رسائل رئيس التحرير

فيروز بين سهرة حب ومسيرة كراهية

لم تقلل من حبنا بل عشقنا لمحمد عبد الوهاب وموسيقاه وصوته، وقفته في مطار القاهرة الدولي مستقبلاً أنور السادات عند عودته من لقاء العدو الصهيوني، وهو يرتدي ملابس عسكرية حاملاً لقب دكتور.

ولم نقلل من احترامنا لنجيب محفوظ وقراءة الكثير من رواياته ومقالاته بل والافلام السينمائية التي حملت اسمه ككاتب لها أو واضع لسيناريوهاتها.. رغم تمسكه بتأييد كل مشاريع التسوية مع العدو الصهيوني، ورغم تهجمه وكرهه لجمال عبدالناصر ومشروعه النهضوي العظيم.

ولم نقلل من احترامنا لتوفيق الحكيم وقراءة الكثير من كتبه ورواياته والافلام السينمائية التي كتب قصصها أو أخذت عن قصصه رغم تطاوله على جمال عبدالناصر، حين نشر تفاهاته في كتاب ((عودة الوعي)) في بداية حملة أنور السادات ضد جمال عبدالناصر عام 1974.

ولن يقلل من عشقنا لصوت فيروز وأغنياتها كل ما نعرفه عن حالتها النفسية وتصرفاتها العصبية ومواقفها السياسية..

فنحن نعتمد قول ماتزيني الشهير وهو يتحدث عن الفنان توسكانيني قائلاً:

((بالنسبة لتوسكانيني الفنان فإنني أرفع قبعتي وأنحني احتراماً لأعماله..

وبالنسبة لتوسكانيني الإنسان..)) ثم رفع حذاءه وانهال به على رأسه.

لقد عاش جيلنا نصف عمره حتى الآن مأخوذاً بصورتين عن لبنان.

صورة رسمها الأخوان رحباني ومعهما فيروز لا نجد أشد تعبير عنها من الاستعراض الغنائي الجميل ((سهرة حب)) بطولة فيروز ووديع الصافي ونصري شمس الدين وغيرهم بدأت في الستينيات من القرن العشرين وما زالت حاضرة في أذهاننا في واحدة من أجمل ذكريات الزمن الجميل.

وصورة مسيرة الكراهية والحقد التي جسدها نظام الوصاية السورية ومقدماتها على لبنان بافتعال الحرب الأهلية منذ العام 1975، وما زالت مستمرة حتى الآن رغم المراحل المختلفة التي قطعتها بين تهدئة وهدنة وانفجارات واغتيالات وإرهاب وإرعاب.

لقد بتنا في وجداننا أسرى عمر نصفه نعيشه في الحب ونصفه مفروض علينا بالكراهية.

كنا كلما استمعنا إلى صوت فيروز سواء بألحان الأخوين رحباني أو فيلمون وهبـي أو محمد عبد الوهاب أو سيد درويش.. شعرنا بدفء لا يوازي حرارته إلا دفء صدر الأم أو حتى بطنها كجنين يحتمي بالحنان ويرتوي من النبض، وقاية وإشباعاً واستباقاً لما يمكن أن تحمله سود الأيام.. ولم نتخيلها حقيقة أكثر سواداً بما يفرضه علينا سلوك عائلة الأسد في لبنان.

رافقنا هذا الشعور وأشعرنا بالحسرة مع كل سلوك همجي أو متخلف أو تصريح بذيء مقزز من أحد أركان هذه الوصاية الكريهة حتى يدفعنا إلى الغثيان وتف القيء عليه وعلى أيامه.

كانت فيروز ملاذنا.. كانت فيروز تدفعنا إلى الحسرة على أيامها.. لكننا لم نكن نتخيل ان فيروز يمكن أن تتخلى عنا وأن تصبح واحدة من مروجات الكراهية في وطننا، أو أن تنضم إلى مسيرة الحقد والكراهية لتدفعنا إلى الإمساك باسطوانة أو ((سي دي)) أو شريط سهرة حب لإتلافها.. ولن نفعل تمسكاً بالحب ورفضاً للكراهية.

