{myadvertisements[zone_1]}
 
تقييم الموضوع:
  • 0 صوت - 0 بمعدل
  • 1
  • 2
  • 3
  • 4
  • 5
مخطوط نادر وقيم للشاعر المصري الراحل نجيب سرور : تحت عباءة أبي العلاء
abu yasaar غير متصل
عضو فعّال
***

المشاركات: 53
الانضمام: Jan 2006
مشاركة: #3
مخطوط نادر وقيم للشاعر المصري الراحل نجيب سرور : تحت عباءة أبي العلاء
المقالة الرابعة
الفكر والشعر في منظور أبي العلاء المعري

"واسروا على الخيل العتاق واصمتوا
نواطقــــــها ألا تحمحم هائب
وشد لسان الطرف خوف صهيلــه
فقد ألجموا أفواهها بالسبـــائب!" أبو العلاء

لأبي العلاء كلام في "الخيول" أكثر مما قاله المتنبي وأبو تمام وغيرهما إلى الملك الضليل امرئ القيس! وخاصة في مقدمتي ديوانيه (سقط الزند) و (لزوم ما لايلزم)، وهو يرتب مراتب الخيول على بحور وأوزان وقوافي الشعر العربي! فلم يكن الرجل، وفي (لزوم مالا يلزم) بالذات، معنيا بترتيب أوزان وقوافي الشعر العربي بقدر ما كان معنيا بتصنيف وتصفيف "الخيول العربية" أي الفرسان العرب من أنصاره ومريديه وأعضاء حزبه الباطني السري الذي تفرغ له في منفاه الاختياري "المعرة"، بعد أن رفض جميع الأحزاب والمذاهب والاتجاهات والحركات السرية والعلنية، ولذلك راح يقول بالرمز وبالمصطلحات الشرطية: "أما بعد، فإن الشعراء كأفراس تتابعن في مدى (غاية)، ما قصر منها سُبق، وما وقف ليم ولُحق".

ويقول صاحب "شرح الند على سقط الزند" انه شبه حال الشعراء في المشاعرة والمباراة في إنشاء الشعر بخيل أُرسلت في حلبة السباق، متتابعة بعضها في اثر بعض، متوجهة إلى غاية نصبت لها وقد اختلفت مناصبها، فهو المجلي وهو السابق الحائز قصب السبق.

واضح أن أبا العلاء وأن الشارح لسقط الزند لا يتحدثان عن الشعر وعن الخيول بما هى، وإنما يتحدثان عنها حديثا رمزيا اصطلاحيا شرطيا شفريا يقصدان به في الظاهر أشياء وفي الباطن أشياء أخرى هى ـ أي ما هو في الباطن ـ التنظيم والتشكيل والتجميد والحشد على مراتب ودرجات وفئات لحزب أو لحركة سرية باطنية بديلة للحركات الباطنية التي كانت سائدة في القرن الرابع الهجري وفيما قبله وفيما بعده حتى كتابة هذه السطور.

لماذا الهجوم؟
إذن ماذا عسانا أن نبغي عند أبي العلاء غير اللغة والنحو هو المتهم منذ أكثر من ألف عام بأنه ملك التشدق باللغة وبالنحو من قبل اللغويين والنحويين؟ هذا ما يلفت الرجل نظرنا إليه ويحذرنا منه، خاصة وأنه قد أضاف في مقدمة اللزوميات ـ فيما أذكر ـ أنه كتب اللزوميات على معجم العامة لا على معجم العلماء، مما يوحي بأن لأبي العلاء معجما خاصا شرطيا ورمزيا واصطلاحيا وهو معجم العلماء، ومما يوحي في نفس الوقت بأن الرجل لا يقصد ما يقوله في الظاهر وإنما يقصد العكس والعكس تماما. إن الرجل يقول:

ولحبر اليهود في درسه التو

راة فن والهم في التدبيـل

فهو يدعوك بهذا إلى أن يكون لك أيضا فن في دراسة تراثك وتراث أعدائك والتراث الإنساني كله بما فيه تراث أبي العلاء نفسه، أو أن تكتشف (الفن) الذي يدرس به الآخرون أي تراث. الرجل إذن يعطيك سره حين يعطيك سر الآخرين ويعطيك المفتاح إلى عالمه الشفري السري الباطني كما أن عوالم الآخرين منذ أقدم العصور حتى ما بعد أبي العلاء بأكثر من ألف عام!!

