يفترض "فرويد" أنّ حاجة الإنسان للآله تتجلّى بمهام مثلّثة أوكلها الإنسان لها .. وهي :
- تعزيم قوى الطبيعة "تسخيرها للإنسان .. طرد الأرواح الشرّيرة منها"
- مصالحتنا مع قسوة الأقدار كما تتجلّى في الموت بوجه خاص
- تعويضنا عن الآلام والأوجاع والحرمانات التي تفرضها الحياة علينا ..

الحاجة للآلهة .. ولمجال غيبي يسيّر هذا الكون .. تأصّل في نفس الإنسان عبر تاريخة الطويل .. وهنا قلت مرّة أنني لا أستغرب وجود "مورّثه" تميل بالإنسان لتصديق الغيبيّات ..

هكذا نحن البشر .. تائهين "بمخاوفنا" في هذا العالم الفوضوي المرعب .. ومن حقّنا أن نتّخذ الموقف النفسي الذي يؤمن لنا راحة البال .. وربّما كان هذا الموقف في أن نستسلم لإله .. أو نجرّد أنفسنا من كلّ ما ورثناه ونسعى نحو مطلق آخر نسمّيه "الحقيقة" ..

منذ أيّام .. كنت أتحدّث مع صديقة عزيزة لي .. ذات فكر ثاقب وعقل راجح .. لعب معها الزمان لعبته فانتهت بها الأقدار في السعوديّة "مملكة الظلام" .. ومن يومها وهي تعيش حياة رتيبة مملّة ومؤلمة نفسياً لشخص بطموحاتها .. حتّى صارت لا تبالي بالحياة وصارت تنظر للعالم من حولها بعدوانيّة واضحة ..
قالت لي : مالك خبر .. !! .. صرت صلّي .. !!
سألتها مستنكراً : شو عدا ما بدا !!
فأجابت : جرّبت كلشي .. وما في شي جبلي راحة البال .. قلت أجرّب هالطريق .. !!

سكتّ حينها .. إلا إنّي شعرت أن "استنكاري" قد خبا بعد حين .. وأنني فهمت وضعها جيّداً .. فقوانين الحياة النفسية ليست بصرامة قوانين أرسطو في المنطق .. ولا يمكن تحكيمها بخيارين لا يباليا بأطياف اللون المتنوّعة .. صح .. خطأ .. فالشيء ونقيضه يعيش في كلّ لحظة في أعماقنا .. وظاهر الشعوري .. يخبّئ تحته باطن اللاشعور .. بما تحويه تلك الحياة الرحبة من أضداد لا نعيها بشعورنا ..

أنا مع أن يبحث كلّ إنسان على "إلهه" .. فلكلّ منا "إله" .. ومجرّد محاولة "البحث" و"التنقيب" .. سيغرس فينا تلك الرؤية "النسبيّة" للأمور .. ذاك التقبّل لكل الأطياف .. وذاك النوع من اللامبالاة تجاه الحياة بكلّ خياراتها .. وحينها سنكون بشراً صالحين .. فليس "الخير" بإيمان أو إلحاد .. "الخير" بأنّ نسخر من "الأصنام" التي تعلو رؤوس البشر وتغشي عيونهم .. وبألا نبالي بثقل الحياة وهمومها .. وبأن نفهم بأنّ المجد للإنسان ولفكر الإنسان .. فالسخرية بكل ما تحمله من لا مبالاة .. ملكة إلهيّة ..

وحينما ينزع كلّ "ملحد" منّا .. في أن ينزع القدسيّة من كلّ إله أو مقدّس .. ننسى أننا أنفسنا محاطين بآلاف المقدّسات الفكريّة المجرّدة أو حتّى المشخصنة التي نتناوب على عبادتها في كلّ موقف من مواقف الحياة .. وأنّ الأمور التي نبرّرها منطقياً قد تأبى أنفسنا عن الاقتراب منها .. الشذوذ حريّة ندافع عنها .. لكن لا يمكن أن نتخيّل "قضيباً" يقترب من مؤخّراتنا .. !! .. وسلطة الله مرفوضة بما فيها من إلزام .. لكننا قد نستسلم أمام سلطة الأب أو الأم وإن لم تقنعنا المبرّرات عقلياً لكنّها أججتنا عاطفياً .. !!

