertisements[zone_1]}
 
تقييم الموضوع:
  • 0 صوت - 0 بمعدل
  • 1
  • 2
  • 3
  • 4
  • 5
النزعات المادية في الفلسفة الاسلامية، لحسين مروة
طريف سردست غير متصل
Anunnaki
*****

المشاركات: 2,553
الانضمام: Apr 2005
مشاركة: #16
النزعات المادية في الفلسفة الاسلامية، لحسين مروة

( 5 ) الحنيفية



ظهر في شبه الجزيرة العربية تيار ديني متميز هو " الحنيفية " وقد أطلق على معتنقيه الحنفاء ( والحنف هو الميل عن الضلال إلى الاستقامة وتحنف فلان أي تحري طريق الاستقامة وسمت العرب كل من حج أو اختتن حنيفاً تنبيهاً أنه على دين إبراهيم عليه السلام ) ( أبو القاسم حسين بن محمد المعروف بـ الراغب الأصفهاني ، المفردات في غريب القرآن ، تحقيق محمد سيد كيلاني " مادة حنف " ، ط1381 هـ / 1961م ، شركة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر ) .



لفظة " حنف " عرفتها اللغات التي كانت سائدة في تلك المنطقة آنذاك ( وقد ذهب بعض المستشرقين إلى أن اللفظة من أصل عبراني هو " تحنيوث " أو من " حنف " ومعناها " التحنث " في العربية والسريان يطلقون لفظة " حنيفية " على " الصابئة " وقد وردت لفظة " حنف " في النصوص العربية الجنوبية بمعنى " صبأ " أي مال بشيء ما .. فاللفظة إذن من الألفاظ المعروفة عند العرب الجنوبيين ) (د . جواد علي ، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام ، الجزء السادس ، ص543 ) ، كما تحدث القرآن الكريم عن الحنفاء وقد وردت لفظة " حنيفا " في 10 مواضع من القرآن الكريم ولفظة " حنفاء " في موضعين منه وبعض الآيات التي وردت فيها آيات مكية وبعضها آيات مدنية ) ( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام ، ص451 ) .



رغم أهمية حركة " الحنيفية " وخطورتها فأنها في رأينا لم تنل حظها من الدراسة والتمحيص الجادين المستقصيين من قبل الباحثين المحدثين ، وترجع أهميتها إلى أنها كانت حلقة في مرحلة الانتقال من مرحلة ما قبل الإسلام إلى الإسلام ) ( عز الدين كشار ، اليمن دنيا ودين ، ص124 ، ط1 ، 1988م ، دار الهمداني ، عدن ) .

لم يكن تنامي حركة الحنيفية وانتشارها واعتناق العديد من الحكماء والعقلاء والمتنورين والشعراء لها قبيل البعثة المحمدية أمراً اعتباطياً أو مستغرباً بل كانت تحتمه موجبات ذلك المجتمع فـ ( منطق التاريخ نفسه يدعونا إلى رؤية ظاهرة الحنفاء كواقع حتمي تقتضيه طبيعة التغيرات التي كانت تحدث في مجتمع الجاهلية خلال القرن السادس الميلادي على طبيعة العلاقات الاقتصادية والاجتماعية ) ( حسين مروة ، النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية ، الجزء الأول ، ص312 ، ط4 ، 1981 م ، دار الفارابي بيروت ـ لبنان ) .

ويشرح لنا برهان الدين دلو المتغيرات التي طالت مجتمع ما قبل ظهور الإسلام ، والتي أدت إلى ذيوع الحنيفية بقوله ( تطورت القوى المنتجة وتوسعت أعمال الري الاصطناعي وازداد الإنتاج الزراعي وارتبط الإنتاج الصناعي بسوق التبادل ونمت المدن وتحولت العديد من القرى إلى حواضر مدنية.. ونظمت الأسواق الموسمية العامة … ونشطت التجارة الداخلية والخارجية فازداد العرب تقارباً . وأدى نشاط التجارة واتساع عمليات التبادل في نشر التعامل النقدي داخل المجتمع القبلي مما سارع في تفككه … وتفكك رابطة الدم والنسب بين أبناء القبيلة ونما التيقظ القومي متمثلاً في ظهور الأحباش في اليمن عام 575 م وبانتصار العرب على الفرس في موقعة " ذي قار " عام 609 م … وعلى الصعيد الثقافي انصهرت اللهجات وتوحدت في لهجة مشتركة " لهجة قريش " التي أصبحت لغة التعبير الفني ولغة التعامل المشترك بين مختلف القبائل أثناء انعقاد المواسم العامة التجارية والدينية و الأدبية … وقد ساعد إلى جانب المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية وجود اليهودية والنصرانية في تغيير الوعي الديني باتجاه النظر التجريدي نحو مشكلة الوجود متجاوزاً النظرة الحسية في خلق " ظاهرة الحنفاء " (برهان الدين دلو ، جزيرة العرب قبل الإسلام ، الجزء الثاني ، ص237 ، 238 ، ط1 ، 1989م ، دار الفارابي بيروت ، لبنان ) ويرى الباحث أن " ظاهرة الأحناف " ( كانت بداية الإرهاص الفعلي لظهور دعوة الإسلام ) (المرجع نفسه والصفحة نفسها ) .



