نزار قباني والنثر
أغنية إلى شاكر مصطفى .. ( مقدمة كتاب )
أفتكر , وأنا أدير نقطة هتا .. وفاصلة هناك .. وأداري ثيابي من بقع الطيب يمطرني بها شاكر مصطفى , ما جدوى باب السنديان العتيق .. والجنينة على مبعدة خطوتين منه .. زهر .. وشمس .. وعافية .
مال أسعدني , لو تجاوزني الناس .. لو تجاوزوا الباب الخشبي المتكء على مفاصله الملحَّنة .. إلى حوائط تُبنى من عبير .. إلى فُسيقة تتغرغر بأغنية .. إلى سحبة عتابا بدأت منذ أن كان الشوق في بلادي ولم تنته بعد ..
ما أسعدني لو دفعتَ الباب ومشيتَ وحدك . فالطريق إلى الكَرْم لا تضيَّع ابداً .. لا تضيِّ أحداً ..
إتبعْ أية نحلة عطشى وهي تدلُّك على عناقيد تكاد حركو السُّكَّر في أنابيبهال تُسمَع ..
أنا إذن – وورائي اكداس الأخضر والأحمر – لا اكثر من بطاقة توضع على إضمامة زهر .. من لصيقة توضع على زجاجة طيب في غحدى دكاكين العطور في باريس .. من جسر ينتظر خلفه الف موعد مطيَّب , فما اسعد القارىء لو ألقى نفسه راساً في احضان قارورة العبق .. اعني في أحضان شاكر مصطفى ..
هذا هوموعدي الاول مع شاكر , موعدعلى ضفة تسبح في موجها الأسود حياته وحياتي .. موعد على حضن حرف . فما أحلاك يا شاكرورائحة الحبر تهب من قميصك هبات تتمنى معها الليلكة لو اصبحت دواة .. هل ادركت الأن موقفي في زجمة العناقيد ؟
انني لا أستطيع أ أضيف قشةصغيرة .. قشة واحدة الى هذا الكون النسيق الذي عمره شاكر وحمل له الحجارة بمنقاره .. حجرا .. حجرا .. من مقالع القمر .. ومن نهار عينيه ..
لذلك أوثر أ، أسمي هذه المحاولة _ أغنية الى شاكر مصطفى _ لا مقدمة . فأنا _بيني وبينك _ لا أؤمن بالدهاليز في الفن .. لا أؤمن بالوساطة والوسطاء . وأحلف لك ان الدليل الذي مشى بي الى صورة ( الموناليزا) في رواق من أروقة متحف اللوفر , قتلني .. وترك ( الموناليزا ) قتيلة بين يدي .. بشرحه الذي يردده كالببغاء ..
ماذا لو تركني هذا الرجل الببغاء أرى ( الجوكوند ) بعيني أنا .. وألأم الكرز بيدي عن جوانب فمها ..حبة حمراء .. وحبة على موعد مع الحمرة ...
لا أدري لماذا كلما قرأت قطعة لشاكر مصطفى , تذكرت رقص البالية دون اي فن آخر .. فتطاير حروفه على الورق .. والتنوع الذي يمطرك به كقطيع نجوم , والأناقة التي يقدم بها افكاره , والزركشات الشعرية التي يضعها في طريقك كالهدايا يقع عليها الأطفال في المدفأة ليلة عيد الميلاد .. كل هذا يذكرني بلوحات (( البالية )) وبحديث الأرجل وهي تلمس خشب المسرح لمساً حنوناً يشبه طيران الفراش الليلي , وحديث الرسغ والمفصل , وصلاة الأصابع وهي تفتح دربها إلى الله .. وحوار الأظافر وهي تمسك نجمة .. وتفلت نجمة ..
إن شاكر مصطفى لا يرمي حروفه رمياً على خشبة المسرح .. كل فكرة لديه تعرف موضعها .. وكل نقطة .. كل فاصلة تقف في مكانها وسط ديكور المسرح المضاء ..
لا فوضى .. ولا مصادفة .. في أدب شاكر مصطفى وفي كل أدب جيد , بل لا مصادفة في الحياة المبدعة إطلاقاً ..
إن أصغر زهرة تمد رأسها الأبيض على سور حديقتنا تكلف الربيع عزلة تسعة اشهر تحت الأرض بين المخططات , والأقلام , وقوارير اللون . فيا ليتنا نتذكر ونحن نقطع حزم الزهر من جنينة جارنا .. ونملأ أفواه المواقد بحطب المشمش , الزمنَ الذي استغرقته الأرض لتطلع الغصن الذي نجعله في مزهرياتنا زينة .. وفي مواقدنا لهباً ..