لابد أن يكون القراء قد وقفوا طويلا أو قصيرا أمام هجوم ياقوت على أبي العلاء واتهامه له ـ هو المفترى عليه ـ بالتشدق باللغة، وهو أول من تبرأ من هذه التهمة بلسانه الصريح المباشر تارات وبلسانه الباطني غير المباشر تارات أخرى! ولا يمكن أن نتصور أن ياقوت لم يفهم أبا العلاء ولم يع قاموسه السري!.. إذن لماذا كان الهجوم، واضح أن ذلك كان على سبيل التنكر والحيطة والتحفظ والحذر، إذ من الواضح أن السيوف التي كانت مشرعة على رقبة أبي العلاء كان يمكن أن تُشهر على رقبة كل من يتعاطف مع أبي العلاء أو يبدي بادرة من تعاطف، لذلك لا نرى هجوم ياقوت على أبي العلاء إلا في ضوء الظاهر والباطن أيضا، نزولا على قول أبي العلاء نفسه:

ودهاك من أمسي لذكرك شاهرا

حوار مع أبي العلاء
أنا: ما الروي يا أبا العلاء؟!

هو: فأما الروي فأثبتُ حروف البيت، وعليه تُبنى المنظومات. وهو يكون من أي حرُوف المعجم وقع إلا حروفا تضعفُ ولا تثبتُ. كألف الترنم، وواوه، ويائه، وهاء الوقف، وهاءات التأنيث إذا كان ما قبلها متحركا، والألفُ التي تلحق علما للتثنية في مثل ـ ضربا وذهبا، والواو التي تدل على الجمع إذا كان مضموما ما قبلها في مثال ـ ضربوا وقتلوا، وغير ذلك من الحروف، فان اتفق غير ما ذكرتُ فهو شاذ مرفوض!

أنا: إنني لم أفهم شيئا مما قلت، وسأدع هذا لمن قد يفهمون في العروض والقافية والروي أكثر مما أفهم لا تعرف الوزن كفى بل غدت أذني

وزانة ولبعض القول مــــيزان

ولكنى أسألك لماذا استهللت مقدمتك للزوم ما لا يلزم بقول الشاعر:

ولقاك العقوق من البنينــــــا

ثم أتساءل لماذا ضربت أول مثل بـ "ضربا وذهبا" وثاني مثل بـ "ضربوا وقتلوا"؟!..انك تضرب مثالا "للخروج" بقول الشاعر القديم:

في ليلة لا نرى بها أحدا

يحكي علينا إلا كواكبُهـا

الخروج إذن يعني الوعد والموعد والرجعة والظهور إلى العلن بعد الكمون الباطني الطويل، وبعد الثقة المطلقة في إمكانية النصر، وبعد أن تعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم..في ظل الصمت المقدس المتربص وفي ظل السكون المتحرك والتحرك الساكن!!

قل لي ماذا عن "التأسيس"؟!

هو: والتأسيس كقول القائل:

ألا يا ديار الحي بالأخضر اسلمي

وليس على الأيام والدهر سالــمُ

أنا: قل لي بم تستشهد أقل لك من أنت!..أتراها مجرد أبيات عابرة على الخاطر بعد الضرب والقتل وخيانة الأم والدعوة عليها بالعقوق من البنين والبنات..الأم الوطن..الأم الدار..الأم المغتصبة الأسيرة..الأم المكتوفة اليدين والرجلين. هو: أنت مباحثي!

أنا: نعم..ولكن في التراث ودفاعا عن التراث، وخاصة أن شبابنا قد زهد في التراث، وخاصة وأن الهجوم قد اشتد هذه الأيام بالذات على التراث تمهيدا لسحب الأرض من تحت أقدامنا وجريا على عادة الاستعمار الاستيطاني!

