{myadvertisements[zone_1]}
 
تقييم الموضوع:
  • 1 صوت - 5 بمعدل
  • 1
  • 2
  • 3
  • 4
  • 5
سرد إصدارات رابطة العقلانيين العرب
يجعله عامر غير متصل
عضو رائد
*****

المشاركات: 2,372
الانضمام: Jun 2007
مشاركة: #14
سرد إصدارات رابطة العقلانيين العرب
المخيال العربي في الأحاديث المنسوبة للرسول كتاب للمنصف الجزار

عرض: جمال الدين دراويل


خصّص المؤلف وهو أستاذ الحضارة في الجامعة التونسية هذا الكتاب (وهو في الأصل أطروحة دكتورا دولة) لدراسة ما حفّ بظهور الدّعوة الإسلامية وميلاد الرسول وبعثته من نشاط الخيال، الذي رام «ترسيخ الضمير الديني الناشىء وإضفاء القداسة على الفضاء المحيط بحضور المؤمن في الدّار الأولى» (ص8 و9)، وهو ما كان وراء ظهور منظومة من التصوّرات المتلاحقة والمتكاملة، امتزج فيها المخيـال الاجتمـاعـي بالقـصص الدّينـي، إذ «المخيـال ملكة من ملكـات تكويـن الواقـع أو هو ملكــة تكويـن الصـور التي تنشـد فهـم الواقـع من ناحيــة، وتتجـاوز هذا الـواقـع من نـاحيـة ثـانيـة» (انظر Gaston Bachelard : l’eau et les rêves, P 23 نقلا عن الواقع والمخيال في السياسة والعلم والفنّ – المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون، بيت الحكمة، تونس 2005، ص 34).
وقد اتّجه د.منصف الجـزار إلى اعتمـاد مقـاربـة تحليلية للأنسـاق الثقـافيـة التي ارتبط بها المخيـال العربـي الإسلامي من جهة تصوّره لمقام النبوّة ومن جهة تفاعله مع الحديث النبويّ. وعمل على الكشف عن الملابسات التي نشّطت هذا المخيال، موظّفا مكتسبات «الانتروبولوجيا الثقافية» ومعلنا عن أنّ عمله يندرج ضمن سلسلة جهود علميّة سابقة دأب عليها جامعيون تونسيون في نطاق «مساءلة التراث والإفصاح عن دور المخيال في تشكّل هذا التراث» (ص 11).
وآثر المؤلّف تعقّب القضايا المتّـصلة بالمخيال في أحاديث الرسول ضمن خطّ تاريخي انطلق من «زمن البدايات وانتهى بسلسلة غزوات الرّسول ونشأة أمّة الاستجابة» (ص 13).
- قسّم الكتاب إلى مدخلين وأربعة أبواب :
عرض المؤلّف في المدخل الأول المتن الذي يمثّل مادّة بحثه الأساسية، مبيّنا أنّه يتمثل في كتب الحديث والسيرة والمغازي والمناقب والتفسير والتاريخ، ولافتا النظر إلى أثر التاريخ السمعي الذي يعوّل على النقل والإسناد في صياغة الثقافة العربية الإسلامية في شتّى مكوّناتها.
وخصّص المدخل الثاني لبيان ما ارتبط بحياة النبيّ قبل البعثة وبعدها من خوارق أرجع ظهورها في الأعمّ الأغلب إلى ما اتسمت به الثقافة التقليدية السّماعية من غلوّ ومغالطات ومبالغات متّصلة بغايات مذهبية وسياسية ونفسيّة، وجّهت المرويات والأخبار إلى مجال العجائبي (Fantastique). فكان من الطبيعي أن يدخل الخيال « على الخطّ»، منذ ظهور الرسالة الجديدة، لمساندة الدّين، وترسيخ الملّة والمذهب، وصدّ أهل الكفر ومواجهة أصحاب البدع والأهواء.