وبعد .. فهذا سفير جمال يخرج من غابات بلادي بمئزر قديس وعصا ساحر . (( الكلمةالطيبة )) لا تسقط من فمه , والزهور البريَّية الغريبة تتمنى لو صارت زاداً في سلته ..
و( الكلمة الجميلة ) وهي عندي أطيب من الكلمة الطيبة . لماذا نسيها شاكر ؟ وهي تتكمش برئتيه كالنحلة الشرهة ببنفسجة ممتلئة .. وتنفرط حرائق من بؤبؤ عينيه , وأنجماً من شق ريشته ..
وما هو الأدب إن لم يكن ( الكلمة الجميلة ) التي لا تفتح أمامك صخرة ( علي بابا ) فحسب على حد تعبير شاكر , وإنما تفتح أمامك ألف نافذة على وجه الله ...
في البدء كانت الكلمة . والفنون كلها كلمات . الموسيقى كلمة على فم الوتر .. والتصوير على فم الرخام .. والزنابق على الربى .. والنجوم في السماء .. والعيون الكبيرة السود .. كلمات تنتظر من يقولها . وما اشقى النجوم والعيون يوم لا تجد من يقول لها أو يقول عنها شيئاً ..
إن امتياز الكلمة يأتي من أنها الأداة الطبيعية للتعبير عن المشاعر الإنسانية , فهي لا تحتال على الوتر كما تفعل الموسيقى , ولا تتكىء على الحجر كما يفعل النحت , فالاداة والموضوع في الأدب وحدة غير منفصلة .
(( الكلمة الجميلة )) هي أنا والوجود مجتمعين . أنا والأرض التي أطلعتني , والانسانية التي تحتاطني , والجماعة التي أقاسمها حديث النهار وخبز المساء .. ووطني الذي يعيش ورقاً أخضر في ظني , وناراً مؤججة في عيوني . فما أظلم الذي يسألني بعد ذلك أن تكون الكلمة في حلقي إنسانية أو ( ملتزمة ) على حد تعبير الكلمة الدراجة اليوم .
إن الكلمة التي امتب ليست طفلاً بلا نسب . إنها تراث عاطفي واجتماعي وإنساني يجنل سعال أبي ,ونداء أمي , وشجار صبيان حارتنا .. وشكوى مزاريب بيتنا القديم التي لا أبيعها بسمفونيات الدنيا مجتمعة . ( الكلمة الطيبة ) .. سهلة .ز أما ( الكلمة الجميلة ) .. فآه .. ما أصعبها ..
أن تقول لحبيبتك : عطرك جميل .. كلمة طيبة . أما أن تقول لها : إن لعطرك فماً ينادي ! .. فشيء آخر يتطلب أن تنبش نفسك من جذورها بحثاً عن كلمة صغيرة .. أميرة .. تطفر على الورق فرحة كفراشة حرير تحرَّرت من شرنقها ..
وشوشةٌ صغيرة أريد أن أبوح بها قبل أن أذعب . وهي أن شاكر مصطفى – من زاويتي أنا – أول كاهن بشَّر بنثرٍ فني من طراز لم يعرفه تراب بلادي منذ سنين .
فأنا الادب عندي (( تعبير غير عادي عن مشاعر عادية )) فإذا شاركتني هذه النظرة فإنك ستشم في أدب شاكر مصطفى طيباً غير مألوف , طيباً غير الذي تشمه في واجهات المكتبات .. وحوانيت الوراقين .
ولقدُ كنتُ ولا أزال أعطي هدب عيني لحرف جديد لم يدر ببال ابجدية بعد .. ولم يزحف في جبين إنسان .. حرف يتعذب من أجل وجوده على الورق .
فاذا أحببت شاكر مصطفى فلأنه عرف عذاب الحرف , ورائحة الظنون وهي تحترق . أحبُّه لأنه فاتح درب .. شقها بمحراث منحوت من أضلعه , ودوزن كل حصاة .. وكل ورقة فيها ..
أنا أحبُّ شاكرمصطفى .. وهذه الأغنية التي كتبتها له ليست مقدمة وإنما دعوة إلى حبه ..
1955
يتبع
:redrose:
|