اسرق تراث أي شعب تسرق ذاكرته، تسرق تاريخه، تسرق عقله، تسرق قدرته على التفكير في الحاضر والمستقبل، تسرق ألأرض.

نص غريب
لم يكن أبو العلاء إذن معنيا ـ كما قلت ـ بالعروض والقافية واللغة والنحو، وإنما استخدم كل ذلك استخداما اصطلاحيا وشرطيا كان يفهمه عنه معاصروه ومريدوه وأنصاره خاصة! وعلى هذا الضوء تصبح مقدمة أبي العلاء للزوم ما لا يلزم أكثر خطورة وأهمية من الديوان نفسه. وبتخطي جميع الاستشهادات العلائية من الشعر والشعراء في المقدمة المذكورة، وبترك هذا عمدا إلى فطنة القارئ الذكي والمتواضع، نصل إلى قول الرجل في نهاية المقدمة: "وقد كنتُ قلتُ في كلام لي قديم: إني رفضت الشعر رفض السقب (ولد الناقة إذا ولدته وعُرف أنه ذكر) غرسه، والرأل (فرخ النعام) تريكته (البيضة)، والغرض ما استُجيز فيه الكذب واستعين على نظامه بالشبهات. فأما الكائن عظة للسامع، وإيقاظا للمتوسن، وأمرا بالتحرز من الدنيا الخادعة وأهلها الذين جبلوا على الغش والمكر، فهو إن شاء الله مما يلتمس به الثواب. وأضيف إلى ما سلف من الاعتذار أن من سلك في هذا الأسلوب ضعُف ما ينطق به من النظام، لأنه يتوخى الصادقة، ويطلب من الكلام البرة ولذلك ضعف كثير من شعر أمية ابن أبي الصلت الثقفي ومن أخذ بفريه من أهل الإسلام. ويُروى عن الأصمعي كلام معناه أن الشعر باب من أبواب الباطل، فإذا أريد به غير وجهه ضعُف، وقد وجدنا الشعراء توصلوا إلى تحسين المنطق بالكذب وهو من القبائح. وزينوا ما نظموه بالغزل وصفة النساء ونعوت الخيل والإبل وأوصاف الخمر. وتسببوا إلى الجزالة بذكر الحرب. واحتلبوا أخلاق الفكر وهم أهل مقام وخفض في معنى ما يدعون أنهم يُعانون من حث الركائب، وقطع المفاوز، ومراس الشقاء"!!

انتهى نص أبي العلاء. نص غريب على كل الوجوه!

فهو يعني أن لأبي العلاء كلاما ضاع فيما ضاع أو سُرق أو خبيء من التراث العربي، ويعني أن أبا العلاء لا يؤمن بأن أعذب الشعر أكذبه على عكس الخطأ الشائع فى عصره وفي كل العصور، ويعني أن أبا العلاء يرفض شكل ومضمون القصيدة العربية فيصبح منظرا لحركة تجديد منشودة، ويعني أن أبا العلاء يعترض على الشكلية وان لم تكن "الشكلية" معروفة على عصره كمصطلح نقدي أو جمالي، ويعني أن أبا العلاء لا يتحدث عن الشعر على اطلاق وانما عن (الشكلي) منه، ويعني أنه لا يفهم امكانية التناقض بين القول والفعل وانما تطابق القول مع السلوك والنظر مع الممارسة والقول مع العمل. أما أن يكون الشاعر فارسا بالقول خائنا وجبانا بالسلوك فهذا ما لم يفهمه أبو العلاء وما لا يمكن لأبي العلاء أن يفهمه أو يتسامح فيه أو يقبل فيه المساومه والسمسرة والتجارة تحت السيوف المشرعة وفي ظلال غابات المشانق الجاهزة، هو الذي عاش ومات مدللا بما لايدع مجالا للشك على حتمية والزامية التطابق بين القول وبين العمل، أما التاريخ فحافل بالفرسان الكذبة فرسان اذا ما خلا الجبان بأرض!! ثم يعني النص أن أبا العلاء يتمرد على بناء القصيدة العربية التقليدي منذ العصر الجاهلي حتى القرن الرابع الهجرى، ويعني النص أن أبا العلاء يقف فى صف "الواقعية" وان لم تكن أخذت اسمها هذا على عصره، ويقف إلى جانب "العقلانية" في الشعر كما في كل شيء! ثم يدين الشعراء الكذبة وما كان أكثرهم ممن يدعون الفروسية ويحتلبون اخلاف الفكر ويزعمون أنهم يعانون من "حث الركائب وقطع المفاوز و مراس الشقاء"، وهم أبعد ما يكونون عن الفروسية وعن الركائب وعن المفاوز وعن الشقاء مما عاناه وعايشه طويلا أبو العلاء الشهيد، مسيح القرن الرابع الهجري وحسين القرن الرابع الهجري..نعم انهم اولئك الشعراء محض سماسرة وخونة ودسائس وتجار!!