وتعلّق الباب الأوّل من الكتاب برصد الخوارق الحافّة بولادة النبيّ بدءا بنسبه و وصولا إلى ولادته، وتحليل المرويات والأشعار المتعلقة بهذا الشأن في مصادرها المتنوّعة.
وأمكن للمؤلّف أن يتابع هذه الأخبار والأشعار في مظانّها المختلفة سُنّـية وشيعية، من خلال كتب التفسير والسيرة والتّاريخ والطبقات والمناقب، باحثا عن الخيط النّاظم بين مختلف هذه المرويات ومحلّلا مرتكزاتها وخلفياتها الدينية والسياسية والنفسيّة، ضمن رؤية مقارنية بين المنثور والمنظوم منها، تستهدف البحث على ما تنطوي عليه من دلالات قريبة، وما ترنو إليه من غايات بعيدة، منتهيا في خاتمة الباب الأول إلى أنّ المخيال «لم يكن عنصرا دخيلا على الدّين... بل كان عنصرا موظّـفا فيه، وسندا في استمالة الجمهور إلى الرؤية المذهبية... وأنّ المخيال أكّد قدرته على التوغّل في كلّ الاتجاهات» (ص 148).
وفي الباب الثاني تناول المؤلف بالبحث الخوارق التي ارتبطت بفترة ما قبل بعثة النبيّ التي أحيطت بسيل من المبشّرات والأمارات والقرائن على صحّة بعثة الرسول محمّد، وما رافق هذا الحدث من حيويّة في مجال المخيال (الفردي والجماعي) الذي دأب على توليد الصّور العجائبية (الخوارق) الحسّية وغير الحسّـيّـة التي شملت عوالم الإنس والجان والحيوان والجماد، وارتبطت بالمحيطين القريب (مكة والمدينة والجزيرة العربية) والبعيد ( العالم الأرضي والكون بأسره).
وبيّن المؤلف اقتران ظهور الخوارق بتطور حياة النبيّ منذ ولادته وفترة رضاعه إلى بعثته وبداية نزول الوحي عليه.
فكأنّ الأحداث الجسام التي استوجبتها الرسالة الجديدة بالنسبة إلى النبيّ ومن معه من المؤمنين كانت قادحا للمخيال على أن يفعل فعله على امتداد عقود من حياة الرسول، لمعاضدة الرسالة الإلهية و«الإشادة بالدّائرة النبويّة المستأنفة في بلاد العرب» (ص 293).
وفي خاتمة الباب الثاني، انتهى المؤلف إلى التساؤل عن مصداقية هذه المرويات التي نشأت في سياق نظام معرفي، استجابت فيه الأخبار لحاجات عقائدية وفكرية ونفسية معلومة ونابعة من ظروف المكان والزمان، وأصبح ممتنعا في عصر «حداثة السّؤال» وفي زمن تطوّرت فيه نظم المعرفة أن نقبل بأخبار القدامى أو نرضى بإجاباتهم، في حاضر تشكّل نظام المعرفة فيه على تقويض جانب كبير من أسس الثقافة التقليدية ودعائمها.
وفي الباب الثالث، انبرى المؤلف إلى تعقّب الرّوايات والأخبار الحاملة للأحداث المفارقة والخارقة، المتّصلة بحياة النبيّ في المرحلة المكيّة فيما بين بدء نزول الوحي وقرار الهجرة إلى المدينة، غايته رصد حركيّة المخيال في صياغته للرّوايات، وتبيُّن المدلولات المصاحبة لبروز التصوّرات المبثوثة في ثنايا هذه المرويات التي بدأت تنشط – كما بيّن المؤلف – مع بدء نزول الوحي ثمّ تصاعدت حركيتها مع حادثة انشقاق القمر، لتبلغ ذروتها مع حادثة الإسراء والمعراج.
