الطوائف في القرى والمدن الصغيرة

يختلف الوضع الاجتماعي كثيراً بين من يعيش في البادية وبين من يعيش في قرية ممتهناً الزراعة و من يعيش في مدينة صغيرة ممتهناً الاعمال الحرفية البسيطة. ان الزراعة تعلم الانسان الصبر والتخطيط فالفلاح لابد له ان يعرف الوقت المناسب للزراعة ولابد له من حرص على محصوله وصبر وتخطيط وشقاء طويل حتى يصل الى النضج وبالتالي يتمكن الفلاح او الزارع من جني الغلة.

ان الدولة ومؤسساتها ظهرت حينما تعلم الانسان الزراعة وهي لم تظهر في المناطق البدوية لعدم حاجة البدو الى مؤسسات معقدة لتنظيم حياتهم، ان المزارع يدرك انه عاجز عن حماية نفسه تجاه من يحاول سرقة محصوله فهو يقضي معظم وقته في ادارة مزرعته والاهتمام بشؤونها ولاوقت له لتعلم الرماية والسباحة وركوب الخيل !

كان لابد من مؤسسات تقوم بحماية الفلاح من الاخطار الخارجية وكان لابد من مؤسسة تتولى ادخار المحصول وحمايته الى حين الحاجة اليه، وهذه المؤسسة بدورها بحاجة الى المال الكافي لكي تستطيع الصرف على اعضاءها من جنود وعمال ومخازنيين وغيرهم، وهذه النقود كان يدفعها الفلاح كضريبة من محصوله.

اذن اول ما يميز البداوة عن الحضارة هو وجود الدولة وهذه الدولة قد تختلف بتعقيدها وعدد طبقاتها من مكان الى اخر.

مملكة السماء

لقد راينا سابقاً ان الانسان حينما يفكر بنظام السماء فانه يتصورها على نحو ما يرى في مجتمعه، ومن يعيش في القرية او المدينة يعلم ان الوصول الى الحاكم او رئيس الدولة ليس بالامر السهل كما هو الحال مع زميله البدوي، فالحاكم لايعيش في خيمة غير محروسة، بل هو هناك في قصر او بيت مبني يتكاثر حوله الحجاب والحرس، ولابد للوصول الى الحاكم من وسيط بل وسطاء لكي يستطيع القروي والمدني عن طريقهم ان يصل الى الحاكم. وهو لهذا حينما يفكر في السماء فهو يتخيل وجود حجاب وجنود كما هو الحال على الارض. ان القروي يؤمن بشدة بالوساطة ومفهوم الزلفى الذي ينكره البدوي، اذ انه يرى انه لايستطيع ان يوصل صوته الى الحاكم بلا وسطاء وهو يرى الحاكم محاطاً بكل هذه الحاشية والحجاب والوسطاء والمساعدين فلابد ان تكون السماء هكذا.

في رحلة محمد المعراجية الى السماء والتي اقتبسها محمد من رحلات في اديان اخرى وخصوصاً ما ورد في المعتقد الزرادشتي، وايضاً في الكثير من الاحدايث المحمدية نستمع الى ما يسمى بالحجب فالله محتجب عن خلقه بعدة حجب وكأنه حاكم من الحكام الارضيين، وله ملائكة حجاب مثل ميكائيل واسرافيل والملائكة جنوده في السماء وهم ايضاً يتولون ادارة المملكة السماوية وادارة شؤون الارض وكتابة امور اهل السماء والارض وكأننا امام مملكة قديمة ولكنها في السماء !

مفهوم الوساطة والشفاعة

ان كل هذا لم يكن سوى معتقدات بابلية اشورية ومعتقدات فارسية انتقلت الى اليهودية اثناء فترة السبي وكما انتقلت الى مكة نفسها وآمن بها اهل مكة، كان اهل مكة يرون ان الاصنام واسطة تستخدم للتقرب الى الله زلفى، واهل القرى حتى يومنا هذا يتوجهون الى المشاهد وقبور الاولياء والائمة ليكونو الوساطة التي يستجيب بها الله الى دعائهم، انهم لايمكن ان يفهمو كلام البدوي الذي يقول ان الله لايحتاج الى واسطة، انهم يرون ان شكاواهم لاتصل الحاكم الى بواسطة فكيف يمكن انلا يحتاج الله الى واسطة؟ انه كما قلنا سابقاً: محاولة الانسان استخدام مجتمعه لتصور الملأ الاعلى.

والقروي من ناحية ثانية انسان ضعيف بخلاف زميله البدوي الذي يحمل سيفه معه دائماً ويسبق سيفه عذله، فالدولة تحتكر القوة وتمنع القروي والمدني من استخدام القوة بنفسه، والقروي يعيش بين فكي الكماشة فالدولة تريد منه ان يدفع الضرائب التي قد تكون قاسية في بعض الاحيان والطبيعة من جهة اخرى تهدده بافساد محصوله، فقد يتأخر نزول المطر او تهاجم الافات محصوله فتجعله يقلب كفيه على ما انفق فيها.