لكن أغرب ما في النص الغريب قول أبي العلاء بأن من سلك فى الشعر أسلوب "الواقعية" و"العقلانية" والصدق "ضعُف ما ينطق به من النظام لأنه يتوخى الصادقة ويطلب من الكلام البرة"، ولذلك ضعف كثير من شعر فلان وعلان.

معنى هذا أن الشعر يضعف إذا غلب عليه الفكر، وأن الفكر يضعف إذا غلب عليه الشعر! ومعنى هذا أن الشاعر يصبح أقل شاعرية كلما كان أكبر فكرا، ويصبح أكثر شاعرية كلما كان أقل فكرا!!

الشعر والفكر
إلى أية نتيجة يسوقنا أبو العلاء الشاعر الفيلسوف والفيلسوف الشاعر، إلى التعارض الحتمي بين الشعر والفكر؟ إلى القطيعة التامة بين الفكر والشعر؟! ومن الذي يقول هذا؟! صاحب "سقط الزند"، الديوان الذي لا يرقى إلى قمته ديوان شعري آخر في تاريخ الشعر العربي من حيث الشعر والشاعرية والفكر، لا أستثني من ذلك ديوان المتنبي ولا ديوان أبي تمام ولا ديوان أبي نواس؟! ثم لماذا يا ترى رفض أبو العلاء الشعر ـ في كلام له قديم ـ "رفض السقب غرسه والرأل تريكته"، على حد تعبيره.

المصطلح السري
إذن ما الحكاية بالضبط؟!

لم يكن الرجل معنيا بالشعر والشاعرية أساسا فى لزوم ما لا يلزم ـ المقدمة والديوان ـ بقدر ما كان معنيا بالتفكير النظري وبالتخطيط والتدبير والتجنيد والحشد الوئيد الحذر الذي يصطنع الشفرة ويصطنع الرموز ويخلق المصطلح السري للحركة الجديدة!..ولم يكن ممكنا في عصر كعصر أبي العلاء أن يتم أي تحرك حقيقي على المستوى العلني، فلم يكن هناك مفر من التحرك على المستوى السري الباطني الساكن، خاصة حين اختلطت "الاتجاهات" وتضاربت "المذاهب" وتخبطت "الطوائف":

سكونا خلت أقدم من حراك

فكيف بقولنا حدث السكون؟

هنا نعود الى استشهاد أبي العلاء ببيت الشعر القديم السابق ذكره فى مستهل هذا الحديث:

في ليلة لا نرى بها أحدا

يحكي علينا الا كواكبُها

لهذا كان شاعرا ومفكرا من الطراز الأول في "سقط الزند"، وكان أقل شاعرية وأكثر فكرا في "لزوم ما لا يلزم"، ولكنه كان واعيا بموقفه فى الحالين.