ووقف المؤلف على «وجود خيط دقيق واصل بين هذه الأحداث» (ص 456) متمثّل في مخاطبة الأرضي للسّماوي، وأبرز أنّ الحوار بين الأرضي والسّماوي مثّل في هذه المرحلة، كما في الحقب التاريخية المتعاقبة التي مرّت بها الأديان السماوية كافّة «لازمة الميثولوجيا العالمية «(ص 456)، وأنّ المرويات التي تعلّقت بالخوارق المنسوبة إلى النبيّ في المرحلة المكيّة توسّلت بهذه «اللازمة» قصد الظّفر بإجابات يتجاوز نفعها المجال الديني ليشمل البحث عن التوازن بين الإنسان ومحيطه البيولوجي والنّفسي والاجتماعي.
وتساءل المؤلف عن دلالات الطّابع العمودي في العلاقة بين الأرضي والسّماوي في إطار المرويات التي عالجها، وأكّد أنّ «التسلسل» أو «المدرج» المعتمد في صياغة الروايات، ونسق نموّه، ينطويان على خصوبة دلاليّة أماط اللّثام عن جوانب منها ولاحظ أنّها تدعو إلى مزيد المساءلة والنبش.
فهذا الطابع العمودي، وهذا النسق التصاعدي المعتمد في إسناد الخبر مكّنا المخيال من استكمال حلقته، فقد أتـاحت هذه الأحداث الفرصة لمساءلة السّماء وتمثّل الإجابة في ذات الوقت، ضمن سياق حركي تجدّدت فيه الرّموز بحسب السّنن الثقافية المتطوّرة بتطوّر الواقع المعرفي والتجربة الحضاريّة، بما يدعو إلى القول إن نتاج المخيال لا يمثّل تصوّرات ثابتة أو صالحة لكلّ زمان ومكان، فلكلّ بيئة ثقافيّة نظام رموزها ومنظومتها الفكرية ومرتكزاتها العقائديّة التي تتحدّد في نطاقها العلاقة التكامليّة بين العقل والمخيال، أو بين الواقع وما فوق الواقع. فالمخيال في جوهره يختزن رغبة المسلم - شأنه شأن أي مؤمن – تبيّن منزلته في الكون ومصيره بعد الموت ومعرفة حقيقة رسالته في معناها وجدواها .
وفي الباب الرابع والأخير تتـبّـع المؤلف الخوارق التي حفّت بفترة الهجرة النبويّة وما رافق نشر الدعوة من أحداث تراوحت في العلاقة بالآخر بيْن المجادلة والمقاتلة، وحثّت المخيال على أن يتدخّل ليدعّم الثوابت العقائديّة والمعرفيّة التي استندت إليها المادة الخبريّة، وما تضمّنته من نزوع عجائبي امتزج فيه تأويل الآيات القرآنيّة من جانب، بأخبار قصص الأنبياء من جانب آخر ضمن مكوّنات البيئة الطبيعيّة والثقافيّة المحيطة بنشأة الدّين الجديد، فتداخلت مادّة الروايات وتشابكت وتلوّنت الأخبار وتوسّعت، لتدعم ما ثبت في الضمير الإسلامي من أنّ النبيّ محمّدا متميّز في مدار المعجزات عن سابقيه من الأنبياء والمرسلين.
وفي خاتمة الكتاب بيّن المؤلف أنّ العجائبي في الرّوايات المتعلّقة بحياة النبيّ وسيرته كان حاضرا بقوّة طيلة فترة نزول القرآن، وأنّ هذه الروايات العجائبيّة استطاعت أن تخترق الثقافة العالمة، علاوة على الثقافة الشعبيّـة. ومن ثم أمكن للخيال أن يتسلل إلى مختلف أرجاء هذه الثقافة وأن يتدخل في دائرة الأفعال والأقوال والأحوال (ص 592) بما أتاح ظهور «منظومات عجائبيّة» تستجيب لأفق انتظار المجموعات الدينيّة والسياسيّة وتعبّر عن مشاغلها وهواجسها ومصالحها، وكذا سرت روايات الخوارق في مختلف الأزمنة، وعلى امتداد الأمكنة في تاريخ الثقافة العربيّـة الإسلامية وأصبحت ركنا في هذه الثقافة ركينا.
