يوميات حرب شرقية.
الإثنين 15 أكتوبر/تشرين الأول
جزيرة الروضة مأوى هادئ وسط ضجة القاهرة,و فيها يقع مقر الإخوان المسلمين ضمن مبنى عادي على ضفة النيل.
و يتوجب عليك خلع حذاءك قبل الدخول و تركه قرب العتبة.
الصالة الرئيسة المغطاة بنوع من الموكيت العتيق. تستخدم كصالة للصلاة كما قيل لي, أو أنها ربما وسيلة لفرض مراسيم العادات و ثقافة الحركة على الزائر. أو أيضاً لتذكير الغربي بأن عليه أن يخلع تكبره و قناعاته مع حذائه على عتبة الباب.
أتذكر جيداً تلك الصور التي شاهدناها على شاشات التلفزة حيث نرى شيفرنادزة و الذي كان وزير خارجية روسيا للشؤون الخارجية, و كيف استقبله الخميني بجواربه فقط لا غير في مقابلة رسمية معه.
لدي موعد مع عصام العريان- رجل في الخمسينيات من عمره , أكبر مني بعدة سنوات فقط –
عصام يشغل منصب نائب رئيس نقابة الأطباء و التي تعتبر من أول النقابات التي سيطرت عليها حركة الأخوان , إذ أن نقابتي الأطباء و المهندسين أصبحت وكراً طلابياً للحركة في السبعينيات من القرن الماضي , و قد قمت بتقديم و ترجمة أحد مقالات عصام عندما كان طالباً في كلية الطب. و ذلك ضمن تحضيري لرسالة الدكتوراه منذ عشرين سنة.
إلتقينا بعدها في هولندا خلال أحد المؤتمرات, كان قد قرأ ترجمة لأحد كتبي (إنتقام الله) ,و قد عاتبني على تركيزي في الكتاب على المتطرفين وتجاهل المعتدلين مثله. و قد أخذت جيداً بملاحظته فيما بعد. و كان لملاحظته تأثيراً كبيراً لتنبيهي فيما بعد للمطالب الخاصة للطبقات الوسطى التقية , مما شكل لدي المفتاح لقراءة الحركات الإسلامية المعاصرة و تكاملها مع الشباب الفقير الحضري, أو تعارضها معهم.
بداً إستقباله لي حاراً, و شرعنا نتحدث عن السنوات التي تلت آخر لقاء لنا. لقد قضى خمس سنوات في السجن, و سألني إن كنت أراه متغيراً .
شارباه أصبحا بيضاويين تماماً .
السجين السابق سجل موقفاً لصالح إطلاق سراح سجين الرأي سعد الدين إبراهيم, الجامعي المصري/ الأمريكي, و أحد أعداء الأخوان اللدودين . و رغم أنه كان مقرباً من النظام على ما يبدو فإن سجنه كان له علاقة بإدانته للإنتخابات الأخيرة بمصر و طلبه أن تجري تحت رقابة عالمية.
رسمياً فإن إبراهيم محكوم لأسباب الإختلاس و الفساد المالي, و لكن هيئة التعاضد معه لا تصدق الصيغة الرسمية.
و من خلال موقفه فإن الطبيب الإسلامي المشاكس و المنتمي للطبقات الوسطى التقية, يكسب إحترام الديمقراطيين و العلمانيين بمصر.
عصام على علم بالنقاشات و الحوارات بين الإختصاصيين الفرنسيين و يعرف بأني بالعكس من الكثير من بعض الزملاء الجامعيين و الذين يرون بالقضية الإسلامية نوعاً من خصوصية لشعوب الجنوب و أني أنظر للأمور بشكل حيادي دون إتخاذ موقف, و هو ما لا يجعل صورتي محببة لدى الحركة.
و لكنها بالنسبة لعصام الفرصة بلا شك لينقل من خلالي بعض الرسائل الهادفة للعالم, في المجالات التي لم يعد لرفاق طريق الإسلاميين أي ثقة و مصداقية.
و عليه فلقد مرر لي بعض المنشورات للأخوان المسلمين و غيرها من المنظمات الإسلامية أو الأئمة, كالشيخ يوسف القرضاوي النجم العالمي للدعوة الإسلامية من خلال برنامجه الشهير على قناة الجزيرة : "الشريعة و الحياة".
النصوص تدين بلهجة حازمة أحداث 11 أيلول/سبتمبر, بوصفها كأعمال إرهابية تتعارض تماماً مع رسالة الإسلام.و يدينون المسئولين عن هذه الأعمال "أياً كانوا".
الإدانة الشديدة هذه ستكون حجة ببقية النص لإدانة "الإرهاب الصهيوني" في فلسطين على قدم المساواة.و الإعتراض على أي قصف أمريكي ضد الشعب الأفغاني "الشقيق".