أخيرا لا أدرى لماذا يمر بذاكرتي الآن قول الشاعر الشيلي "نيكانور بارا":

"لعله يجدر بي أن أعود إلى ذلك الوادي،
إلى تلك الصخرة التى كانت فى يوم من الأيام داري،
وأبدأ فأنقش من جديد،
من النهاية حتى البداية،
العالم..مقلوبا ومعكوسا"

ربما لأني تعبت! وربما لأننا نقول ما نعيد ونعيد ما نقول! وربما لأننا نعيش عصرا "مشرقا" إلى أبعد حدود "الاشراق"! لا كعصر أبي العلاء، ذلك العصر الضرير! وربما لأن أبا العلاء قال قديما:

ظلوا كدائرة تحول بعضـها

من بعضها فجميعها معكوس

ثم يرد على خاطري وأنا أكتب، كالعادة، على سجيتى قول الشاعرة الأمريكية "ماري.أ.ايفانز":

"عندما أموت،
أنا متأكدة،
أنه سوف تسير خلفي جنازة كبيرة،
سيأتي المتطفلون،
ليروا ما إذا كنت حقيقة ميتة،
أم أننى أحاول أن أثير المتاعب!"


--------------------------------------------------------------------------------

المقالة الخامسة
خصومة خسرها الأدب العربي

كنت أتمنى لو اصطدم العقاد بطه حسين أو طه حسين بالعقاد، إذن لأعطت المعركة بينهما الكثير من الثمار التى كان يمكن أن يفيد منها الأدب العربي الكثير. فلا شك أن الصدام بين عميدي الأدب العربي وبين رأسين كرأسي العقاد وطه حسين، كان سيُحدث ضجة لا يستطيع أحد أن يتنبأ بنتائجها. وثمة خصومة قديمة لم تُؤت ثمارها فى تاريخ الأدب العربي ألا وهي الخصومة بين أبي العلاء المعريوداعي الدعاة، انسحب منها أبو العلاء العري لأسباب سياسية واتفق الطرفان على الصمت بعد جدل قصير، أو لعل ياقوت الراوي شاء أن يختصر الخصومة وأن يزعم أنهما اتفقا على الصمت. كم كانت هى الأخرى معركة مفيدة ومثمرة وخطيرة للنتائج.

رسالة الغفران
على أن الصدام بين العقاد وطه حسين كاد يحدث حين كتب العقاد عن الخيال في رسالة الغفران فقال: "..أما أن يُنظر إليها كأنها نفحة من نفحات الوحي الشعري على مثال ما نعرف من القصائد الكبرى التى يفتن فى تمثيلها الشعراء والقصص التى يخترعونها اختراعا، ويُنظر إليها كأنها عمل من أعمال توليد الصور وإلباس المعاني المجردة لباس المدركات المحسوسة، فليس ذلك حقا وليس فى قولنا هذا غبن للمعري أو بخس لرسالة الغفران، كلا ولا هو مما يُغضب المعري أن يُقال هذا القول في رسالته".

هذا فى نفس الوقت الذي يؤكد فيه العقاد: "ان رسالة الغفران نمط وحدها في آدابنا العربية وأسلوب شائق ونسق طريف فى النقد والرواية وفكرة لبقة لا نعلم أن أحدا سبق المعري إليها، اللهم إلا إذا استثنينا محاورات لوسيان فى الأولمب والهاوية، وفذلكة جامعة لاشتات من نكات النحو واللغة. ذلك تقدير حق موجز لرسالة الغفران".

طه حسين يخالف العقاد
واستفزت هذه الكلمة الدكتور طه حسين البارد الأعصاب، فكتب يقول: ".. ولكن الذى أخالف العقاد فيه مخالفة شديدة هو زعمه فى فصل آخر أن أبا العلاء لم يكن صاحب خيال حقا فى رسالة الغفران. هذا نُكر من القول لا أدري كيف تورط فيه كاتب كالعقاد. نعم ان العقاد كاتب ماهر يُحسن الاحتياط لنفسه، فهو بعد أن أنكر الخيال على أبي العلاء عاد فأثبت له منه حظا قليلا. ولكنه يستطيع أن يخدع بهذا الاحتياط قارئا غيري، أما أنا فلن أنخدع له، فهو ينكر على أبي العلاء أن يكون شاعرا عظيم الحظ من الخيال في رسالة الغفران، (سنة سودة) كما يقول العامة. وهل يعلم العقاد أن دانتي إنما صار شاعرا نابغة خالدا على العصور والأجيال واثقا من اعجاب الناس جميعا بشيء يشبه من كل وجه رسالة الغفران هذه. استغفر الله ان من الأوروبيين الآن من يزعم أن شاعر فلورنسا قد تأثر بشاعر المعرة قليلا أو كثيرا".

