http://www.cufi.org/site/PageServer
كل ديانة ولها "طالبانها"، ويظهر بأن المسيحية مصابة بهؤلاء كما هو "العالم الإسلامي" مصاب "بالإسلامويين".
ما يخفف "إحباطي" امام مجموعات من هذا النوع هو أن مجال تأثيرهم محدود وعددهم ضئيل بالنسبة لأبناء دينهم الآخرين. ومع هذا فإنني شعرت بكراهية وحنق شديدين عندما وقعت - صدفة - على موقعهم (الرابط أعلاه). بل وأحسست أنني أريد أن أبصق في وجوههم واحداً واحداً، بدءاً من "قسّهم" المؤسس حتى آخر رأس من "قطيعه". ولقد زاد شعوري هذا وتعاظم عندما بدأت بقراءة ما كتبوه عن أنفسهم.
تذكرت، والحنق ينتابني في هذا الموقع، قصة - صديق جدي وقريبه - "أبو جورج"، الذي نهب الصهاينة بيته وحقوله في "البصّة" (شمال فلسطين) بعد أن قتلوا ابنه الوحيد وأجلوه عن قريته. تذكرت أحد اقربائي وهو يروي لجدي - بعد سنين - كيف التقى، بعد ثلاثين سنة من "نكبة فلسطين" - بعجوز يبيع الخضار على عربة في أحد اسواق "صيدا" (لبنان)، وكيف عرف به"ابو جورج"، رغم الرأس المشتعل شيباً والقامة المحنية والتجاعيد التي أكلت الوجه. قال: لفت نظري هذا الكهل العجوز الذي أخذ يزن لي الخضار، فلقد كان وجهه مألوفاً لي جداً. بعد ثانية أو اثنتين أحسست بأن قلبي ينتفض: "نعم" .. قلت لنفسي: "إنه أسعد عطالله" (أبو جورج) لا محالة. شعرت بأنفاسي تتهدج والدمع يغزو مقلتيّ، ولكني تماسكت وتركت نظارتي القاتمتين تستران بريق عيني ريثما أقطع الشك باليقين.
وزن "أبو جورج" أنواع الخضار المختلفة التي اشتريتها ووضعها في كيس بلاستيكي كبير ثم نظر إلي وهو يقول: "ليرتين ونص"، قبل أن تتجمد كلماته على شفتيه. فلقد ذكّره وجهي - كما يبدو - بشيء ما، رغم النظارتين السميكتين. لم أك بحاجة للكلام، فعينا الرجل المحايدتان تسمرتا على وجهي وغدا تساؤلهما واضحاًَ. هنا رفعت نظارتي وبدأت عيني بتذراف دموعي الحبيسة. سقط كيس "الخضار" من يد "أبو جورج"، ولا أعلم كم من الوقت مضى قبل أن يدور هذا "الختيار" الستيني حول الميزان فيعانقني ويضمني إلى صدره وهو يجهش بالبكاء ويهتف بصوت متهدج: "هلا بالغالي ابن الغوالي".
قال قريبي لجدي: ترك "أبو جورج" عربته في عهدة أحد جيرانه من البائعين، وانتحى برفقتي في قهوة صغيرة بجانب السوق وأخذ يسألني، ودموعه ملء مآقيه، عما بقي من "البصة" وعن العائلات والأشخاص الذين استمروا بعد "النكبة" يسكنون في "الجليل". كان يريد أن يعرف كل صغيرة وكبيرة عنا هنا، وكنت أجيبه بما أعلمه. وتسرب الوقت وانتصبت الشمس في كبد السماء، ولم تنته أسئلة "أبو جورج" ولكن عيونه جفت وبدأ وجهه يلبس لبوساً جافاً. نظرت في عينيه فلم أعد أرى ذاك البريق الذي استقبلني به. قال بكلمات هادئة واضحة قاطعة بعد أن أطرق قليلاً: إسمع، لقد فرحت كثيراً برؤيتك وسعدت أيما سعادة بالحديث معك وبهذه الأخبار التي نقلتها لي عن "البلاد". ويشهد الله أنني لو مت هذه الليلة لما تحسرت على شيء بعد، فلقد كانت غاية حياتي هي أن أعلم ما حدث لأرض وأشخاص أحببتهم وأحبوني عمراً طويلاً قبل أن أضع رحالي بعيداً عن "وطني".
سكت قليلاً ثم تابع: أرجو ألا تؤاخذني لو لم أدعك إلى بيتي. واستسمحك العذر لو طلبت منك ألا تأتي بعد إلى هنا ولا أن تحدثني ولا أن تلقي علي السلام ولو من بعيد...... لا ... لا ..... لا تظن بأنني غاضب منك .... أبداً، أبداً .... ولكني أحبك وأحب المكان الذي أتيت منه والذي سوف تعود إليه حباً قاسياً مؤلماً جارحاً قاتلاً. طفولتي وشبابي هناك، أحلامي، ذكرياتي، ماضي الذي لا أستطيع أن أنساه هناك ... ورفات وحيدي وفلذة كبدي أيضاً هناك. ..... اسمع، أمانة أن تسلم لي على (فلان وفلان) وأن تعدني بألا تعود إلى هنا لأن رؤيتك مرة أخرى قد تقتلني.
قال قريبي لجدي: عاد "أبو جورج" إلى عربته – كما أحسب -. ولم أعد إلى مكان تواجده، ولكني سألت عنه بعض أصحابه الذين يعرفون حياته، فأكد لي أحدهم أنه لم يفقد وطنه وبيته وأرضه وابنه الوحيد فقط، ولكنه فقد في الطريق إلى صيدا" صغرى بناته" في حادث أليم لم يكن يعرف ظروفه. بعدها أصبح "أسعد عطالله" صموتاً محزوناً يمضي إلى "أكل عيشه" في الصباح ويذهب مساء إلى الكنيسة حيث يقضي وقتاً طويلاً في الصلاة أمام إيقونة تمثل عذابات السيد المسيح.
واسلموا لي
العلماني