طنطاوي يا عزيزي .. فعلاً أصبت في الإشارة إلى الجزء العدواني من "الحب" .. وفي الحقيقة .. حينما سمعت أغنية "بحبّك يا حمار" لأوّل مرّة .. أذكر أنّي "صفنت" طويلاً أفكّر بهذه المباشرة في طرح هذه العدوانيّة .. وبالمناسبة هذا الجزء العدواني من "الحب" تكاد تلحظه في كلّ "أغنية" وفي كلّ "قصيدة غزل" .. لكن بأشكال أقل مباشرة .. وأكثر تورية ..
بل إنّك تجده حتى في العطف المبالغ فيه من "الزوجة" .. يتحدّث "بير داكّو" مثلاً .. عن المرأة التي توحي باهتمام شديداً بزوجها بحيث أنّها تحرص على أن تجعله يرتدي أثقل الثياب في البرد .. وتؤنّبه إن ظهرت "رقبته" من تحت "اللفّاحة" .. خوفاً عليه من "المرض" .. وقد قام "بيير داكّو" (بعد تحليل عدد كبير من هؤلاء النسوة) باستنتاج الجزء العدواني الخفي في تصرّف كهذا .. كأنّها تقول له "بشكل لا شعوري" : استتر جيّداً حتّى لا تمرض .. ضعيف أنت جداً وتحتاج إلى اهتمام كبير .. رجولتك زائفه .. إلخ إلخ ..
طبعاً يمكنك ملاحظة ردّة فعل الطفل تجاه "أبيه" أو "أمّه" حينما يبكي .. بما تحويه من عدوانيّة .. أو حتّى تصرّف البالغين منّا تجاه أي شخص نحبّه في حالات الغضب .. حيث تظهر هذه العدوانيّة جيّداً .. دون أن نحتاج للتفتيش عنها في بحر "المقاومات" ..


يرى "رايك" (تلميذ فرويد والذي انشقّ عن مدرسة فرويد فيما بعد) .. آنّ الحب هو بالأصل عبارة عن حالة من (الكره) و(الحقد) اللاواعي .. يتترجم في "الوعي" بهيئة مشاعر حنين ووله .. أي أنّه في حقيقته شعور بالدونيّة أمام تفوّق الطرف الآخر .. ورغبة في إخضاعه لإثبات التفوّق عليه .. وبالتالي فإنّ التجمّل له بالحب هو "وسيله" هذا الإخضاع والحصول على "رضى" هذا الطرف .. ويعتبر أنّ الإنسان "المغرور" الذي حقق بحياته نجاحات كبيرة يُحسد عليها .. لا يكون عاشقاً ولهاناً لأنّه لن يشعر بتلك الدونيّة .. بينما ذاك المعذّب هو أكثر حباً للأشخاص ولتفاصيل الحياة .. ومن ثمّ يعرّف "الغيرة المرضيّة" والمظاهر العدوانيّة فيها على أنّها حالة من "النكوص" وإعادة ظهور لتلك "الدونيّة" أمام الآخر .. لتعبّر عن نفسها بمظاهر أكثر عدوانيّة ..

ونرى التشابه بين "رايك" و"إدلر" .. حيث أنّ الثاني يعتبر أنّ الغزيرة الأساسيّة في الحياة هي "إرادة السيطرة" .. وبالتالي فإنّ الحب هو "وسيلة" لحصول هذه الغريزة على إشباعها ..


وفي النهاية .. ففرويد تحدّث عن الطاقتين "الجنسية" و"العدوانيّة" .. واعتبرهما مترابطان بشكل يصعب التفريق بينهما .. وتحدّث طويلاً عن "التناقض الوجداني" (الحب يخفي في داخله العدوان .. والعكس صحيح) الذي وجد أنّه من خصائص كل التجلّيات الوجدانيّة .. وأولاه من الأهميّة حتّى أنّه جعله وراء نشأة أغلب الأساطير الدينيّة .. ووضع قاعدة أنّ "كل مقدّس مكروه" .. وهي قاعدة مرعبة طبعاً .. لكنّها مسلّمة غير قابله للمناقشة (بالنسبة للمدرسة الفرويديّة) بناءً على ما "أيّدها" من نتائج التحليل النفسي للمرضى .. وتلعب دوراً كبيراً في أغلب الحالات من الأمراض العصابيّة ..
فالطفل يحبّ أباه ويكرهه .. ويحبّ كلّ من يؤمّن له الإشباع الجنسي وبذات الوقت يكرهه لحاجته له ..
هي (بالشرح العامّي المبسّط) ذات الآليّة التي تحدّث عنها "رايك" .. وذات نظريّة "إدلر" .. ولا تختلف إلا بتفاصيل تتعلّق "بمصطلحات كل مدرسة" .. وطبعاً الاختلاف يتعاظم جداً حينما يتم مناقشة الحالات المتطرّفة والمرضيّة في الموضوع .. فالغيرة عند فرويد مثلاً قد تكون "إسقاطاً" لليبيدو جنسي متعلّق بموضوع معيّن على "الشريك" .. أي أنّ الليبيدو الجنسي خاصّتي اتّجه نحو "سكرتيرتي في العمل" بشكل "لا شعوري" ولم يعبّر عن ذاته نتيجة "الكبت" .. وهنا تزداد غيرتي على "زوجتي" .. وكأني اعتبرت أنّها هي التي أحبّت غيري .. وصرت آخذ موقفاً من هذا .. وما ذلك إلا (آلية دفاعية) أكبت فيها حبّي المتّجه نحو "سكرتيرتي" لما سيرافق ذلك من حالة من تأنيب الضمير .. أي أنّ "الإسقاط" هنا هو "آليّة دفاعيّة" كالـ"كبت" تماماً ..
بينما إن قرأت أعلاه نظرة "رايك" لموضوع "الغيرة" تجده مختلفاً
"رايك" تناول موضوع الحب "كأديب" و"فيلسوف" أكثر منه كـ"طبيب" .. و"عالم" * .. وأولاه من الأهميّة بحيث فصله عن "الدافع الجنسي" ووجد فيه دوافع وغرائز أخرى .. محاولاً الهرب من "جمود" نظريّة فرويد و"ماديّتها" وخذلانها لمشاعر المرهفين .. بينما فرويد يعرّف الحب بكل بساطة على أنّه ميل جنسي مكفوف الهدف .. وقلّما يفرّق بين الحب المتّجه نحو "الحبيبة" .. والحب المتّجه نحو "كاسة الشاي" إلا بمقادير كميّة .. !!

كلّ منّا .. يشعر أنّ "حزنه" من الإنسان الذي "بحبّه" .. أقسى بألف مرّة من حزنه من إنسان لا يكنّ له تلك المحبّة .. وهنا نجد فعلاً أنّ "الغرام" .. رديف جيّد "للانتقام" ..


كتبت هذا الرد على عجالة .. إلا إنّي حاولت تبسيط أفكاره قدر المستطاع .. حتّى يتمكّن أي شخص مهما قلّ اطلاعه على نظريات التحليل النفسي من فهمه ..


هامش
* (بالمناسبة رايك ليس بطبيب .. ولفرويد كتاب كامل يدافع فيه عن حق غير الأطباء في ممارسة التحليل النفسي بعدما منعت حكومة "فيينا" ذلك .. وكان هدف هذا الكتاب هو الدفاع عن "رايك" أمام قضيّة قضائية يواجهها .. وتخيّل فيه "فرويد" يحاور قاضياً ويقدم أجوبة على أسئلته ..)

خوليو