العقلانية..والفنية!
والسؤال هو: ما مدى التوفيق الذي أصابه كل من العقاد وطه حسين في فهم رسالة الغفران؟ هنا نموذج لامكانية الصدام بين الطبيعة العقلانية للعقاد والطبيعة الفنية لطه حسين. ومهما يكن الأمر فان طه حسين فنان مفكر أكثر منه مفكرا فنانا، بينما العقاد مفكر فنان أكثر منه فنانا مفكرا. وأقرب الأشياء إلى الطبائع أن يفهم العقاد ما يعجز عنه طه حسين، مهما كانت الصلة النفسية والروحية بين طه حسين وأبي العلاء المعري. بل انى كثيرا ما أشك فى فهم طه حسين لأبي العلاء، وبالذات لرسالة الغفران، مع أن رسالة الغفران ـ وفي احدى فقراتها على التخصيص ـ تشكل المنبع أو الأصل الذي استقى منه طه حسين فكرته فى كتابه الشهير "فى الشعر الجاهلى". ومن السذاجة أن يُؤخذ عمى طه حسين واشتراكه معه فى محبسه أو محبسيه دليلا على قدرة طه حسين فى فهم أبي العلاء، فقد يشترك اثنان في عاهة دون أن يشتركا في الفكر.

إن قراءة واحدة لكتاب "صوت أبي العلاء" لطه حسين تدلل على أنه أبعد كثيرا من أبي العلاء فى الفكر وفي الطبيعة وفي الآفاق. لم يكن إذن طه حسين بأقدر على فهم أبي العلاء من العقاد العقلاني. ولا يمكن تخيل أن العقاد أخطأ فهم رسالة الغفران حيث نجح طه حسين. وفهم رسالة الغفران بالذات يحتاج إلى الطبيعة العقلانية لدى العقاد أكثر منه إلى الطبيعة الفنية لدى طه حسين، مهما كان القرب المزعوم لطه حسين من أبي العلاء المعري. على أن العقاد باعتراف طه حسين ـ لم ينكر تماما الخيال في رسالة الغفران، وانما أثبت لأبي العلاء ـ على حد تعبير طه حسين ـ حظا منه. إنما أنكر فقط أن تكون نفحة من نفحات الوحي الشعري، وهى فعلا ليست نفحة من نفحات الوعي الشعري التى يفتن فى تمثيلها، أي ليست مسرحية كما أنها ليست قصة أو رواية. ولكن العقاد فى تعليقه الموجز على رسالة الغفران لم يقل لنا إذن ما هي. إنها ليست قصيدة من القصائد الكبرى (التى يفتن فى تمثيلها الشعراء)، وليست قصة. نعم، ولكن يا استاذنا العقاد ما هى وما عساها أن تكون؟ هنا، كأنما اتفق العقاد مع نفسه على الصمت الذى اتفق عليه داعي الدعاة وأبوالعلاء أو المؤرخ ياقوت لأسباب فى نفس العقاد أو في نفس أبي العلاء أو في نفس ياقوت أو فى نفس يعقوب! فما عساها تكون بواعث هذا الصمت؟