أما الباحثون المثاليون فيذهبون وجهة أخرى هي أن هؤلاء الحنيفية بما امتازوا به من رجاحة عقل وسعة أفق وسمو في الخلق وثقافة أعلى نسبياً من نظرائهم في ذلك المجتمع ( أنفوا من عبادة الأصنام ودعوا إلى التوحيد ) ( د / السيد عبد العزيز سالم ، دراسات في تاريخ العرب قبل الإسلام ، ص436 د. ت. ، مؤسسة الشباب الجامعة ، الإسكندرية ) .



ويصف جواد على الحنفاء بأنهم ( جماعة سخرت من عبادة الأصنام وثارت عليها وعلى المثل الأخلاقية التي كانت سائدة في ذلك الزمن ) ( د . جواد علي ، المرجع السابق ، ص462 ) ، ويرى البعض من أصحاب النظرة المثالية في تفسير التاريخ أن عرب ما قبل ظهور الإسلام أخذوا يفكرون في عدم جدوى الأصنام وعبث التعبد لها ، وأنها غير ذات نفع لهم ، ويضربون على ذلك أمثلة منها : موقف امرئ القيس الشاعر المشهور من " ذي الخلصة " وهو صنم كانت تعظمه العرب ، عندما أراد الغارة على بني أسد آخذاً بثأر أبيه فخرج له قدح الناهي فكسر القداح وضرب بها وجه الصنم وقال في ذلك شعراً ، وموقف أعرابي من صنم آخر يقال له " سعد " ذهب إليه ومعه إبله لنوال البركة فنفرت منه الإبل وتفرقت في كل وجه ، فتناول حجرا ورمى به الصنم وأنشد بعض أبيات الشعر يسخر فيها من الصنم " سعد " ( د . محمد إبراهيم الفيومي ، الفكر الديني الجاهلي ، ص451 ،ط1983 م ، دار المعارف بمصر ) وأن هذا كله كان مدعاة إلى ظهور وانتشار " الحنيفية " بحثاً عن دين جديد يكون أكثر عقلانية .



وفي رأينا أن أصحاب النظرتين المادية والمثالية قد غالوا في مذهبهم ، إذا أننا بإزاء حركة عقائدية ، فليس من الصواب الاقتصار على التفاعلات الاقتصادية والاجتماعية التي ضربت مجتمع ما قبل البعثة المحمدية ، كما أن الأسباب الأخلاقية مثل مدارك المتحنفين ، وعلو كعبهم في السلوك والاخلاق أو التعلات التعبدية أو الطقوسية مثل القناعة بعبثية عبادة الأصنام وافتقاد أي نفع من وراء ذلك ، جميعها أمور لا تكفي بذاتها لاشتداد عود الحنيفية ، ولكن الأصح أن يقال أن هذه العوامل بكاملها قد تفاعلت حتى نمت ، فأدت إلى تفشي الظاهرة وذيوعها وشيوعها في أنحاء متفرقة ، خاصة في المدن أو المراكز المتحضرة ، وليس انبثاقها أو ظهورها كما انتهى إليه عديد من الباحثين ، إنما عندما تكاملت تلك الظروف وتعاضدت معا بدأت " الحنيفية " وتتحول من " ظاهرة " خافتة الصوت إلى " حركة " لها وجود متميز تمثل في الشخصيات العديدة البارزة التي آمنت بها والمبادئ التي كانوا يدعون إليها والتي تركت بصمات واضحة على الفكر الديني الذي ساد جزيرة العرب .



