يعتبر كتاب ضد - أوديب L'Anti- Oedipe (1972) من أهم الكتب التى أغنت الحقل الفلسفى الأوربى فى عقد السبعينات، كما يعد أول عمل نظرى يستوحى مبادئ حركة مايو 1968 الاحتجاجية. ولقد كان هذا العمل ثمرة جهود الفيلسوف جيل دولوز والمحلل النفسى فليكسى جواترى، وهو كتاب مكثف بمراجعه المتعددة، غنى بمفاهيمه المبتدعة - إذ يعد معجماً لوحده-، خصب بدلالاته المستحدثة، جديد بتقنية كتابته المتميزة؛ كتاب يغرقنا فى سيل من القرارات والتجارب التى تلتقى فيها الإثنولوجيا باللسانيات والاقتصاد، فى حين - وهذه من غرائبه! - لا تظهر الفلسفة فيه، بمعناها التقليدى، إلا بشكل خجول جداً! لهذه الاعتبارات كلها صعب على القارئ الفرنسى تلخيص مضمونه، فكيف بالأحرى قارءه العربى!


يتناول كتاب ضد - أوديب مفهوم اللاشعور L'inconscience كما حددته المدرسة الفرويدية، بالنقد والتقويم، عاملاً على تحويل دلالة هذا المفهوم من البعد "التمثيلى المسرحى" المرتبط بالأسرة إلى بعد اجتماعى سياسى، نقصد اللاشعور من حيث هو "مصنع" أو "معمل" لإنتاج مختلف الرغبات. وبيان ذلك أن التصور الفرويدى للجهاز النفسى تصور تمثيلى تشخيصى يجعل من "الأنا الأعلى" Le Surmoi إلهاً يحرك الشخصية بأكملها، أو لنقل شيطانا يسكن الظلال ويعمل فى الخفاء على خلق الأوهام. حقا إن فرويد كان أول من اكتشف الرغبة Le désir ومنطق تشكلها وتولدها، فأسماها الليبيدو Le Libido وحقا أيضا أنه أول من اكتشف أن الرغبة ديناامو ينشط داخل الإنسان وينتج مختلف الرغبات والتعلقات والارتباطات النفسية. لكنه - وهذه هى غلطته الكبرى فى رأى مؤلفى ضد-أوديب! - عمل على "تغريب" الرغبة عندما سجنها فى حدود ضيقة هى حدود الأسرة وتفاعلاتها النفسية (عقدة أوديب)، فجعلها بذلك أسييرة ثالوث قزمى مثير للشفقة (الطفل، الأب، الأم)، لذها عمد دولوز وجواترى إلى إطلاق الرغبة من قمقمها، وذلك بنقد تصور التحليل النفسى للرغبة خصوصاً وأنه حولها إلى "سر عائلى قذر"، وتوسيع هذا التصور لجعله "مصنعاً" أو "معملاً" لا "مسرحا ضيقا" أو "فرجة خاصة"؛ أى النظر إلى الرغبة من حيث كونها "وتداً اجتماعياً Agencement Social، نقصد مجالاً اجتماعياً لتوليد الهذيانات Les délires وخلق الأوهام. وباختصار، إن ما يريد أن يبينه كتاب ضد - أوديب هو أن اللاشعور (مسكن الرغبة) ليس ملكية خاصة بالأسرة، وإنما هو مجال مشترك بين الناس.


هذه إذن هى الأطروحة العامة للكتاب. فإذا انتقلنا إلى تفصيل القول فيه وجدناه ينقسم إلى جزأين: جزء أول يتعلق بنقد مفهوم "عقدة أوديب" الذى استحدثته مدرسة التحليل النفسى، وجزء ثان يتعلق بدراسة النظام الرأسمالى وعلاقته بالفصام Schizophrénie . وبين الجزأين تعالق وتكامل.