بواعث الصمت
لم يكن العقاد عاجزا عن الرد على طه حسين، خاصة وأن طه حسين أخطأ فهم العقاد وقوله مالم يقل. إذن لابد أن تكون بواعث الصمت لدى العقاد أقوى من بواعث القول والاضافة والشرح تماما، كبواعث الصمت لدى أبي العلاء، خاصة إذا تذكرنا أن أبا العلاء لم يكن يناقش داعي الدعاة بقدر ما كان ينسحب من المناقشة خطوة بعد خطوة فى كل مرة تجددت الرسائل بينهما. يريد للمناقشة أن تنتهي ويريد لنفسه النجاة من الفخ المنصوب له ـ فيما كان يُظن ـ ويريد لداعي الدعاة أن يتركه وحاله وألا يجره إلى حديث لا تُحمد مغبته خاصة وأن الظاهر أن داعي الدعاة قد أحسن فهم أبي العلاء. والدليل على ذلك أنه يخاطبه بقوله فى رسالته: "فاذن هو ـ حرسه الله ـ بمقتضى هذا الحكم مرتو من عذب مشرب هذا العلم وانما ليس يبوح به لضرب من ضروب السياسة، والدليل على كونه ناظرا لمعاده سلوكه سبيل العيش بالتزهد وعدوله عن الملاذ من المأكول والمشروب والملبوس وتعففه عن أن يجعل جوفه للحيوان مدفنا، أو أن يذوق من درها لبنها، أو يستطعم من طعام استُكدت عليه فى حرثه وانشائه".

هذا الضرب من ضروب السياسة الذي أشار إليه داعي الدعاة يدلل ـ كما قلت ـ على أنه أحسن فهم لغز أبي العلاء في "رسالة الغفران" أيضا وإن كان الحديث يجرى عن لزوم ما يلزم. وهو باعث الصمت الذى اتفقا عليه في النهاية، وهو نفسه باعث الصمت لدى أبي العلاء، وهو أخيرا السبب فى حرمان الأدب العربي من خصومة ثرية كان يمكن أن تنشأ بين العميدين العقاد وطه حسين. لقد استطاع طه حسين أن يتكلم باستفاضة فنية، حيث عجز العقاد عن الكلام فى دروب السياسة التى تفتحها أمام القاريء ـ وخصوصا قاريء كالعقاد ـ رسالة الغفران. إذن فقد هرب العقاد من المناقشة كما هرب أبو العلاء مضطرا، لا عن عجز، والدليل على هذا رد أبي العلاء حين يقول مخاطبا داعي الدعاة: "قال العبد الضعيف العاجز أحمد ابن عبد الله بن سليمان: أول ما أبدأ به، أني أعد سيدنا الرئيس الأجل المؤيد فى الدين ـ أطال الله بقاءه ـ ممن ورث حكمة الأنبياء، وأعد نفسي الخاطئة من الأغبياء.

وهو بكتابه إلى متواضع، ومن أنا حتى يكتب مثله إلى مثلي؟! مثله فى ذلك مثل الثريا كتبت إلى الثرى. وقد علم الله أن سمعي ثقيل، وبصري عن الأبصار نقيل. قُضى على وأنا ابن أربع، لا أفرق بين البازل (الجمل إذا استكمل الثامنة) والرُبع (الفصيل الذي ينتج في الربيع)، ثم توالت محني، فأشبه شخصي العود المنحني، ومنيت في آخر عمري بالإقعاد، وعداني عن النهضة عاد.

وأما ما ذكره سيدنا الرئيس الأجل المؤيد في الدين، فالعبدُ الضعيفُ والعاجز يذكر له مما عاناه طرفا، فأقول:

إن الله جلت عظمتُهُ حكم على بالإزهاد، فطفقت من العُدم في جهاد، وأما قول العبد الضعيف العاجز: غدوت مريض العقل والدين فالقني..، فانما خاطب به من هو فى غمرة الجهل، لا من هو للرياسة علم وأصل".