من هم هؤلاء الأحناف ؟



إنهم مجموعة من الحكماء ( سمت نفوسهم عن عبادة الأوثان ولم يجنحوا إلى اليهودية أو النصرانية وإنما قالوا بوحدانية الله ) ( د . السيد عبد العزيز سالم ، دراسات في تاريخ العرب قبل الإسلام ، ص434 ) ، كذلك تميزوا بجانب سلوكي أخلاقي راق فرفضوا الرذائل التي تفشت في مجتمعهم مثل الزنا والمخاذنة وشرب الخمر والتعامل بالربا ووأد البنات ( كان ذلك من قبائل محدودة ) ، ولم يكتفوا بنبذ عبادة الأوثان فحسب بل امتنعوا عن الذبح لها وعن أكل ما يذبح لها ، وعن أكل الميتة والدم ، وكانوا على ثقافة عالية نسبياً ذلك أن كثيراً منهم كان يقرأ كتب الديانتين الساميتين : اليهودية والمسيحية وبعضهم كان يعرف لغة أخرى غير العربية مثل العبرية والسريانية وكانوا في الغالب على درجة من اليسر المالي الذي مكنهم من السياحة في البلاد وخاصة فلسطين والشام بحثا عن دين النبي إبراهيم عليه السلام الذي يصفه القرآن الكريم أنه كان " حنيفاً " ، ولم يكتفوا بالالتزام الذاتي بل كانوا يدعون قومهم إليها مما عرض بعضهم إلى الأذى والعنت منهم " زيد بن عمرو بن نفيل العدوي " عم " عمر بن الخطاب " رضي الله عنه ( وقد كان الخطاب " أبو عمر " آذى زيدا حتى خرج إلى أعلى مكة فنزل " حراء " مقابل مكة .. وأغرى به شباب قريش وسفاءها فأخرجوه وآذوه ، كراهة أن يفسد عليهم دينهم وأن يتابعه أحد منهم على فراق ما هم عليه ) ( الشيخ أحمد فهمي ، هامش ص297 ، من كتاب الملل والنحل ، للإمام أبي الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني المتوفى عام 584هـ ، صححه وعلق عليه الشيخ أحمد فهمي ، ج3 ، ط1 ، 1949 م ، مكتبة الحسين التجارية بمصر ) .



والأحناف لم يكونوا على مشرب واحد بل كانت لهم توجهات متباينة ( لذلك فنحن لا نستطيع أن نقول إن الحنيفية فرقة تتبع ديناً بالمعنى المفهوم من الدين كدين اليهودية أو النصرانية ، لها أحكام وشرعية تستمد أحكامهم من كتب منزلة مقدسة ومن وحي نزل من السماء على نحو ما يفهم من الأديان السماوية ) ( د.جواد علي ، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام ، ص458 ) ، والقاسم المشترك الذي كان يجمعهم هو رفض عبادة الأصنام ، والبحث عن دين إبراهيم الحنيف عليه السلام ، وفي سبيل البحث عن حنيفية إبراهيم عليه السلام ، ساحوا في البلاد وقابلوا كثيراً من رجال الدين : الأحبار والرهبان والقساوسة وسألوهم عن دينهم ، وعن دين الخليل إبراهيم عليه السلام ، ونظروا في أسفارهم المقدسة . وانتماء المتحنفين متميزة وعشائر موسرة هو الذي أتاح لهم فرصة التجوال في الأرض واقتناء الكتب الدينية ، وقد نسب إلى بعضهم اعتناق ديانة المسيح عليه السلام مثل قس بن ساعدة الإيادي ، وعثمان بن الحارث ( أو الحويرث ) القرشي ، ولكن غالبية الباحثين تؤكد أن المتحنفين رغم عدم تماثلهم في الرأي أو المنعقد رفضوا كلا من اليهودية والمسيحية . أما نبذهم للأولى فهو واضح لا يحتاج إلى شرح إذا أنها ديانة منغلقة وليست تبشيرية نشطة وكان هم أتباعها منحصراً في الأنشطة المالية والتجارية ، أما عدم إقبالهم على الأخرى وإعراضهم عنها فله دواع كثيرة ، منها أن المسيحية ملة معقدة مليئة بالأسرار ولا تتناسب مع العقلية العربية الساذجة البسيطة ، ومنها أنها ديانة الإمبراطورية الرومانية البيزنطية التي حاولت فرض سيطرتها على الجزيرة العربية ، بل أن القيصر عندما تنصر عثمان بن الحويرث أرسله إلى مكة ليصير ملكاً عليها ـ ومن ثم تكون تابعة له شأنها في ذلك شأن طويلة الغساسنة ولكن القرشيين رفضوه بل يقال في إحدى الروايات أنهم قتلوه وقالوا كلمتهم المشهورة :