لا يجب علينا أن نستهين بالإدانة الإسلامية الشديدة اللهجة للعمليات الإرهابية , و لو أنها لا تذكر اسم بن لادن مباشرةً و تطلب الأدلة من الإدارة الأمريكية حول المسئولين عن العمليات. فإن الحركات الإسلامية القريبة من الأخوان و التي تعتبر الناطق الرسمي عن الطبقات الوسطى التقية لا تريد أن تجد نفسها في أزمة لا تستطيع التحكم بها و ستسيء إليها قبل أي شيء آخر, وترغب أن تبعد عن نفسها أي شبهة تجعل منها هدفاً أمريكياً , و تجعل من الأنظمة الحاكمة المتهيأة لإستغلال الفرصة و الإنقضاض عليها و تحويل الوضع بالنسبة للإسلاميين بإعلانها للجهاد وضعاً عبثياً لن تستفيد منه إلا الأنظمة الحاكمة.
بين جزيرة الروضة و الجامعة الأمريكية, لا يوجد إلا بضع الكيلومترات من زحمة السير, خلال حي سكني قديم . حيث تم تأميم العديد من المباني و "فيلات العهد الإستعماري" التي كانت تنتمي للباشوات أو لإنكليز, فرنسيين, يهود. إذ تم تأميمها بعد العدوان الثلاثي على مصر في عام 1956 و تحويلها لمبانٍ حكومية . المبان اليوم تبدو وسخة و مهترئة و لكن ذلك حماها من التدمير ضمن الحمى السكنية الحالية بالقاهرة.
الجامعة الأمركية تعتبر حكراً بجدرانه العالية وموقعه على العائلات الغنية , رسوم الدخول التي تختلف بحسب المجال الدراسي و مستوى الدراسة تقترب وسطياً من 15 ألف يورو سنوياً , هذا عدا الكتب المستوردة و المعدات المدرسية , و من غير النادر رؤية الطلاب يصلون للجامعة بسيارات فارهة برفقة السائق الخاص.
في الوقت الذي يتحمل فيه زملاؤهم في الجامعة المصرية مشاق المواصلات العامة يومياً , و من الجدير بالذكر أن الإخوان كانوا قد كسبوا الكثير من طلاب الجامعات منذ خمس و عشرون سنة من خلال شبكة "ميني باصات" قاموا بإنشائها لتسهيل وصول الطلاب للجامعة , وقد ضمن لهم ذلك الكثير من الشعبية.
في الجامعة الأمريكية هناك أقلية من المحجبات و من الملتحين, حيث يطغى الجنز و الألبسة الباهظة الثمن و قصات الشعر الآتية من الغرب و التي تذكرك بدعاية ل"شامبو"[معتبر].
في منتصف الحي الجامعي يظهر مينى كبير على شكل "هنغار"معتنى به كما بقية الأبنية بالحي, يحمل لائحة مكتوب عليهاباللغة الإنكليزية "Praying Ground" .
مكان للصلاة.
طالبة كندية غير معتادة على رؤية أماكن للصلاة في الجامعة إعتقدت في البدء أن اللوحة تقول . playing Ground . صالة لعب . و مع ذلك فإنه مسجد بالفعل. و نسمع فجأة صوت الدعوة للصلاة خارجاً منه.
في أحد المقالات لطالبة في المجلة الدورية التي تصدر باللغتين العربية و الإنكليزية , القافلة/Caravan ,بأن الإسلام يتقدم في الجامعة , و أن لا تعارض بين الشكل الأمريكي الغربي للحياة و العودة لمنابع حضارية ثقافية للمجتمع الذي ننتمي إليه.
منذ فترة قامت الجامعات بمنع تدريس بعض مقولات اعتبرها الأهالي الذين يدفعون الإشتراكات "لا أخلاقية" و هكذا تم منع تدريس "ماكسيم رودينسون" و رميه لمكتبة الجامعة.
هنا بالذات بإمكاننا أن نفهم كل تناقض العلاقة مع الغرب ,و أمريكا بالذات . العائلات التي ذهبت للخليج للعمل عادت ثرية و سجلت بناتها المحجبات في الجامعة الأمريكية و أبنائها بدلاً من الجامعات المصرية الشعبية .
أمريكا تجذب تستقطب الإهتمام , هناك جاذبية قوية لأنماط الحياة الغربية لطرق الإستهلاك فيها لديمقراطيتها , و لحضارتها و لكنهم يبحثون في نفس الوقت على وضع بصمتهم في هذا الإطار المعيشي , على أن يكون لهم هويتهم الخاصة و لما لا تأثيرهم في هذه الحضارة لدى الأكثر تعبئة.
لسنا نشهد هنا كما يعتقد البعض صراعاً بين الحضارات بل محاولة لدى البعض ضمن هذه السيطرة العالمية لحضارة ما على التأثير من خلال الهوية الخاصة.
خلف الجامعة , ميدان الفلكي , مازال أحد الأسواق مكتوب عليه باللغة الفرنسية "marché de Bab el Louk"
, محلات تبيع الساتلايت(الصحون) بكل القياسات , لمشاهدة قناة الجزيرة , و أيضاً محطة ARTE
و التي يتابعها عدد لا بأس به بين المثقفين , و تبقى نافذة فريدة من نوعها على ثقافة القارة الأوروبية القديمة.
كذلك فإنها فرصة لمشاهدة القنوات الأمريكية أو محطات الجنس ال هارد التركية.
حسبما أخبروني فإن أسعار الصحون إرتفعت بشكل غير معتاد بعد أحداث ال11 أيلول/سبتمبر لا سيما لمشاهدة قناة الجزيرة . و لكني أعتقد بأنها طريقة للوصول للحرية أيضاً, و المعلومة في عالم تبقى به الأخبار حكراً على أدوات إعلامية مراقبة من قبل السلطة. الساتيلايت يسمح بالإختيار.
على بعد خطوات نجد القهوة الوحيدة الشعبية التي ما زالت تبيع البيرة "ستيلا" بعد إجتياز حائط فاصل . و في هذه القهوة نجد بعض الرجال على طاولتهم يشربون البراندي أيضاً.
المقهى يديره أقباط, يمكن التعرف عليهم من خلال الوشم على ساعدهم . طريقةلإثبات الوجود في عالم المد الإسلامي المحيط بهم و الذي يمارس عليهم ضغطاً قوياً لكي يتحولوا للإسلام : الديانة الطاغية. الكنيسة القبطية ترى بذلك خطراً على سلطتها على أتباعها.
البارحة رفضوا بإحدى القهاوي أن يقدموا لي البيرة مع أنها قهوة يرتادها الأجانب, و ذلك لأنها كانت ذكرى الإسراء و المعراج.
اسم المقهى كان "الحرية".
وزارة الخارجية تملك مبنى عظيماً على ضفة النيل مقابل القصر الذي كانت تسكنه الإمبراطورة أوجين في جزيرة الزمالك عندما جاءت لتدشين قناة السويس و أوبرا القاهرة. حيث أبدع فيردي أوبراه المشهورة "عايدة".
معالم الرأسمالية و الثقافة الغربية مزروعة بقلب العاصمة المصرية , بثمار حنونة و مرة بآن معاً.
في يومنا هذا فالقصر التاريخي بلوحاته عن نابليون الثالث و عظمته يبدو محاطاً بمباني "البيتون" الحديثة بدون أي جاذبية. صحيح أن مبنى الوزارة يحمل زهوراً مصرية , و لكنها مبنية بشكل تربيعي حديث . هذا المكان حيث يتم إستقبال الدبلوماسيين الغربيين.
منذ الأحداث الأخيرة فإن السياح لا يتدافعون هنا.
في مبنى الوزارة فإن الأسلوب و الغرف تذكرك بأن مصر ذات تقاليد عريقة في السياسة و الدبلوماسية .
في هذه الفترة المتأزمة في تاريخ المنطقة حيث تختل الميازين, فإن الدبلوماسية المصرية تحمل عبئاً كبيراً من العمل و لا سيماأحمد ماهر أحد أحفاد عائلة من الباشوات, أخوه سفير مصر بباريس و يلقى إحتراماً كبيراً هناك.
أحد أجداده كان وزيراً للملك فاروق. بمصر هناك دوماً تأثير للدولة الحاضرة دون مثيل مقابل بالمنطقة بأكملها. خصوصاً أن ثبات و قدرة دول المنطقة على إجتياز الأزمة تبدو إحدى أهم مشاغل المحافل الغربية هذه الأيام.
الوزير أحمد ماهر إختار الجامعة الأمريكية ليلقي بها خطابه موضحاً موقف بلاده من الأزمة.
كل الصحافة الأمريكية كانت حاضرة , إذ أن الولايات المتحدة الأمريكية الجريحة اليوم, تتذمر من برودة رد الفعل المصري الرسمي إزاء هذه الأحداث.
عائلة ماهر كانت قد عرفت منذ قرنين من الزمان فيلسوفاً قاد خطواتي الأولى كما غيري لفهم و التعرف على حضارة النيل, مسيحي إنجيلي و معلم للكثير منا, مسلمين أو مسيحيين , ملحدين أو مؤمنين. "موريس مارتان" .
يتبع.
مع فائق الإحترام.
ابن سوريا.
|