القروي والمدني ماسوخي

ان القروي في مثل هذه الحالة محتاج الى التنفيس عن كل همومه وغمومه واذ لم يستطع ان يكون مثل زميله البدوي حاملاً سيفه طالباً حقه بيده ضارباً رقاب الناس ظالماً كارهاً ان يكون مظلوماً، فانه لايجد امامه سوى الماسوخية فهو ينفس عن الظلم والهموم التي تعتريه بطريقة قد تبدو ساذجة بالنسبة للبعض، انه يؤذي نفسه ويبكي على ذاته لينفس عن همومه.

الاغاني الجنائزية

وصف احد علماء الاجتماع الفرق بين البدوي والمدني بان الاول سادي بينما الثاني ماسوخي، ولهذا القول وجاهة كبيرة، نلاحظ هذا في الاغاني البدوية والمدنية، فمن يسمع الاغاني العراقية التي كتبها اهل الجنوب نجدها كلها اغاني جنائزية او اغناي لطميات والاشعار كلها عبارة عن صدح بالالم والمعاناة التي يحسها الشاعر، بل ان كل الغناء في الشرق الاوسط وشمال افريقيا من هذا النوع فاغانينا كلها حزينة تدفع الانسان الى البكاء والنوح، ان الانسان يريد ان ينفس عن همومه ولا سبيل لذلك سوى هذا. ان اغانينا كلها مملوءة بالاهات والاخات والانات وخايب يا قلبي هذا بينما يغني البدوي بطريقته السادية: عربي انا فاخشيني !

اللطم والتطبير

تنتشر ظاهرة اللطم والتطبير في العراق واذا توخينا الدقة فانه حتى بعض المسيحيين يؤذون انفسهم بنفس الطريقة، بل حتى المسيح نفسه مشى الى صليبه مختاراً ان يتعذب حتى الموت، انها ماسوخية واضحة. اننا قد نتعجب من هذه التصرفات فنحن قد نكون ابناء بيئة مختلفة فلا نفهم غيرنا، ولكن يزول العجب حينما نعرف ان الانسان يضرب نفسه لينفس عن الالم والعذاب والداخلي، انهم لايبكي الحسين ولايلطم من اجل الحسين او المسيح، انهم يبكون انفسهم ويتألمون من اجل انفسهم، فهم يرون في قصة الحسين قصتهم هم، انهم ان كانو رجالاً تمثلو انفسهم بمكان الحسين وان كن نساءاً تمثلن انفسهن في مكان زينب فراحو يشكون سوء حالهم وفقرهم والظلم الواقع على رؤوسهم وقلة حيلتهم ولابد والحال هذا من التنفيس عما يعتريهم من غم وهم. انه موقف مبرر جداً.

يسوع يشرح الفرق

لعل افضل من عرفنا الفرق بين طبيعة الاعتقاد البدوي والقروي هو يسوع المسيحي في تعاليمه التي قارنت بين افكار موسى البدوي وافكاره هو كقروي، يقول يسوع:

"سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: عَيْنٌ بِعَيْنٍ وَسِنٌّ بِسِنٍّ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: لاَ تُقَاوِمُوا الشَّرَّ، بَلْ مَنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ الأَيْمَنِ فَحَوِّلْ لَهُ الآخَرَ أَيْضًا. وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَاصِمَكَ وَيَأْخُذَ ثَوْبَكَ فَاتْرُكْ لَهُ الرِّدَاءَ أَيْضًا. وَمَنْ سَخَّرَكَ مِيلاً وَاحِدًا فَاذْهَبْ مَعَهُ اثْنَيْنِ. مَنْ سَأَلَكَ فَأَعْطِهِ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَقْتَرِضَ مِنْكَ فَلاَ تَرُدَّهُ."

انها مقارنة واضحة ورائعة بين من يرى رد الصاع بمثله او بصاعين ان كان بدوي البيئة كما هو الحال باليهودية والاسلام، وبين دين نضج ونشأ في القرى، فهو يأمر اتباعه بان يكون ماسوخيين من يصفعكم على خدكم الايمن فاديروا له خدكم الايسر، ومن يريد مالكم فاعطوه... قمة الماسوخية !