إن قريشاً لقاح لا تملـَك ولا تـُملـَك ، هذا بالإضافة إلى زيادة الشعور القومي لديهم وهذا لا يتحقق باتباع ديانة غيرهم ، بل حتم عليهم أن يختصوا هم أنفسهم بدين مستقل ، ومن هنا جاء بحثهم الدؤوب عن " الحنيفية " دين الخليل إبراهيم عليه السلام ، الذي كانوا يعتقدون في قرارة أنفسهم أنه جدهم الأعلى . ويضيف أحد الباحثين في نطاق مجانبتهم لدين المسيح عليه السلام أن النصرانية كانت ( غير متأهبة لتلبية حاجات التطور الاقتصادي والاجتماعي في جزيرة العرب في فترة الجاهلية لما تتسم به من السكينة والخنوع والمطالبة بالخضوع ) ( برهان الدين دلو ، جزيرة العرب قبل الإسلام ، ص240 ) ، وفي رأينا أن هذا سبب غير مقنع ، لأن المسيحية لو كانت كذلك لما قدر لها الانتشار بين ربوع شطري الامبراطورية الرومانية ، كما أن مجتمعها لم يكن خامداً ، بل كان أكثر ديناميكية من مجتمع الجزيرة قبل الإسلام ، ومشهور عن الرومان إقبالهم على الحياة والعب من لذائذها .

********

ضمت حركة " الحنيفية " شخصيات تميزت بالسمو العقلي والأخلاقي أو بالحنكة السياسية أو الثقافية العالية نسبياً ، ولما كان الشعراء يمثلون في مجتمع ما قبل البعثة المحمدية " الفئة المثقفة " لذا كان عدد كبار الشعراء آنذاك من الأحناف منهم : " أمية بن أبي الصلت " ، وزهير بن أبي سلمى " و "النابغة الذبياني " و " عامر بن الظرب " ، ولهم قصائد في الإيمان بوحدانية الله والبعث والنشور والحساب ، وفي الناحية السلوكية الأخلاقية : الترفع عن الدنايا وتحريم شرب الخمر . ويرى د. جواد علي أن في أكثر ما نسب إلى أمية أبن أبي الصلت ( من آراء ومعتقدات دينية ووصف ليوم القيامة والجنة والنار تشابه كبير وتطابق في الرأي جملة وتفصيلاً لما ورد عنها في القرآن الكريم ، بل ونجد في شعر أمية استخداماً لألفاظ وتراكيب واردة في كتاب الله وفي الحديث النبوي ) ( د.جواد علي ، المفصل في تاريخ الإسلام ، ج6 ، ص490 ) .



ومما يلفت النظر أن قبيلة قريش ضمت عدداً من " الأحناف " ، ويؤكد بعض الإخباريين أن الحنيفية بدأت فيها مبكرة مع " قصي " الجد الأعلى لمحمد ( ص ) مؤسس دولة قريش في يثرب . يقول " الشهرستاني " عنه 0 وكان قصي بن كلاب ينهى عن عبادة غير الله تعالى من الأصنام وهو القائل :



أرباً واحداً أم ألف رب أدين إذا تقسمت الأمور

تركت اللات والعزى جميعاً كذلك يفعل الرجل البصير



وقيل هي لزيد بن عمرو بن نفيل ) ( الشهرستاني ، الملل والنحل ، ج3 ، ص332/333) ، وفي رأينا أنه لا مانع أن يكون قصي بن كلاب هو الذي أنشأ هذا الشعر ثم ردده من بعده زيد بن عمرو بن نفيل خاصة وأنهما من قبيلة واحدة ، والتمثل بمقولات الأجداد أمر طبيعي خاصة في مثل المجتمع الأمي " غير الكتابي " الذي كان يعتمد على الذاكرة في حفظ السلف ، ويصف الشيخ أحمد فهمي وهو محقق كتاب " الملل والنحل" قصيا بأنه ( عالم قريش وأقومها للحق وكان يجمع قومه يوم العروبة ، ويذكرهم بتعظيم الحرم ويخبرهم بأنه سيبعث فيه نبي ، وكان ينهي عن عبادة الأصنام ) ( الشيخ أحمد فهمي علي ، هامش الملل والنحل ، ص331 ، 332 ) ، ثم جاء عبد المطلب الجد المباشر للنبي محمد ( ص ) ويكاد يجمع الإخباريين على أنه من المتحنفين وقد فصلنا القول فيه في المبحث الخاص به ، ويطلق عليه الدكتور سيد القمني لقب " أستاذ الحنيفية وزعيمها " ( د.سيد القمني ، الحزب الهاشمي وتأسيس الدولة الإسلامية ) .