إذاً جميعنا نمارس فعل التقديس .. فاذهب اذاً وقدّس ما شئت .. لكن أرجوك احترم حقّي في الاختلاف .. وكن أكثر ذكاءً من أن تخشو عقلك بالترّهات .. وقدّس الله إن أردت .. تخيّله إنساناً يجلس فوق سماء سابعة .. أو تخيّله الكون بأكمله واصرخ مع "الحلّاج" : أنا الله .. أو إن أردت تخيّله قوّة غيبيّة لا جنس لها ولا شكل سمّها "المانا" .. أو طاقة بدئيّة كان فيها بداية الكون .. أو صورة "لجيفارا" علّقها على جدارك وتبارك بها كلّ يوم حينما تستيقظ .. يا أخي .. لا تكن مبالياً جداً بما هي .. ولا تقدّس "نصوصاً" تصدّ الحياة بوجهك .. بل قدّس ذواتاً وأفكار ..

كثيراً ما يسخر بعض أصدقائي الملحدين منّي .. حينما أهبّ مدافعاً عن أدبيّات "سيّد القمني" .. أو "طه حسين" .. أو "محمّد أركون" .. أو بعض أفكار "محمّد عمارة" و"الشحرور" .. فهم يجدون في هؤلاء مهما امتلكو من "عقلانيّة" تجميلاً لعباءة الدين البالية .. وأنا أجد فيهم تجربة تستحق الاحترام .. توحّداً "الدين" مع "العقلانيّة" .. وإن كان لي موقفاً وجودياً مختلفاً تماماً عن مواقفهم .. إلا إنني أستمتع بما يكتبون .. ويشاركونني النضال ضد الفكر الظلامي المنغلق .. ويعترفون بحقّي في الذهاب بأبعد مما ذهبوا .. ماذا أريد بعد !! .. أن أقتلع من فمهم اعترافاً بعدم وجود الله .. !! .. وبماذا سيفيد أو يغيّر .. !!

بالنسبة لي شخصياً .. لا أجد صعوبة في التعامل مع إلحادي "المتطرّف أحياناً" .. ربّما لأنّ تربيتي كانت بعيدة تماماً عن الدين .. وأذكر أنّ القرار الذي اتخذته للتحوّل إلى الإلحاد أثّر بي أياماً قليلة .. ثم نسيت الله .. بأسمائه التسعة والتسعين .. ووجدت نفسي إلهاً أعمل لصقله وتجميله في كلّ لحظة ..
لكنني مع ذلك .. لا أشعر بذلك الانسلاخ الفظيع عن المجتمع (حتى عندما كنت أعيش ببلدي سوريا) .. فعندي مجتمعي المصغّر الذي يحوي من أصدقائي وصديقاتي من يشاركونني الكثير من الأفكار .. عدا عن إنّي صرت أتكبّر من أن أحشر أنف غيري بمعتقداتي .. ولمّا كنت قبلاً أستسخف وداع جدّتي لي : يحفظك الله .. وأقابلها بضحكة صفراء ساخرة .. صرت أجد في هذا الوداع تأثيراً كبيراً علي .. الله هو أكثر ما تحبّ جدّتي .. وهو المطلق .. الفكر المطلق .. الحقيقة المطلقة .. العلم إن امتلك مفاتيح الحياة كلّها .. البعد الزماني للحياة .. القدر .. المصير .. الطبيعة بأصغر حبّة رمل إلى أكبر كوكب ..


تحيّة ليال .. وأتمنّى أن تنفع كلماتي .. :redrose:

خوليو