وإذا مثّل الخيال منذ نشأة الفكر الغربي الحديث وإلى الحقبة الراهنة سندا للعقل، وأتاح للإنسان في العصر الحديث أن يضطلع بأدوار جديدة وأن يقتحم عوالم ومجالات غير معروفة في السّابق، فالمخيال في الثقافة العربيّة الإسلامية كان في غالب الأحيان عاملا من عوامل النكسة الصريحة، إذ جعل المسلم يؤثر الأسباب الموهومة على الأسباب الحقيقيّة ويركن إلى المعرفة الغيبية، ويذهل عن المعرفة العقليّة ويهرب من الحاضر ويلوذ بالماضي.
وهذا ما دعا المؤلف في آخر الكتاب إلى التساؤل: «هل نبقى خارج منظومة العالم الجديد، وهو لا يتردّد في اكتساح بيوتنا باستخدام الأقمار الصناعيّة وتوظيف التكنولوجيا الفائقة، أم سنعمّق دراستنا لذاتنا ونعمل على البقاء في دائرة ضوء الحضارة، وعندئذ نحتاج بالضرورة إلى أن نفتح مسالك جديدة لكياننا ؟» (ص 599).


لا شك أن أطروحة د.منصف الجزار عالجت بعمق واتّزان إحدى أبرز معضلات الثقافة العربيّـة الإسلاميّـة وقدمت قدرا من الإجابة عن التساؤل الخطير الذي أنهى به مؤلّفه، كما أنّ عمل د.الجزّار سيفتح لا محالة الباب لإعادة النظر في الثقافة التقليديّة وفي ما قامت عليه من مرتكزات، ذلك أنّ التعامل مع الموروث الثقافي التقليدي بجميع مكوّناته، على سبيل التسليم والوثوق، بات مفسدة ثابتة، ومنهجا لامراء في أنّه يؤخّر ولا أن يقدّم، وهو ما حرص المؤلّف على الكشف عنه.
وإذا كانت الأخلاق العلميّة توجب احترام الأوائل والاعتراف بفضلهم وسبقهم، فالمنهجية العلميّة تقتضي التعامل مع آثارهم بموضوعيّة لا تخلط بين صلاحهم وسداد آرائهم، ولا تسبغ على أعمالهم طابع القدسيّة، ولا تقبل وهم أنّ الأوائل ما تركوا للأواخر شيئا.
والجدير بالملاحظة أنّ المدرسة التونسيّة في الفكر العربي الإسلامي المعاصر قد أثارت هذا الموضوع منذ وقت مبكّر مع أحد أعلام التنوير فيها وهو الأستاذ الإمام محمّد الطاهر ابن عاشور (ت 1973) إذ قرّر أنّ «التحرّيَ أوْلى بالمسلمين فقد طفحت عليهم الروايات، فكانت منها دواهٍ وطامَّـات» ( تحقيقات وأنظار في القرآن والسنة، الشركة التونسيّة للتوزيع 1985، ص 81) وصَدع بجرأة علميّة « أنّ الحديث الصحيح يغلب الظن بصدق نسبته إلى رسول اللّه نظرا لحسن الظنّ برواته وفيه احتمال مرجوح جدّا بأن يكون مكذوبا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم « (المصدر نفسه ص 87) وبيّن «أنّ من أكبر ما أضرّ بالمسلمين روايات ضعيفة تكاثرت بسبب تهاون أهل الحديث» (المصدر نفسه ص 92) معبّرا من خلال ذلك عن وعي عميق بضرورة أن يستيقظ المسلمون من سِنَـتهم المعرفيّة، وأن يفسحوا المجال للمنهج العلمي الحديث كي يخترق ذهنيتهم، وأن يدخلوا في مجرى التّاريخ من جديد على بصيرة من أمرهم.