وهناك رأي أن محمداً ( ص ) مؤسس دولة القرشيين في يثرب كان قبل تبليغه رسالة الإسلام من " الأحناف " ( ... يمكن الاستنتاج من رواية السهيلي إذا صحت أن الرسول ( ص ) في حياته الاولى ونشاطه الديني كان حنيفياً وعلى صلة بـ " مسيلمة الكذاب " وغيره من الأحناف ) ( برهان الدين دلو ـجزيرة العرب قبل الإسلام ، ص224 ) ولعل مما يؤيده ما جاء في دواوين السنة النبوية : أنه عندما عرض عليه عمرو بن الخطاب رضي الله عنه أنه يقرأ أشياء في التوراة مع ما جاء به الرسول غضب الرسول ( ص ) وقال : امتهوكون يا ابن الخطاب والله لقد جئتكم بـ " الحنيفية " السمحة ، ولو كان موسى بن عمران حيا ما وسعه إلا أتباعي ، ولما ورد في مصحف عبد الله بن مسعود رضي الله عنه " إن الدين عند الله الحنيفية " بدلاً من " أن الدين عند الله الإسلام " الآية 19 من سورة آل عمران ( أبو بكر عبد الله بن داود بن الاشعث السجستاني ، كتاب المصاحف ، هامش الصفحة 70 ، 1985م ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، لبنان) ، وكذلك لما ورد في سيرة محمد ( ص ) من ترفع عن الدنايا والاتصاف بالأخلاق الحميدة والنفور من عبادة الأصنام ، والاعتكاف في غار " حراء " لـ " التحنث " في شهر رمضان ، و " حراء " هو الغار نفسه الذي كان يلجأ إليه " المتحنف " المجمع على تحنفه : زيد بن عمرو بن نفيل العدوي ، و " التحنث " في شهر رمضان في غار حراء هو ما كان يفعله الجد المباشر عبد المطلب وزعيم الحنيفية . ولو أننا نرى مانعاً من أنه اختلط بـ " الصابئة " الذين كانوا موجودين في مكة خاصة والحجاز عامة واطلع على عقائدهم وطقوسهم العبادية التي ظهرت بصماتها جلية بعد ذلك ( مبحث الصابئة ) . كما أن إجماع قريش والعرب على تلقيبه ( الصابئ ) أمر له دراسته . أما التعليل الذي أورده الإخباريين والمفسرون واللغويون من أن ذلك مرجعه هو خروجه عن دين قومه فهو غير كاف ذلك أنهم لم يلقبوا زيد بن عمر بن نفيل أو ورقة بن نوفل أو غيرهما بـ الصابئ " !!!



ولم يقتصر أمر الحنيفية في قبيلة قريش على هؤلاء بل كان منها :

" ورقة بن نوفل " أحد بني عمومة السيدة خديجة رضي الله عنها أولى زوجات محمد ( ص ) ، و " عثمان بن الحويرث " الذي سبق أن ذكرنا محاولة قيصر الروم تنصيبه ملكاً على مكة ورفض ذلك ، و " زيد بن عمرو بن نفيل " وهو من أشهر المتحنفين وقد أوردنا خبر معاملة الخطاب أبي عمر له بعد إعلان تحنفه .



وبذلك يجيء محصول قريش من الحنيفية والأحناف وفيراً بالنسبة لغيرها من القبائل ، ولعل سكانها في مكة العاصمة الدينية الهامة وملتقى القوافل المحلية والعالمية بما يحمله تجارها من أفكار ومبادئ وعقائد بجانب ما يحملونه من عروض التجارة وثراء كبرائها مما أتاح لبعضهم السفر إلى الخارج والاختلاط بالشعوب الأخرى ولقاء عدد من رجال الدين ، بالإضافة إلى رياح التغيير اجتماعياً واقتصادياً وثقافياً التي أدت إلى ذلك ، تكون حظوة قريش بهذا العدد من " المتحنفين " دون غيرها من قبائل الجزيرة أمراً كانت تحتمه طبائع الأمور في تلك الحقبة ، ونحن في وجهة نظرنا هذه نختلف مه برهان الدين دلو في ( ... أما في مكة التي كانت حصناً للشرك وغالبية أهلها من المشركين ، فإن " الحنيفية " لم تنتشر انتشاراً واسعاً ، لأن الشعائر الدينية كانت هناك منظمة تنظيماً حسناً ) ( برهان الدين دلو ، جزيرة العرب قبل الإسلام ، ج2 ، ص243 ) ، فالأسباب التي ساقها لا تؤدي إلى تدعيم رأيه بل تنقضه : فكون مكة حصناً للشرك وموئلاً للمشركين ، وأن غالبية أهلها منهم ، وأن العبادة الأصنامية الاوثانية نظمت فيها تنظيماً جيداً ، كل هذا ادعى لتنامي حركة مضادة لدى أقلية تنادي بعبثية التعبد لغير الله تعالى ، خاصة وأن المجتمع المكي كان يضم صفوة من العقلاء والحكماء والمتنورين لأن قريشاً امتازت عن غيرها من القبائل الأخرى بالذكاء والفطانة واللسن ، يضاف إليه أن مكة بحكم مركزها الديني المرموق وموقعها التجاري الهام كانت نقطة لقاء بين أصحاب العقائد والملل كافة مما جعل نخبة المجتمع القرشي تطلع عليها وتنفعل بها ، وسبق أن قلنا أن " الأحناف " كانوا على بينة من مبادئ الأديان والنحل الأخرى وكتبها المقدسة ، والأخطر من ذلك أن المجتمع المكي كان شأنه شأن سائر مجتمعات الجزيرة العربية خاصة في المراكز الدينية ـ في حالة تطور وتمور بالحركة والنمو ، وكانت العلاقات القبلية التقليدية وروابط النسب قد أخذت تميل إلى التفكك من أثر المستجدات الاقتصادية ، كما كان المبحث يؤرق نفوس الصفوة للعثور على عقيدة توحد وتجمع وتؤلف القبائل المتفرقة المتنافرة . تلك كانت الدوافع التي دفعت " الحنيفية " إلى النمو والتحول من " ظاهرة " إلى " حركة " تستجيب إلى مقتضيات الواقع ومسيرة التاريخ ، فكيف يقال بعد ذلك كله أن " الحنيفية " لم تكن منتشرة في مكة ؟؟؟ .



لقد خلط الباحث بين أمرين على تباين ظاهر بينهما : أولهما : انتشار " الحنيفية " وثانيهما : محاربتها من قبل التجار والمرابين الذين كانوا يجنون الأرباح الطائلة من عبادة الأوثان ، حقيقة أن كبار القرشيين وطواغيتها حاربوا " الأحناف " واشتدوا عليهم في الإيذاء لدرجة النفي كما فعلوا مع زيد بن عمرو بن نفيل العدوي ، حفظاً على الوثنية ، لا حباً لها في ذاتها ، وإنما لما توفره لهم من أرباح جمة ـ ولكن العداء لـ " الحنيفية " لا يدل على ندرة معتنقيها أو حتى قلتهم بل على العكس ، فإن الإمعان في تعذيبهم قرينة واضحة على تمكن " الحنيفية " بين عدد من متنوري قريش .



يخرج عن نطاق بحثنا في " الحنيفية " الكشف عن مكان نشأتها ونقطة انطلاقها ، فسواء في " اليمن " باعتبارها ديانة توحيد ( ثم امتد دين الوحدانية المجردة ، كما امتد التوحيد المتجسد إلى قلب الجزيرة العربية لتواصل المسيرة ، مسيرة خلق الدولة المركزية الموحدة لعموم المنطقة العربية ) ( ثريا منقوش ، التوحيد في تطوره التاريخي ـ التوحيد يمان ، ص160 ، ط2 ، 1981 م ، دار ازال ، بيروت ) ويميل إلى هذا الرأي عز الدين كشار مستدلا على ذلك بكثرة " الحنفاء اليماننين " من أمثال ( قس بن ساعدة ـ الإيادي وأرباب بن رئاب وأسعد أبو يكرب الحميري ، ووكيع بن سلمة بن زهرة الإيادي ..

وسيف بن ذي يزن ، وخالد بن سنان بن غيث العبسي وعبد الله القضاعي وعلاف بن شهاب التميمي . وقيس بن عاصم بن تميم ، وعفيف بن معدي كرب من كندة .. وغيرهم من الأسماء التي يبدو أنها يمنية الأصل ، كذلك ما هو معروف من أن أهل الجنوب قد عرفوا التوحيد ولو بصورة أولية قبل عرب الشمال ، ومن آلهتهم التي تذكر في هذا الشأن ذو سموي والمقة التي يرجح بعض الباحثين أن اسم " مكة " هو تحوير لها .