أما فى الجزء الأول، فقد عمد دولوز وجواترى إلى مهاجمة مدرسة التحليل النفسى أشد المهاجمة فى مسألة أساسية جوهرية، وهى ما أسمياه عبادة فرويد لمفهوم أوديب"؛ أى اختزاله للطاقة النفسية الجنسية، الليبيدو أو الرغبة، فى نطاق ضيق محصور هو نطاق الأسرة، بحيث قصر فرويد الرغبة على الحياة الأسرية (ثالوث: الأب، الأم، الإبن). وهذا تصور يرفضه المؤلفان ويدعوان، تلقاء هذا الرفض، إلى النظر إلى الرغبة نظرة أوسع وأعم وأشمل، أى النظر إلهيا من حيث كونها تسرى، من جهة، فى الجسد الاجتماعى بأكمله كرحالة لا يعرف الاستقرار؛ ومن حيث كونها، من جهة أخرى، تعبر جسد الفرد الواحد بأكمله من رأسه حتى أخمص قدميه. وهكذا يتصور الكاتبان أن الحقل الاجتماعى بمجمله مجال لتجلى الرغبة من حيث هى "سبولات آلية" مثلها فى ذلك مثل الكهرباء تخترق آلة بأ:ملها فتبث فيها الحركة. وإذا كان هذا هو شكل حضور الرغبة فى الحقل الاجتماعى، فإن شكل توظيفها واستثمارها لا يمكن أن يستدل عليه إلا بالهذيانات التى "تتكلم" فى المجتمع، لا الهذيانات حول كراهية الأب أو حب الأم، وفق ما يفرضه القول بعقدة أوديب، وإنما الهذيانات حول ما يروج فى الحقل الاجتماعى بأكمله، أى حول الشعوب والقبائل والأعراق والمال والسلطة .. وهى هذيانات لا تخلو من أن تكون أحد أمرين: إما أن تكون فاشتسية تتعلق بكره الأجانب ورفض التسامح وإحياء التقاليد العرقية والشوفينية؛ وإما أن تكون ثورية تتعلق بطرق تصور مجتمع أفضل، أى بالحديث عن الحلم والعشق واللعب واليوطوبيا والفن. وهذا فيما يخص ارتباط الرغبة بالحقل الاجتماعى وبحياة الناس العامة، أما فيما يتعلق بارتباط الرغبة بالجسد أو بالفرد فلقد صور دولوز وجواترى صلتها كصلة تيار كهربائى بآلة، إذ رأيا أن الرغبة تغمر الجسد كله فتستثمره، أى تحوله إلى آلات راغبة Machines désirantes . خذ مثال الثدى والفم. إن الثدى آلة - مصدر تنتج الحليب، والفم آلة - موصلة بهذا المصدر ترضع الثدى، وهكذا دواليك .. الجسد كله آلات لإنتاج الرغبة وتوليدها.


خلاصة القول إذن، إن التحليل النفسى يعانى من قصورين:

أ - قصور فمتعلق بعدم استطاعته تصور "الآلات الراغبة" إلا من خلال المنظور الأوديبى الضيق.

ب - وقصور عن إدراك الاستثمارات الاجتماعية لليبيدو، اللهم إلا من خلال التوظيف الأسرى.

لكن ما يهم دولوز وجواترى هو ما لم يتهم به التحليل النفسى، أى الجواب عن السؤالين التاليين: قل لى ما هى "آلاتك الراغبة"؟ وما هى طريقة هذيانك حول الحقل الاجتماعى؟ لذلك يعمد المؤلفان إلى إنشاء طريقة مستلهمة من التحليل النفسى ومضادة له، فى آن واد يسميانها التحليل الفصامى Schizoanalyse . وهى طريقة لا تركز على جوانب حضور الأب أو الأم فى هذيانات الرغبة، وإنما على جوانب حضور المجتمع، أى جوانب القمع والتسلط والإقصاء والتهميش التى تعكسها "أقوال" الناس.


أما الجزء الثانى من كتاب ضد -أوديب فيتعلق بمحاولة البحث عن أساب قصور التحليل النفسى - التى أوضحناها سابقا - يربطها، من جهة، بطبيعة المجتمع الرأسمالى، ومن جهة ثانية بعدم قدرة التحليل النفسى على إدراك ظاهرة نفسية ولدها هذا المجتمع، وهى ظاهرة الفصام. وهكذا ينطلق دولوز وجواترى من تقرير حقيقة مفادها أن النظام الرأسمالى أضحى "حقيقة قاتمة فاضحة"؛ حقيقة مولدة للاغتراب والاستلاب فى مجتمع يحكمه منطق الربح والإنتاجية والمردودية، حقيقة بنيت على أساس الفصل بين "الرغبة" و"الإنتاج"، أى الفصل بين "اقتصاد الرغبة" و"الاقتصاد السياسى"، حيث يضع النظام الرأسمالى الرغبة فى المجال الخصوصى Le privé والإنتاج فى المجال العمومى Le public. وآية ذلك أن الرأسمالية أدركت أن الرغبة تهدد الإنتاج، فعملت على ألا يتم الحديث عنها إلا فى عيادة الأطباء النفسيين، أما الخارج؛ أى المعمل والمدرسة والشارع، فهو مجال للعمل لا للرغبة! كما أنها أدركت أن تملّك قوة عمل العامل تبدأ أولاً بتملك رغبته، أى بسجنها ضمن إطار الأسرة أو الاستهلاك أو المتاجرة بالأجساد؛ إذ أن ما يهم الرأسمالى هو يختلف وآلات الرغبة والإنتاج" التى يمكن أن توصل بـ "آلة الاستغلال"، أى يداك إذا كنت كناسا، وقدراتك العقلية إذا كنت مهندسا، وقدراتك الإغرائية إذا كنت بغيا، أما ما بقى منك، فإنه لا يهم البورجوازى ولا يريد أن يسمع به. وإن من يتحدث عن هذه "البقية الباقية" (اللعب، الحب، اليوطوبيا، الفن) لا يمكنه إلا أ، يشوش على النظام الرأسمالى الإنتاجى، لذلك يسعى هذا النظام إلى تهميشه وإقصائه ومحصل هذا الإقصاء خلق "الفصام" وولادة "المجنون" و"الممتنع عن ك تصنيف" و"البوهيمى" … أى خلق الشخص المنفلت الذى لا يخضع للنظام والذى يحمل بين جناحيه رغبة جامحة قد تهدد المجتمع الرأسمالى. إن الفصامى ليس هو الشخص الذى "يصنعه المحلل النفسى" ويزج به فى المستشفى بدعوى انهياره بسبب تجرة ما فى الحياة فاشلة، أو بدعوى فقدانه الصلة بعالم الواقع واندفاعه فى عالم الخيال والوهم وعدم الاتساق بين المزاج والفكر؛ إنما الفصامى هو الفنان، هو المفكر الثورى الذى يعيش فى كنف المجتمع الرأسمالى ويتمرد عليه إما باسم الرغبة (الحلم، اليوطوبيا، اللعب، الحب) أو باسم الثورة (الصراع الطبقى). لكن ههنا مسألة يلح عليها المؤلفان وهى أن الرأسمالية غالبا ما تفلح فى استدراج "الفصامى" و"تدجينه". لكن كيف يتأتى لها ذلك؟