بقي أن نلفت الانتباه إلى أشار إليه المؤلّف من أنّ الروايات العجائبيّة المتعلّقة بحياة الرسول وسيرته كانت مصدر إلهام به خرجت روايات الخوارق من دائرة النبوّة إلى دائرة الأصفياء (ص 439)، فلم يعد المعراج على سبيل المثال علامة من علامات النبوّة فحسب، بل شمل «أهل المعرفة» كالبسطامي وابن عربي وفي هذا السياق يجدر التساؤل عن سبب انصراف المؤلف عن الاهتمام بالروايات المتصلة «بالمهدي المنتظر» الذي يعتبر الاعتقاد به إحدى ركائز المذهب الشيعي، كما أنّ الآثار المرويّة في المهدي تسرّبت إلى كتب الحديث المعتمدةلدى أهل السنة كجامع الترمذي وصحيحي ابن ماجه وأبي داود، كما أمكن لهذه الروايات اختراق كتب التفسير لاسيما عند الشيعة، وقد مثّـلت هذه وتلك أهم مصادر البحث بالنّـسبة إلى المؤلف .

________
وكتب آخر
كتاب منصف الجزار فيضيء جانباً آخر من التراث الديني العربي والإسلامي، هو المخزون الإخباري العجائبي الذي أنتجته المخيلة العربية ارتكازاً على السيرة النبوية، محاولة استحضار صورة لبطل وقطب نوراني هو الرسول الذي تحّف به الأحداث المفارقة، والصور الخارقة. والذي يلبي صبوة روحية وتوازناً نفسياً واجتماعياً للمجتمع الإسلامي في بعض ظروفه.
وهذه المرويات تبنيها استدماجات ميتولوجية مستوحاة من أديان سابقة، وتيارات غنوصية. وتطبعها بأسلمة مستندة إلى المتن القرآني، وخاصة الجزء القصصي منه، وإلى تأويلات باطنية وصوفية. وإلى ابتكارات صور ورموز إسلامية محمولة على الخارق والمدهش واللامألوف.
وفي ضوء مسار أستاذه عبد المجيد الشرفي، وخط الدراسات الحديثة عن الخيال، كما يتجلى في كتابات اركون التي تتنكب النصوص الإسلامية. وأطروحة جيلبير ديوران في «البنى الأنتروبولوجية للمخيال»، وكتابات مرسيا الياد وغاستون باشلار ومالك شبل وسواهم. يحلل منصف الجزار هذه المرويات التي تنطلق من قاعدة تاريخية مادية، وتنظم عبر الحكاية التي يسميها اركون «الحكاية المؤطرة» معطيات الفعالية البشرية من أجل فرض معناها. ويتفق منصف مع أركون بأن القصاصين الشعبيين لعبوا في بداية التوسع الإسلامي وما بعده دوراً في نشر العقائد والمعارف الدينية. ولعبت القصة موقع القلب في تنظيم الفضاء الديني الإسلامي، وإعادة إنتاجه وتسويقه.
والمرويات هذه ليست تجميعاً أو تكراراً لحكايات قديمة انتشرت في الشرق الأوسط القديم فحسب، إنما هي حركة ديناميكية للمخيلة الخلاقة. وبذلك شكلّت القصة في البيئة الشعبية بؤرة لانبجاس تاريخ الوعي الإسلامي، في مجتمع يقوم على النقل الشفهي، بديلاً من الفكر المنطقي الاستدلالي الذي ظل محصوراً في أوساط الصفوة. كذلك زوّد هذا المعين الذي لا ينضب المفسرين بذخيرة هائلة لبلورة سلوكية أخلاقية ولتنظيم الشعائر، بل وسن القوانين والشرائع. ومثل اركون يخشى منصف الجزار من أن يتحول التعامل مع هذا النسق الميتولوجي العجائبي إلى نسق من التفكير، يغدو فيه العجيب عنصراً حاسماً في تفكيرنا، وفي تعامل المسلم مع المسائل المادية والروحية في هذا العصر.
