الشك في الأديان
القارئ لتراث المعري الشعري والنثري يفاجأ بهذا التناقض الشكلي بين المعري الكافر ، الزنديق ، الملحد وبين المعري المؤمن ، التقى ، الورع .
وفى الأدب العربي القديم نفتقد بشكل كبير زمنية التأليف ويزيد من حجم المشكلة أن المخطوطة الواحدة قد تكتب في عدة سنوات ويبقى أمام الباحث التشبث بإشارات التأريخ وهذه لا تسعف الباحث أحيانا في التحديد الدقيق ، وتزداد المشكلة تعقيدا لدى المعري الذي كثرت مؤلفاته وتضخمت ، ولا يعرف زمنية تأليفه ، وعلى سبيل المثال فقد كان الظن لدى معظم الباحثين أن ديوان سقط الزند هو أول ديوان ألفه المعري في حياة الصبا ؛ إلا أننا عندما نقرأ الديوان بتمعن نفاجأ أن الديوان قد أُلف عبر حياة المعري وأن بعض قصائده يعود زمنيتها إلى أواخر عمر المعري ، وأقصد من ذلك أن أقول إن التردد أو التناقض في مواقف المعري في الكتاب الواحد لا يعطى دليلا على أن الشك كان في مرحلة زمنية معينة من حياة المعري بل يؤكد أن الشك صاحَب المعري في معظم حياته.
وينبغي قبل أن أورد أمثلة من أقوال المعري أن أركز على أن المعري يشكك أحيانا في جزئيات الأديان كنظرية لكن معظم شكه ونقده ينصب على متاجري الأديان ؛ فهاهو يردد : "ما أنا بالملحد الكفور ولا أسأل مولاي غير إلحاد"
العقل في مواجهة ما وراء العقل :
يؤمن المعري بالعقل ويتخذه نبيا ، وينادى في اللزوميات :
يرتجي الناسُ أن يقـومَ إمــامٌ ناطقٌ في الكتيبة الخرســاء
كذب الظنُّ لا إمام سوى العقل مشيرا في صبحه والمســاء
فإذا ما أطعـتــه جلب الرحمة عند المسير والإرســـاء
إنما هذه المذاهب أسبـــاب لجذب الدنيا إلى الرؤسـاء
وينادي :
ولا تصدق بما البرهان يبطله فتستفيد من التصديق تكذيبا
ويصرح بأن الحكم الأول والأخير يجب أن يكون للعقل فيقول :
جاءت أحاديثُ إن صــحتْ فإن لها شأنـا ولكن فيها ضعف إسنادِ
فشاور العقل واترك غيره هـــدرا فالعقلُ خيرُ مشيٍر ضمّه النادي
أو قوله :
في كل أمرك تقليدٌ رضيتَ به حتى مقالك ربي واحدٌ ، أحدُ
وقــد أُمرنا بفكرٍ في بدائعه وإن تفكر فيه معشر لحدوا ؟
ويردد المعري الكثير من آراء ابن الراوندي تجاه العقل فقد أورد ابن الراوندي موقفه الرافض لكل ما يخالف العقل ، يقول ابن الراوندي : " إن الرسول شهد للعقل برفعته وجلالته ، فلمَ أتى بما ينافره إن كان صادقا؟"10
ويمضى قائلا : "والعقل هو الذي يمتحن قيمة النبوة ، فإما أن تتفق تعاليم النبي مع العقل وحينئذ فلا لزوم لها ؛ وإما أنها تتناقض وإياه وحينئذ فهي باطلة"11 وعلى هذا فإن المعري يرى أن العقل هو الحكم والفيصل في الأديان وأن كل ما هو مقدس يجب أن يخضع للعقل .
العقل في مواجهة النقل :
يطرح المعري قضية الألوهية بشيء من الإنكار تارة وتارة أخرى بشكل إيماني عميق ،فالشك يبدأ لديه في مواجهة ما تناقله الفقهاء والمفسرون ولذلك يقول في اللزوميات :
قلتم لنا خالقٌ حكيم قلنا صدقتم كذا نقـولُ
زعمتموه بلا مكانٍ ولا زمانٍ ألا فقولــوا
هذا كلام له خبـئٌ معناه ليست لنا عقولُ
و يقول :
أما الإله فأمرٌ لست مدركه فاحذر لجيلك فوق الأرض إسخاطا
ويتعجب المعري لماذا لا يتألم الله لعذاب الناس :
لوانى كلب لاعترتني حمية لجروي أن يلقى كما يلقى الإنس
أو قوله : رأيت سجايا الناس فيها تظالم ولا ريب في عدل الذي خلق الظلما
وأن هنالك تناقضا في الأحكام فيخاطب الله قائلا :
أنهيتَ عن قتل النفوس تعمدا وبعثت أنت لقبضها ملكين؟
وزعمت أن لنا معــادا ثانيا ما كان أغناها عن الحالين12
ويخاطب الله متسائلا :
إن كان لا يحظى برزقك عاقــل وترزق مجنونا وترزق أحمقا
فلا ذنب يارب السماء على امرئ رأى من ما يشتهي فتزندقا
لكن الشك لديه يجعله مترددا بين الإيمان والكفر ولذا نفاجأ عندما نراه يردد:
سأعبد الله لا أرجو مثوبته لكن تعبد إعظام وإجلال
وعندما ينظر المعري في بعض أحكام الفقه يجد أن هنالك أحكاما لا يقبلها العقل مثل حكم دية اليد إذا قطعت بخمسمائة دينار ذهب وإذا سرق أحد من الناس ربع دينار تقطع يده فيعترض قائلا :
تناقضٌ ما لنا إلا السكوت له وإن نعوذ بمولانا من النـار
يد بخمس مئين عسجد فُديت ما بالها قُطعت في ربع دينار
ولأنه يعيش في مرحلة الشك فإنه في شوق إلى اليقين بيد أنه هيهات:
أما اليقين فـلا يقين وإنما أقصى اجتهادي أن أظن وأحدسا
أو قوله : وقد عدم التيقن في زمان حصلنا من حجاه على التظني
بل إن المعري عندما يفكر بعقله ويصطدم مع الشافعي أو مالك فإنه لا يأبه بذلك ويرى أن من حقه أن يجتهد طالما هو قادر على التفكير
وينفر عقلي مغضبا إن تركته سدى وأتبعت الشافعي ومالكا
ويفاجئنا المعري بأن العقل ينكر الأديان السابقة:
هفت الحنيفة والنصارى ما اهتدت ويهود حارت والمجوس مضللهْ
اثنان أهل الأرض : ذو عقـل بلا ديــن وآخر ديِّن لا عقل لهْ
وينكر أن يكون آدم واحدا
وما آدم في مذهب العقل واحـد ولكنه عند القيــاس أو آدم
ويشكك المعري في تدين الناس من حوله ويرى أنه تدين متوارث
وينشأ ناشئ الفتيان منــا على ما كان عوّده أبوه
وما دام الفتى بحجى ولكن يـعلمه التدين أقربوه
مشكلتك يا عرفان هي انك قلما تذكر اسم كاتب الموضوع
(f)
د . محمد أبو الفضل بدران
http://www.ibn-rushd.org/forum/maarri.htm