يرى المؤلفان أنه لم يكن ليقع ما وقع لولا وجود خلال فى نظرية الرغبة (التحليل النفسى) ونظرية الثورة (الماركسية). لذلك يعمد المؤلفان إلى نقد التحليل النفسى والماركسية نقد الأصول لا الفروع، ونقد "الهاوى الشغوف" الذى يفكر فى النص معه وضده، لا نقد "الأكاديمى" الذى يحفظ النص فيقدسه أو يدنسه. ومفاد هذا النقد أن التحليل النفسى لا يخدم إلا مصالح البورجوازية حين يحول الرغبة من "سيلان جموح عاصف" إلى "تدفقات صغرى" تقطر على "سرير الأم"، وحين يضخم من دور "عقدة أوديب" فيبادر إلى تزكية رقابة الأنا الأعلى ويجعل الفرد راغبا فى القمع فيبارك ما يحدث فى المدرسة والأسرة والسجن من تربية "تدجينية" تخدم الأسرة التى تقمع المرأة والطفل ومتعاطى المخدرات والسكير والشاذ جنسيا، إذ يتواطأ المحلل النفسى مع البورجوازى فيهمس له فى أذنه: "دع المجتمع يعمل، أما الرغبة فسنتكفل نحن بها؛ سنخصص لها حيزا صغيرا على وبر أريكتنا". إنه يتحول بذلك إلى مخدر رفيع المستوى يعمل على ألا تغادر الحقيقة باب العبادة، وإلى "آل كابونى" و"بوليس" يلعب دور القساوسة والأبالسة. هذا فيما يخص نقد التحليل النفسى أما فيما يخص الماركسية، فإن دولوز وجواترى لاحظا أن النظرية الثورية تحولت إلى نزعة بيروقراطية فظة، إلى درجة أنها أضحت آلة بوليسية مسلطة على رقاب العمال خادمة لمصالح البورجوازية.


هكذا يبدو أن أسلوبى المقاومة الوحيدين الممكنين (منطق الرغبة ومنطق الثورة) قد استعادتهما البورجوازية وأفرغتهما من المعنى، وذلك بسبب تواطئها، مما سهل عليه عملية عزل اقتصاد الرغبة عن اقتصاد الإنتاج واللشعور عن المعمل، مخصصة لكل مجاله: مجال الرغبة هو المجال الخاص، أى الأسرة، ومجال الإنتاج هو المجال العمومى، أى مجال المجتمع، لذلك يتساءل دولوز وجواترى: هل هذا النظام محتوم على الإنسان إلى الأبد، محايث لوضعه الاجتماعى كإنسان، أم أن بإمكانه أن يتجاوزه ويقضى عليه؟ ويجيبان بقولهما: لا تزال هناك فسحة للأمل؛ ما زال بإمكان المراكسية أن تحيا إذا هى اهتمت بموضوع الرغبة، وما زال بإمكان التحليل النفسى، أن يجدى نفعاً إذا هو انفتح على نظرية الصراع الطبقى، إذ لا وجود لحقل "خاص" تمارس فيه الرغبة وآخر اجتماعى يمارس فيه صراع المصالح. ومن ثم يلزم القيام بـ "ثورات جزيئية" Rèvolutions moléculaires قائمة على تضافر جهود المحلل الفصامى والمناضل الثورى والفنان للقضاء على الأغلال والأصفاد، وتحطيم الرأسمالية والاستغلال الطبقى، والقضاء على ضغوطات الأنا الأعلى … "ثورة لا تمس الجهاز السياسى وإنما تعيد النظر أيضا فى كل عجلات المجتمع مهما صغرت ودقت".

الكاتب : مجهول:mellow: