الشهيد ولبنان «الانتحاري»
زهير قصيباتي
عادت «الأشباح» الى لبنان. ليست للإرهاب ووبائه جنسية، من العراق الى الصومال فالجزائر، لكنّ له في لبنان سطوة الجلاد الكبير الذي يأسر وطناً منذ نحو ثلاث سنوات، ويقوده قسراً الى الانتحار.
كان رجال «يونيفيل» ينكّسون صباحاً علم الأمم المتحدة، حزناً على ضحايا التفجيرين في الجزائر، وقبل ان يكتمل الشهر الثالث على سقوط الشهيد النائب انطوان غانم، كان للجيش اللبناني نصيب بيد «الأشباح»، فالتحق العميد فرنسوا الحاج بقافلة الشهداء. لم ينسَ كثيرون ان الحلقة الجديدة من مسلسل المآسي تصفع الضمائر، تُراكِم الآلام بلا حلم أمل... لم تكن بعيدة الذكرى الثانية لاستشهاد النائب جبران تويني.
عادت «الأشباح» الى لبنان؟ هي لم تغادره اصلاً، وإن كان لرائحة الموت الجديد، مزيج من الأسى على استهداف أحد رموز الجيش، المؤسسة الوحيدة التي لم تضربها بعد انفلونزا الانقسام القاتل بين السياسيين، وفي الشارع.
يبكي اللبنانيون العميد، من دون أمل «واقعي» بأن مخاض انتخاب العماد ميشال سليمان رئيساً سينتهي بإنقاذ البلد، قبل ان يطيح بلبنان ذاك الشر المستطير الذي يأبى ان يصدق كل الأشقاء والأصدقاء، ولو أقسموا على ترك الوطن الصغير وقراره في ايدي أهله.
وإن كان بعض الأمل يشيعه، في يوم استشهاد العميد، احياء الزعيم وليد جنبلاط ثوابت «مسيرة الاستقلال ومحاربة الإرهاب وحماية المقاومة»، فالمعضلة ليست فقط في إقناع زعيم نصف الشارع المسيحي أو «غالبيته» كما يقول، العماد ميشال عون - وهي معضلة حقاً - أو إقناع زعيم حركة «أمل» رئيس المجلس النيابي نبيه بري الذي يشكو تحمل السهام من الجميع... أو حتى «حزب الله» الداعي الى الترفع عن الحسابات «الضيقة». المشكلة هي في «الأشباح»، فمن يعرفهم؟... لوقف جنون القتل في لبنان.
ما لا يختلف عليه اثنان، وسط لجّة الفتاوى الدستورية والسياسية، كل من موقع «حرصه» على تفادي نعي الوطن، ان الجيش هو آخر حصون المؤسسات التي إن زالت لن يبقى شيء لتنقسم عليه غالبيات ومعارضات، ولن يجدي احداً تقسيم أمر واقع بمناصفات أو مثالثات، قبل المرابعات، ما بعد النزع الأخير.
قبيل اغتيال العميد فرنسوا الحاج وبعده، من الزمن الباقي حتى الجلسة الأخيرة للبرلمان التي حددها الرئيس بري لعلها تطوي النزاع على شكل التعديل الدستوري لانتخاب العماد سليمان رئيساً، أي على حرمان حكومة الرئيس فؤاد السنيورة من أي دور في مرحلة يفترض انها للإنقاذ... قبل الاغتيال وبعده تحذير من خيارات «قيصرية» وحلول «انتحارية»، وأخرى «موجعة جداً» ليس فيها من الكلام المباح شيء مما فهم من رئيس الهيئة التنفيذية في حزب «القوات اللبنانية» الدكتور سمير جعجع. لكنه بالتأكيد أوحى كما فعل امس الرئيس السابق أمين الجميل، بأن الفصل الأخير من «توازن الرعب» بين الغالبية والمعارضة اقترب من نهايته، فإما تنازلات من الجميع وإما نزول الجميع الى الهاوية.
لكن ثنائية هذه المعادلة لا تنتج بذاتها حلاً، إلا اذا ارتضته المعارضة طوعاً. فالترجمة السياسية لتحذير الجميل امس لا تعني سوى ان التنازل الوحيد المرفوض لدى الشخصيات المسيحية في قوى 14 آذار، هو الانقلاب على المناصفة (بين المسلمين والمسيحيين) التي أرساها اتفاق الطائف، للتفاهم على مثالثة (سنّة وشيعة ومسيحيين) ما زالت المعارضة لا تقر علناً بما اذا كانت هدفها النهائي: مِن رفع شعار المشاركة، ومن الاعتصام، والطعن في شرعية الحكومة وقراراتها ورفض دورها في تشريع التعديل الدستوري لانتخاب العماد ميشال سليمان رئيساً.
وإن كان أحد لا ينكر ببساطة تمسك «حزب الله» بوطنية الجيش ودعوته الى الالتفاف من حوله، إثر استشهاد العميد فرنسوا الحاج، لا يمكن تجاهل ايجابية تقدير بري لموقف جنبلاط، ولا القفز فوق دلالة حديث رئيس المجلس عن «سلة المرحلة» و «متحاورين جدد».
والسؤال، على وقع جنائزي، ومشهد آخر للدموع، كم يحتمل لبنان للبحث عن هؤلاء المتحاورين؟ كل سلة مطالب مشروعة لأصحابها، كل جنازة لا تضاعف إلا خسائر الوطن، ولا تقرّب المسافات بين المتخاصمين، في الداخل.
أما إن كانت القضية في ايديهم وحدهم، فتلك مسألة لم يعد فيها نظر، خصوصاً مع التكهن بحل، إن لم يكن هذا الأسبوع فبعد أسبوعين أو شهر أو... وما الفارق ما دام للفراغ اسم وحيد؟!
*نقلا عن جريدة "الحياة" اللندنية
http://www.alarabiya.net/views/2007/12/13/42875.html