أو أن الحنيفية ( نشأت في اليمامة وهي إحدى المناطق المتحضرة والمتقدمة نسبياً في الميادين الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وانتشرت في غربي الجزيرة العربية ) ( برهان الدين دلو ، المرجع السابق، ص243 ) نقول سواء كان هذا أم ذلك فأن الثابت تاريخياً أنها كانت منتشرة في أنحاء عديدة من جزيرة العرب ولو أننا نؤيد الباحثين اليمانيين في أن بدايتها كانت في اليمن . إنما الذي يهمنا أن نفرق بين أمرين ذكرناهما هما : نشوء " الحنيفية " كظاهرة دينية أو عقائدية وبين اشتداد عودها بعد ذلك وتحولها إلى حركة لها حضورها المتميز الذي ترك آثاره العميقة في الفكر الديني الذي تلاها في الجزيرة العربية .



ليس صحيحاً على الإطلاق ما يذهب إليه د . السيد عبد العزيز سالم عندما ذكر ( ظهرت قبيل الإسلام حركة جديدة أصحابها جماعة من العرب ، سمت نفوسهم عن عبادة الأصنام ... الخ ) ( د.السيد عبد العزيز سالم ، دراسات في تاريخ العرب قبل الإسلام ، ص435 ) وليس د. سالم هو الوحيد الذي قرر ذلك بل سبقه ولحقه كثير .



أن " الحنيفية " لم تظهر قبيل الإسلام بل كانت أقدم من ذلك بكثير ، بدليل أن كعب بن لؤي بن غالب " وهو أحد أجداد محمد ( ص ) البعيدين عده كثير من الباحثين في زمرة " الأحناف " منهم د/ السيد عبد العزيز سالم نفسه ( كعب بن لؤي أحد أجداد الرسول كان متحنفاً ( المرجع السابق ، ص438 ) وهذا الخبر في ذاته يؤيد وجهة نظرنا عن انتشار " الحنيفية " في قبيلة قريش ثم ما ثبت من أن " قصياً " كان من الأحناف ، وقصي بينه وبين ظهور الإسلام ما يقرب من مائتي عام ، وهذه مدة لا يمكن أن يقال بصددها " قبيل الإسلام " ، فإذا أضفنا إلى ذلك أنه بين " كعب " و " قصي " جدان هما " مرة " و " كلاب " ومع الافتراض بأن بين كل جيل والذي يليه أربعين عاماً تقدير " ابن خلدون " في المقدمة أضفنا لذلك ثمانين عاما كان معنى ذلك ببساطة أن بين " حنيفية كعب " والبعثة المحمدية ما يقرب من ثلاثة قرون فكيف يجوز للدكتور سيد سالم ومن لف لفه أن يصفها بأنها " قبيل الإسلام " !!!



" الحنيفية " إذن كانت قديمة نسبياً ، وكان وجودها الغالب في المراكز الحضرية أو المدينية مثل اليمن واليمامة ومنها ثمامة بم كبير بن حبيب الحنفي المشهور بـ " رحمان اليمامة " ثم أطلق عليه محمد ( ص ) لقب " مسيلمة الكذاب " والطائف ( ومنها أمية بن أبي الصلت ) ويثرب ( ومنها أبو قيس صرمة بن أبي أنس من بني النجار ، وأبو عامر بن عبد عمر بن صيفي وكان قومه يسمونه " الراهب " ولما عادى محمداً ( ص ) أمر المسلمين أن يسموه " الفاسق " ثم تحولت من " ظاهرة " إلى " حركة " إذ تضافرت الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية والعقائدية على نمو عودها فاستوائه فاشتداده ، وكان من الطبيعي أن يتم بصورة واضحة في المدن ، وأن يعتنقها عدد من المستنيرين من أبنائها ، ولكن لماذا المدن بالذات ؟