اختلافات سياسية

لاعجب لمن يرى مقدار الاختلاف في الفكر السياسي لهذه الامة المبتلاة، فتجد منهم من هو سادي يرى ان الحل كل الحل في ان يكون هو الظالم الذي يظلم غيره ويترفع من ان يكون هو المظلوم بل لابد له والحال هذه ان يقتل ويدمر ويفجر كل شيء فهو مظلوم ولايمكن ان يسكت عن الظلم ! يروى ان رجلاً جاء الى عمر بن الخطاب يشكو اليه من شاعر نظم شعراً في ذم قبيلته قائلاً:

قبيلتــه لايفخـرون بذمة......ولايظلمون الناس حبة خردل
ولايردون الماء الا عشية.....اذا صدر الوراد من كل منهل

فاجابه عمر: "ليت كل آل الخطاب مثل هذا .....فما ارى بهذا بأساً"

فالبدوي يعتبر هذا ذماً فكيف تكون قبيلته ممن لايظلم احداً؟ وكيف تكون قبيلته من المسامحة بحيث تسمح للاخرين بالشرب قبلها ولاتكون لها الصدارة والاولوية في كل شيء؟ انه يرى هذا العمل رضوخ وانبطاح واهانة ما بعدها اهانة ! وهو يعجب من هؤلاء الاخرين الذين يرون هذا الامر ويصب عليهم اللعنات والاتهامات التخوينية والتضعيفية وحتى الجنسية !

ظاهرة التشيع

هناك ظاهرة تحدث عنها الكثيرون قديماً وحديثاً وهي ظاهرة تشيع الكثير من القبائل السنية في العراق والشام ومصر واليمن، فقد كان السنة اغلبية في العراق فيما مضى من قرون وكان الشيعة معدودين على الاصابع ومضطهدين لايقر لهم قرار اما اليوم فهم صاروا اغلبية، كانت الكثير من القبائل التي هاجرت من السعودية وسكنت وسط وجنوب العراق سنية بالاصل فاذا بها تتحول الى التشيع، فلماذا يحصل هذا؟

طبعاً اهل الطوائف الاسلامية يفسرون الموضوع على ما اعتادوا من طرق قديمة متحيزة فالسنة يعزون الامر الى احابيل الشيعة وطرقهم الشيطانية في خداع الناس وجذبهم الى معتقدهم باستخدام اوراق ضغط مثل قضية الحسين والائمة وغيرها من وسائل شيطانية... قبحهم الله !

لو كان الامر على ما يقوله هؤلاء فلماذا لاينجح الشيعي الشيطان في دعوة العالم كله الى التشيع؟ لماذا لاينجح في السعودية مثلاً؟ مثلما ينجح في العراق والشام ومصر؟ وطبعاً لاننسى ان الشيعة انفسهم يرجعون هذا الامر لكونهم "اهل الحق" وان الناس يهتدون بكلامهم وما اليه من غرور اعتقادي وتعصب.

ان من قرأ هذا الموضوع يصير السبب عنده واضحاً فالانسان يميل المعتقد الذي يتناسب مع ظروف بيئته وهذه القبائل حينما سكنت العراق وبدأت تنخرط في الاعمال الزراعية وعانت مما يعاني منه اهل القرى من ظلم الدولة وضرائبها وقسوة الطبيعة جعلها تبحث عن ملاذ تلجأ اليه من خوفها من المجهول ولم يكن بالامكان سوى اللجوء الى قبور واضرحة الائمة، ولم يكن بالامكان سوى التنفيس عن مقدار الالم الذي يعتصرها باللطم مع اللاطمين والبكاء مع الباكين والضج مع الضاجين، ان الخوف هو احد الاسباب التي تدعو الانسان الى التدين وفي هذه المجتمعات لم يكن هناك من بد سوى الذهاب الى الاضرحة والقبور والتوسل بالائمة ومن ثم التشيع ! ولعل كلام البوذا يعبر تماماً عن هذه الفكرة، فدعونا نختم بكلم البوذا:

"مدفوعين بالخوف يلجأ الناس الى جبال مقدسة، وحقول مقدسة، واشجار واضرحة مقدسة"

تسجيل الدخول
اسم المستخدم:
كلمة المرور:	فقدت كلمة المرور؟
	تذكرني

المواضيع المحتمل أن تكون متشابهة…
الموضوع		الكاتب	الردود	المشاهدات	آخر رد
	لماذا لا تدرس نظرية التطور في مدارس الدول الاسلامية؟	shosh	9	3,855	01-18-2011, 04:36 PM آخر رد: Narina
	نظرة حيادية لتاريخ المسلمين	إنسان ربوبي	0	531	08-10-2010, 06:50 PM آخر رد: إنسان ربوبي
	ما هي التناقضات الاسلامية التي تثبت انه دين بشري؟	ماجن	34	12,727	07-11-2010, 01:53 AM آخر رد: takhinen
	التعذيب في العصور الاسلامية	خالق محجوب	7	2,619	01-09-2009, 11:09 PM آخر رد: hamde
	كتابة أسماء المرضى ... مخالف للشريعة الاسلامية !!!!	shaytan_el3alam	22	4,334	04-17-2008, 04:32 PM آخر رد: نبتون