ويلحظ الجزار أن السعي للتدوين في فترة المدينة، حدّ نسبياً من جنوح المخيال المبدع لصور لا وجود لها في اصل الواقع التاريخي. ويدل هذا على أن المرويات الشفوية قبل عصر التدوين كانت تتميز بحرية صياغة الأفكار، فامتزج المتخيل بالتاريخ، والموهوم بالواقعي. لكن تقنين هذه الأخبار وانسحابها على مسألة النبوة، فرض على المدونين عملية تهذيب هذه الأخبار وتلك القصص والمرويات، وضبطها وتنقيحها لتغدو اكثر اسلمة. بيد أن الصور المتواترة عن الخيال تثبتت في الأذهان والعقول، وانتشرت بواسطة القصاصين بالدرجة الأولى، وتفاعلت مع المنظومة الثقافية والعقلية العربية. وهذه النصوص صارت تنتمي (بالتزيد والإضافة والإفاضة) إلى ذلك الصنف من التأليف الجماعي الذي ترى الجماعة المتلقية ذاتها فيه، بما تحمله من أبعاد نفسية وجدانية.
في مقاربته لهذه المرويات المتخيلة يسلك الجزار حركة مزدوجة: أولاهما: تحليل مكونات النص الروائي وتفكيك صوره ودلالاته، والثانية: تأويل المعنى الجامع للنص، والنفاذ إلى المسكوت عنه، لفهم ما يحمله الخبر من معان ورموز. وبذلك يكشف عن البنية الأسطورية وتقنياتها، وتحول وظائفها وأدوارها خدمة لمشروعية إسلامية.
تمذهب المرويات
إن أسلمة المرويات دفعت الإخباريين والمفسرين إلى تهذيبها وغربلتها من رواسب الجاهلية والوثنية، وإلى تحويرها وتبديلها لإضفاء دلالات جديدة عليها، تتماشى مع المنظومة الإسلامية. تماماً مثل أي نص آخر يراد منه أن يشكل مرجعية شرعية، وأن يوظف سياسياً وايديولوجياً، او يخدم بعض التوجهات الفكرية والإسلامية.
ولا يكتفي الجزار بتفكيك المضمون الروائي، إنما يقارن بين سلاسل الأسانيد، ويفحص العلاقة بين السند والمتن، ليضع يده على النقص والتحوير أو الإضافات والتبديل، وسوى ذلك من تفاصيل تؤثر في منظومة الدلالات الرمزية الدينية التي تحملها هذه الروايات.
ومعظم هذه المرويات استخدمت كأسانيد لدعم التفسير القرآني، وتفصيل ما أجمله القرآن. وقد اتاحت الأحاديث النبوية المنسوبة إلى الرسول توظيف المخيال الإسلامي لإذكاء الحمية الدينية في النفوس، وتفسير الأحداث السابقة واللاحقة بالإسلام. وقد امتصت هذه المرويات كثيرا من الرواسب الأسطورية والطقوسية والميتولوجية في المناطق المتاخمة للجزيرة العربية، مثل بلاد ما بين النهرين، وفارس، وأرض كنعان، وازداد التلاقح مع ازدياد أعداد الشعوب التي اعتنقت الديانة الإسلامية الجديدة.
في ضوء ذلك يشير الجزار، كما اشارت زميلته ناجية بو عجيلة من قبل، إلى أن المرجعية القرآنية ضعفت أمام سيل روايات التأويل التي تحولت بفعل التواتر، إلى سلطة فرضت نفسها على المفسرين، وتسللت من خلال الإسرائيليات وغير الإسرائيليات. كذلك دعمت المرويات التمذهب، وخضعت لمراقبة دينية مذهبية لتنسجم التصورات المتخيلة مع المعقولات النظرية والعقدية. وبينت المقارنات بين المرويات أثر التمذهب في توجيه الروايات وتوظيفها. ومن أمارات التوظيف المذهبي ما يذكره المؤلف عن تكذيب الحلبي في «السيرة الحلبية» لروايات الشيعة حول الأدوار البطولية للإمام علي، في غزوات النبي محمد استناداً إلى مواقف ابن تيمية المعادية لهم. كذلك ينفي الشيعة حادثة شق صدر النبي قبل البعثة، وغسل قلبه من الأدران الشيطانية، لأنهم ينزهونه عن الكبائر والصغائر منذ ولادته، وينزهون كذلك ائمتهم، ويعصمونهم عن الخطأ والنسيان، ولا يفرقون بين الإمام والنبي.