لأن المتغيرات التي لحق بمجتمعاتنا كانت أكثر سرعة من مجتمعات البدو والريف معاً ، لم يكن الهدف " الحنيفية " شن الحرب على الرذائل الاجتماعية والأدواء أو المنكرات السلوكية الخلقية فحسب ، بل نبذ عبادة الأصنام والدعوة إلى عبادة إله واحد ، تأثراً بالديانتين التوحيديتين اللتين عرفهما عرب الجزيرة وهما : اليهودية والنصرانية ، ولأن عبادة الأصنام كانت من عوامل الفرقة بين القبائل إذ كان لكل قبيلة أو مجموعة قبائل صنم تعبده وتذبح له وتنتظر منه النفع وكشف الضر وتستشيره عن طريق القداح في حالة السفر والحروب … الخ والدعوة إلى عبادة إله واحد مدعاة إلى التوحيد المادي ، هذا بالإضافة إلى العوامل الأخرى التي ساهمت في عملية التوحيد ، ومن ثم يصح القول بأن " الحنيفية " قد ( واكبت تطور المجتمع المكي وحاجاته وتطورت معه إلى أن دخلت معه مرحلة جديدة هي التي مهدت لظهور الإسلام ) ( بلياييف ، العرب والإسلام والخلافة ، ص143 ، نقلا عن برهان الدين دلو ، مرجع سابق ) .



لم يكن تحول الحنيفية إلى حركة قاصراً على اعتناق عدد كبير من المتنورين العرب إياها ، بل في البصمات العميقة الغور التي تركتها على الفكر الديني الخالف لها في جزيرة العرب .

فبادئ ذي بدء كان " للحنيفية " الفضل في نشر العقيدة وتجذرها واستهجان عبادة الأوثان والسخرية منها ومن عبادها والكشف عن زيف ما كانوا ينسبونه إليها من قدرات وتهيئة الأذهان إلى الإيمان بالبعث والنشور والحساب والجنة والنار ..الخ .



أما في نطاق التعبديات والسلوكيات والأخلاقيات فقد تركت من ورائها سنناً ترسخت ، منها (تحريم الربا ، تحريم شرب الخمر وحد شاربها ، تحريم الزنا ، وحد مرتكبيه ، الاعتكاف في غار " حراء " في شهر رمضان والإكثار من عمل البر وإطعام المساكين والفقراء .. وقطع يد السارق ، تحريم أكل الميتة والدم والخنزير .. والنهي عن وأد البنات وتحمل تكاليف تربيتهن .. والصوم والاختتان والغسل من الجنابة ) ( خليل عبد الكريم ، الجذور التاريخية للشريعة الإسلامية ، ص25 و26 ، ط1 ، 1990 م ، دار سينا للنشر ) .



وإذا كانت الحنيفية كما قلنا في مفتتح المبحث هي إرهاص لـ " الإسلام " ، وإذ أن الدين منذ عهد الجد عبد المطلب قد ظاهر الدولة القرشية وساندها ودعمها فإنها بذلك قد شكلت بلا ريب إحدى المقدمات الهامة لتلك الدولة التي أقامها الحفيد محمد عليه السلام في يثرب .



يتبع..الباب الثالث: المقدمات السياسية
11-16-2007, 11:41 PM
زيارة موقع العضو عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}


الردود في هذا الموضوع
النزعات المادية في الفلسفة الاسلامية، لحسين مروة - بواسطة طريف سردست - 11-16-2007, 11:41 PM

المواضيع المحتمل أن تكون متشابهة…
الموضوع الكاتب الردود المشاهدات آخر رد
  العدد الجديد من مجلة أوراق فلسفية عن الفلسفة والثورة كريم الصياد 2 1,844 11-20-2012, 04:53 AM
آخر رد: كريم الصياد
  كُتب في الفلسفة والمنطق بصيغة exe فارس اللواء 3 1,857 04-27-2012, 07:06 PM
آخر رد: فارس اللواء
  نشأة الفلسفة العلمية ريشنباخ،ترجمة فؤاد زكريا pinno 1 2,337 10-21-2011, 02:23 AM
آخر رد: yasser_x
Wink حقيقة الحضارة الاسلامية، لفضيلة الشيخ ناصر بن حمد الفهد طريف سردست 4 3,008 09-27-2011, 03:19 PM
آخر رد: طريف سردست
  الجمهوريات الاسلامية بآسيا الوسطى منذ الفتح وحتى اليوم.بحجم 1 ميجا من اصل 37 ميجا ali alik 0 1,023 05-21-2010, 08:18 PM
آخر رد: ali alik

الانتقال السريع للمنتدى:


يتصفح هذا الموضوع من الأعضاء الان: بالاضافة الى ( 1 ) زائر
{myadvertisements[zone_2]}
إتصل بنا | نادي الفكر العربي | العودة للأعلى | | الوضع البسيط (الأرشيف) | خلاصات التغذية RSS