حتى وقت قصير (ربما لا يتجاوز العقد من الزمان) كان تواجد الفكر اللاديني مقتصرا على الجامعات والدوائر الأكاديمية الضيقة. ولم تكن هذه النظرة للكون والوجود (المنكرة للأديان أو بالنسبة للإلحاد الخالية من الإيمان بإله خالق) منتشرة خارج ذلك النطاق الضيق، بحيث لم تكن أبدا مصدر إزعاج للمؤسسة الدينية بمختلف أشكالها.

منذ ظهور التقدم التكنولجي الهائل، الذي برزت الانترنت كأهم أحد تمضهراته، أصبحت الأفكار قادرة على الانتشار بدون القيود التي كانت تكبلها سابقا، وأعني بالخصوص قيود الكتب والوسائل الاعلامية السمعية البصرية. فبينما كانت تلك الوسائل تخضع حصريا للدوائر الرسمية السياسية والدينية، تقف الانترنت كوسيلة نشر للفكر والمعلومة بدون الحاجة للعبور من خلال تلك المرشحات الخانقة.

هذه الحقيقة مهدت لانتشار أفكار كانت في السابق حبيسة بعض العقول والبحوث الخاصة، وغير قادرة على تجاوز العوائق المادية (الكتب ووسائل الانتشار الأخرى). بل وبفضل المنتديات والمدونات أصبحت الأفكار أكثر قدرة على التفاعل فيما بينها والانتشار لعدد مهول من القراء.

الفكر اللاديني، في العالم العربي، كان موجودا وإن كان باحتشام وحذر، لكن الثورة المعلوماتية سمحت له بدخول البيوت بدون الحاجة لكتب وجامعات وحلقات نقاشات أكاديمية.

لا يمكن لأحد اليوم أن يتعامى عن الانتشار الكبير الذي يشهده الفكر اللاديني بين صفوف القراء العرب خصوصا ممن تمكنوا من الولوج لعالم الانترنت. فمن منتدى لمدونة لموقع خاص أصبح الإلحاد، في نسخته العربية على الأقل، وكأنه موضة طاغية يتلقفها المراهق والشاب والكهل على حد السواء.

وبغض النظر عن المستوى الثقافي والعلمي الحقيقي للعديد منهم فتحولهم من الدينية للادينية هو تعبير أولا وقبل كل شيء عن الأزمة التي يعيشها العقل الديني. فسرعة التغير الفكري للخارجين عن السلطة الإيمانية (حتى وإن استلزم التغيير أشهرا من التفكير والشك والقلق) تدل على أن هناك استعداد مسبق منهم للخروج عن عالم الدين الذي يعيشون فيه. وتدل في نفس الوقت على هشاشة الفكر الديني نفسه. فقد كان تعرض الكثير من القراء العرب لمواقع لادينية مختلفة كافيا لتأكيد بذرة الشك التي كانت داخلهم وكافية لهم للتخلص من إرث السنوات الطويلة من الايمان الديني. بل وبالبعض منهم إرتد في حركة دائرية للتنكيل بفكره القديم واتهامه بشتى أنواع التهم.

طبعا تلك الحالة المبدئية ليست الإلحاد الحقيقي المبني ليس على فكرة نكران الإله أو حتى اللادينية، بل هي فقط ردة فعل على المنظومة الدينية في كليتها. أي هي تعبير عن أزمة يعيشها العقل الديني أكثر منها تعبير عن إحتفاء بالتحول لمنضومة فكرية كاملة.

المدونات الرافضة للفكر الديني بمختلف أنواعها تتوالد بنسبة لا يمكن تجاهلها. ويكفي أن تدخل على واحدة منها لكي تحيلك على العشرات غيرها. المنتديات التي تخصص بين أقسامها حوارا لادينيا أيضا أصبحت موضة سائدة. بل حتى وإن لم يكن يوجد صراحة قسم خاص بذلك فالمحاورين اللادينين يعرضون أفكارهم هناك بكل وضوح وجرأة. المواقع الشخصية للهواة التي تسب وتنقد ليلا نهارا الفكر الديني وما تعتبره آثاره السلبية على المجتمعات أيضا في تكاثر مستمر.