ويعبر مخيال الخوارق بحكاياته العجائبية وغرائبه عن دلالات ومواقف حضارية ومعيشية وسياسية. ولكن هذا المخيال غدا في بعض عصور الانحسار والتراجع مصدر عزاء وتأسٍ، وسعياً بدون جدوى إلى هوية تتلاشى منعتها مع الزمن. وبهذه الآصرة الوثيقة التي تربط المتخيل بالواقعي، يحيل منصف الجزار فوران الماء بين يدي الرسول، أو تكثيره الطعام أو حلبه الشاة التي جف ضرعها، إلى الفضاء البدوي الضيق، الذي يقصر نبوة محمد على المأكل والمشرب اللذين يندران في هذه البيئة القاحلة الفقيرة. كذلك يفصح ارتجاس إيوان كسرى ليلة ولادة الرسول، ونضوب مياه بحيرة ساوه في فارس، وخمود نار المجوس، في المخيلة العربية الإسلامية حينذاك، عن انقراض دور الديانة المجوسية، وعن التبشير بميلاد السيادة العربية على محيط النفوذ الفارسي والحبشي.
وإذا كان نظام الحكي الذي قام على توظيف الروايات المتخيلة، ظل يعمل في اقصى درجات انشغاله عبر مجالس السمر التي كانت شائعة ومزدهرة في فترات طويلة من الحياة العربية الإسلامية. فإننا نجد اليوم تجديداً لهذا النظام وتوظيفه السياسي والإيديولوجي، في سياق حضاري متطور، عبر برامج الدعاة المتلفزة، وخطب ائمة المساجد، حاملين صياغات موسعة منتخبة ومنظمة ومنتقاة، من معين هذا الموروث الروائي، خدمة لمواقفهم وطروحاتهم وإيديولوجياتهم.

03-19-2008, 04:37 AM
عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}


الردود في هذا الموضوع
سرد إصدارات رابطة العقلانيين العرب - بواسطة يجعله عامر - 03-19-2008, 04:37 AM

المواضيع المحتمل أن تكون متشابهة…
الموضوع الكاتب الردود المشاهدات آخر رد
  مما أعجبني: نقض أصول العقلانيين :: iAyOuB 0 1,474 04-24-2011, 01:16 PM
آخر رد: iAyOuB
  الإنسان والمقدس _ روجيه كايوا .. أحدث إصدارات المنظمة العربية للترجمة ali alik 3 3,170 03-18-2011, 05:18 PM
آخر رد: yasser_x
  العدالة كإنصاف - جون رولز .. من إصدارات المنظمة العربية للترجمة ali alik 0 2,825 08-13-2010, 02:20 AM
آخر رد: ali alik
  روبرت هيلند في كتابه «تاريخ العرب في جزيرة العرب» بسام الخوري 0 1,551 07-03-2010, 12:16 PM
آخر رد: بسام الخوري
  إصدارات مكتبة الإسكندرية الحوت الأبيض 0 1,935 06-11-2010, 02:34 AM
آخر رد: الحوت الأبيض

الانتقال السريع للمنتدى:


يتصفح هذا الموضوع من الأعضاء الان: بالاضافة الى ( 1 ) زائر
{myadvertisements[zone_2]}
إتصل بنا | نادي الفكر العربي | العودة للأعلى | | الوضع البسيط (الأرشيف) | خلاصات التغذية RSS