أما أتفه رد على نقد ذهابها إلى وكر عائلة الأسد كي تغني لها وله، فكان أن الفن لا يعرف سياسة ولا يلتزم بها.. فماذا يسمي صاحب هذا الرد التافه قرار نظام الأسد منع بث أغنيات فنانات لبنانيات لأنهن أيدن انتفاضة الاستقلال في بلدهن ضد نظام الوصاية السورية الكريه! ألا يعني هذا القرار السوري ان استقباله لفيروز يجسد رفضها لاستقلال وطنها؟

بل ان التفاهة تكبر حين يقول صاحب هذا الرد اننا يجب أن ننتظر صدور قرار المحكمة الدولية في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري قبل أن نصدر حكمنا فيما إذا كان نظام عائلة الأسد هو الذي قتل رئيس وزراء لبنان!!

هذا التافه يدعو النظام السوري إلى قتل من تبقى من أبطال الاستقلال، وان يحتمي بالوقت الطويل حتى تصدر المحكمة الدولية حكمها، أو يدعوه أن يحتمي بطمسه كل معالم الجريمة وقتل الشهود بل وربما قتل القضاة اللبنانيين والدوليين، بل ونسف مقر المحكمة.

ستذهب فيروز إلى حضن عائلة الأسد لتغني له ولتعطيه صك براءة من جرائمه ضد وطنها وأهله اللبنانيين وتطعن مسيرتها و((سهرة الحب)) التي كانت.

فيروز عنيدة ولم تهتم يوماً برأي جمهور أو رأي عام أو إنسان.. ألم يدعها رفيق الحريري لتغني عودة الحياة إلى وسط بيروت التجاري وسط ساحة الشهداء؟ هل تذكر فيروز حين طالبها الناس أن تغني ((بحبك يا لبنان)) فعاندت ورفضت واستكبرت.. حتى إذا رضخت أخيراً لرأي عشرات الآلاف الذين دعاهم الحريري ليعيشوا لحظة العودة إلى عاصمتهم همست كرهاً بضع كلمات ثم رحلت؟

هذه هي فيروز وسواء رحلت إلى حضن عائلة الأسد أو ظلت في حضن لبنان، فإنها بإرادتها أو رغماً عنها ستظل أسيرة عطاء الحب الذي يتمسك بها جيلنا ليتمكن من مواجهة سلوكيات وصاية الكراهية التي نعيش هذه الأيام أعلى درجاتها غلواً وتطرفاً وتمدها فيروز بوقود جديد لزيادة كراهيتها.

من استشارت فيروز قبل أن تغني لعائلة الأسد!

هل استشارت ابنها الفنان السابق زياد في لحظة انقشاع الضباب الكثيف الذي يحيط به كل ليلة فأفتى لها بزيارة دمشق لتجيء كما زيارة وفد الحزب الشيوعي اللبناني (جناح خالد حدادة وسعدالله مزرعاني) إلى بشار الأسد حين كان هذا الأخير يعطي أوامره بتنفيذ تهديداته بحرق لبنان فوق رؤوس أبنائه؟

هل استشارت فيروز عقلها وحده، الذي يخاصم صوتها ومسيرتها الفنية فجاء قرارها انسجاماً مع العقل وجفاء مع الفن؟

أغلب الظن ان فيروز التي غابت عن وطنها – حتى وهي تعيش داخله – لمدة 33 سنة، فقدت ذاكرتها الوطنية، ولم تتنبه إلى عشق اللبنانيين إلى ما دعتهم إليه عشقاً للبنان الأخضر، ولم تعد تميز في الألوان بين الأخضر الذي كان عليه لبنان والأحمر والأسود اللذين يريدونهما له.. أحباء فيروز هناك.


the links from tareq al-qadah