إن كل ذلك لا يعني كما قلت انتصارا للإلحاد بقدر ما هو بداية انتكاسة للفكر الديني. فرغم أن أغلبية الملحدين ممن قرأت لهم شخصيا على درجة مقبولة إن لم تكن عالية من الثقافة والاطلاع (خصوصا بالمقارنة مع الملايين من جيوش المؤمنين) إلا أن ذلك لا يعني أن جميعهم توصلوا للالحاد بعد قراءات غزيرة في شتى المجالات العلمية والفلسفية والتارخية، الخ.

لكن في نفس الوقت أرى ببعض من التفاءل أن الكثير من اللادينيين خصوصا ممن لم يتجاوزا الثلاثين من العمر مثلي (إن هم واصلوا مشوار الاطلاع والبحث) هم مشروع طموح لمثقفين جامعيي الإطلاع والمعرفة والثقافة. مما يعني أن لادينيي اليوم من الجيل الشاب في العالم العربي ربما سيكونون البادئين بتأسيس نهظة فكرية بأسس معرفية لم يسبقها إليهم غيرهم من المحدثين والمجددين والمصلحين. فالثورة المعلوماتية تسمح بتواصل الأفكار على مستوى زمني حيني ولم يعد الكتاب هو أساس تلاقح الأفكار وانتشارها.

على المستوى المقابل برزت منتديات ومواقع ومدونات للرد على الموجة اللادينية. لكن الشكل والمضمون اللذان اتخذتهما تلك المواقع لا يدلان إلا على أنها ردة فعل لا أكثر ولم تصل حقا لمستوى الفعل. فمجال الحرية التي تسمح به تلك المواقع وسياسة المراقبة وحتى طبيعة الحوارات شكلا (اللغة وأسلوب الحوار) ومضمونا (المواضيع المدرجة) التي يستعملها المشرفين والأعضاء تدل على أن تلك المواقع هي أساسا تعمل بأسلوب ردة فعل غريزية لا أكثر ولا تزال تخشى من تأثير هذا المقال أو ذلك الموضوع في القراء. والعصبية الواضحة التي يتم الرد بها على الأفكار التي ينشرها اللادينيون ويناقشونها هنا وهناك تدل أيضا على خوف كبير من انتشار لاديني على مستوى شامل.

مثلما عرفت السنوات البسيطة الماضية إنتشار الفكر اللاديني بفضل الوسائل التكنولوجية الحديثة للاتصال فالسنوات القادمة ستشهد تواصل هذه الانتشار على نطاق أوسع وسيمتد لوسائل أخرى أتوقع منها الإذاعة والتلفزيون (الفضائيات). كما لا شك أن الصدمة التي ستحدث نتيجة تعرض الشعوب الاسلامية بالخصوص للفكر اللاديني سيؤدي لمواقف وأحداث تراجيدية سوى كان على المستوى الاجتماعي الضيق (جرائم شرف ديني) أو على المستوى السياسي العام (اغتيالات لشخصيات سياسية وفكرية). وفي النهاية سيكون المخاض صعبا للغاية على الطرفين: الفكر الديني والفكر اللاديني. وأعتقد أن الرابح الأكبر سيكون العلمانية نفسها التي سوف يتنازل الاسلاميون بقبولها تحت الضغط الشعبي (بالطبع لشعب من المفروض أن يكون مختلفا عن الشعوب التي نراها اليوم تحرق الأعلام والسفارات)

هكذا تحدث فيلالثست

.

تسجيل الدخول
اسم المستخدم:
كلمة المرور:	فقدت كلمة المرور؟
	تذكرني

المواضيع المحتمل أن تكون متشابهة…
الموضوع		الكاتب	الردود	المشاهدات	آخر رد
	البوذية : الفلسفة الدينية و الدين الفلسفي	منى كريم	21	5,069	01-07-2011, 12:13 AM آخر رد: yasser_x
	الرد على إميل دوركايم ، من كتاب (الأشكال الأساسية للحياة الدينية) ..	الــورّاق	0	1,767	10-27-2010, 05:04 PM آخر رد: الــورّاق
	عندما أعلن كفري بكل الملل الدينية	الطانفي	8	2,392	04-22-2009, 10:41 PM آخر رد: العلماني
	التجارب الشخصية في الإلحاد واللادينية	ابن سوريا	87	16,583	02-19-2009, 11:34 PM آخر رد: المنسي
	إبراهيم الخليل بين الروايات الدينية والتحليل العلمي	بسام الخوري	2	1,263	10-10-2008, 03:15 PM آخر رد: محب البساطه