وَعِيت ذاكرتي البصرية على بيتٍ مزيّنة جدرانه بلوحات زيتيّة، أغلبها صور طبيعية: جبال، أشجار سرو، وبيوت مزيّنة بالقرميد الخمري. كان لكل حائط في بيتنا القديم حكاية يستمدّها من اللوحة المعلّقة عليه. (صَدر الدّار) مزدان بلوحة أمٍّ تحضن طفلها. تأمّلتْ أمي اللّوحة في بيت أصدقائنا. فما كان من الصّديق الكريم وامرأته إلا أن قدّما الأيقونة هديّةً لوالديّ بعد إخبراهما أن الأيقونة تمثّل يسوع والسّيدة العذراء، وبذلك، صارت الأيقونة تحتلُّ –بحبٍ- (صدرَ الدّار).
تعلّقتُ منذ سنوات طويلة بلوحة "الطفل الباكي"، تغيّرتْ خلالها غرفتي، وتغيّر جميع أثاثها عدّة مرّات، وحدها اللوحة بَقِيَتْ مكانها، ولو لم أنقذها قبل عامين من حاوية القمامة لضاعت –بحجّة أن بقعاً من الدهان الأبيض احتلّ جزءاً منها. لوحتي الزّيتية بحجمها الصغير؛ معلقةً فوق مكتبي، لذلك لم تَرها أمي حين أتت "آمال" تطالب بها!
آمال بنتٌ ضعيفة العقل، كانت تسكن قريباً من بيتنا قبل ثلاث عشرة سنة، يدّعي أخوها الأكبر أن جِنّياً يسكن جسدها، ولن يخرج منه إلا بالعصا، لذلك كانت تهرب إلى بيتنا كلما استطاعت أن تغافل أمها وتسرق مفتاح البيت المُعلّق بخيطٍ أسود بعنقها. وفي إحدى مرّات زياراتها لنا، أعجبتْ بلوحةٍ صغيرةٍ معلّقةٍ فوق سريري، أخبرتني أنها تملك لوحةً أجمل بنفس الحجم، وطلبتْ مقايضتها.
وللحق، لست متأكّدةً إن كنت أعطيتُ آمال لوحتي القديمة عِوضاً عن لوحة "الطفل الباكي" التي صارت لوحتي، أم لا؟
فرحتُ باللوحة، إذ كنت قد رأيتها قبلاً على شاشة التلفزيون، نَمَتْ علاقتي معها سنةً بعد أخرى، لم أبحث يوماً عمّّن رسمها، ربما لشهرتها ظننتُ أنها موجودةٌ منذ الأزل. ولم أعرف إلا بالصّدفة أن خلف اللوحة حكايات بل لعنات!
قبل أيام، هربت آمال إلى بيتنا مجدداً –رغم بعد المسافة بين بيتهم الجديد وبيتنا، أخبرتْ أمي أنها أتت كي تستعيد اللوحة: "قبل 13سنة، أعطيت بسمة برواز لولد ببكي. بيكفي 13 سنة عندكم، رجعولي إياه!"
حمدتُ اللهَ، أن أمي لم تجد اللوحة رغم أنها معلّقة فوق مكتبي. فهي تصرُّ على أحقِّية آمال باللوحة، وأصِرُّ أنها "لوحتي". وفي محاولة جدّية مني بإقناع أمي بمدى تعلّقي باللوحة، أخبرتها بقصّتها:
في سنة 1980 رسم الرسّام الإسباني "جيوفاني برغولين" لوحةً بعدّة إصدارات لطفلٍ يبكي. جميع اللوحات تحمل الاسم نفسه: "الطفل الباكي" / "The Crying Boy”. في هذه اللوحات لا يصرخ الطفل، وإنما تنسكب الدموع من عينيه فوق خدّيه، ملابسه مُهترئة ومُتّسخة، ويضع حول عنقه شالاً خفيفاً لا يقي من البرد.
لاقت اللوحة بإصداراتها المتعددة –خلال خمس سنوات- رواجاً كبيراً في العالم، وفي بريطانيا تحديداً حتى حققت أعلى نسبة مبيعات مما أدّى إلى تدنّي مبيعات جميع ما يُعرض في السّوق من لوحات أخرى، وبقي هذا حال لوحة "الطفل الباكي" حتى الرابع من سبتمبر من عام 1985، حين كتبتْ صحيفة “The Sun” البريطانية عن سلسلة حرائق كان القاسم المشترك بينها؛ أنّ النيران أتت على كل شيء مكان الحريق عدا لوحة "الطفل الباكي" التي لم تكن تُصَب بأي أذى. وخلال أشهر وردتْ الصحيفة عشرات القصص قامت بنشرها بشكل متتابع عن حوادث مشابهة، حتى ظهر ما سُمّي وقتذاك بـ "لعنة الطفل الباكي"، إذ تقول الروايات، أن مَرسم "جيوفاني برغولين" قد احترق بعد أن أتم رسم اللوحات، والطّفل نفسه قد مات إثر حادث سير. وأن روحه تلبس جميع اللوحات، ولن يهدأ حتى يأتي الحريق على كل مكان تتواجد فيه اللوحة، عدا من يملكها ولا يخاف من لعنتها..!
الإعلام المُوجّه واللامنطقي، كان سبباً في خلق أسطورة من لوحة، فهل فعلت هذا لأن اللوحة حققت أعلى نسبة مبيعات على حساب ما يُعرض في السوق من لوحات؟ أم لأن الصحيفة نفسها تحقق مرابح في مبيعاتها بخلق قصص الحرائق؟
استمعت أمي إلى القصّة/الأسطورة، تمنّيتُ أنها فهمتْ تعلّقي بلوحتي، لكنها بعد صمتٍ قصير قالتْ لي: "سوف أحضر لك نفس النسخة من اللوحة وبحجم أكبر، ونعطي آمال لوحتها".