عمل سياسي
رسالة الغفران إذن عمل سياسي قبل أن تكون شيئا شيئا آخر والكلام فيها ضرب من ضروب السياسة وخوض فى صميمها فى كل عصر. ولقد قلت مرارا إنها برنامج سياسي أو خطة عمل، أو بالتعبير الحديث "مانفستو"، ومن هنا خطورتها وخطورة الحديث فيها. ومن هنا أيضا اتفاق كل من داعي الدعاة وأبي العلاء وياقوت على الصمت، ومن هنا أخيرا صمت العقاد عمدا عن الرد على طه حسين وهنا آخرا الفرق بين الطبيعة العقلانية والطبيعة الفنية حين تغلب الأولى الأخيرة أو العكس. وهنا يتجلى ظلم النُقاد للعقاد، وما أكثر المظالم التى تعرض لها العقاد حيا وميتا، ولكن هذا موضوع حديث آخر.


--------------------------------------------------------------------------------

المقالة السادسة
حول رسالة الغفران لأبي العلاء المعري

لا يصح أن نقول: "وُلد أبو العلاء المعري عام كذا، وعاش كذا عاما، ومات في عام كذا"، فالمهم أن الرجل عاش فى النصف الثاني للقرن الرابع الهجري، والأهم أنه شغل الناس فى عصره وما يزال يشغلهم فى غير عصره منذ أكثر من ألف عام وحتى كتابة هذه السطور التى لم ولن تكون الأخيرة فيما يُكتب عن أبي العلاء. عاش عصرا مليئا بالاضطرابات والقلاقل والانشقاقات فى الدولة الاسلامية، مزدحما بحركات التمرد والخروج والثورة، مليئا بالهبات الشعبية الهائجة، حافلا بمصارع الملوك ومصارع الشعراء، ومصارع المفكرين والقادة والرواد، مصطرعا بالمذاهب المتعددة والمختلطة والمتضاربة والمتشابهة والمتناقضة فى جميع أنحاء العالم العربي.

ماذا بقي له مجالا للاختيار سوى الاعتزال؟

ولقد استغرقه هذا الموقف، موقف المعتزل، حتى لقد اعتزل الاعتزال والمعتزلين، واستغرق هو هذا الموقف منذ أربعيناته حتى موته فى الثمانينات من عمره. ولم يكل أبدا عن املاء شعره حتى لقد كتب أهرامات من الشعر والنثر ضاع أغلبها أو دُفن معه أو تناقلته الألسن دون أن تدري شعر ونثر من هذا، حتى ضاع أغلب أبي العلاء المعري وأكثر ما أنتجته قريحته مما أشار هو نفسه إليه أكثر من مرة فى مقدمة "سقط الزند" ومقدمة "اللزوميات" ومستهل "رسالة الغفران". ولا يصح أبدا أن يُعامل أبو العلاء معاملة غيره من الشعراء بأن يُقال: "قال أبو العلاء فى الموت" أو "قال فى الخلود" أو "قال فى البعث" أو "الخمر.." وما الى ذلك مما درج عليه نقاده وشراحه. فهو شاعر ليس بالبسيط، انما هو صاحب مذهب متكامل تطرق منه الباب الصحيح، فتدلف الى دهاليز المذهب والى سراديب الفكر البشري فى أعمق أعماقه وفى أرقى تجلياته.

يأخذ البيت برقبة الآخر والسطر برقبة السطر والشطر يشد اليه الشطر، وهكذا كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا، ولا مجال هنا للتجزيئية لأنه كما قلت مذهب متكامل البناء قوي الأسس راسخ من المقدمات الى النهايات. أما ما هذا المذهب فتلك قضية أخرى سبق وأن أفردنا لها حديث آخر طويل ومنفرد. أما موضوعنا الآن فهو رسالة الغفران التى دوخت وما تزال تدوخ النقاد والشراح وعلماء الكلام والنحويين والعروضيين. ونحن نزعم انه ما من أحد على الاطلاق استطاع أن يقترب من أبي العلاء ذلك القرب الذي يمكنه من الفتوى فى الرجل أو مذهبه.

ونحن لا نزعم لأنفسنا هذا الشرف كما لا نزعمه للآخرين انما هي محاولات على الطريق الى أبي العلاء. انما حسبنا أن نلفت النظر الى بعض الظواهر، الى نوعية استشهاداته من أعلام الشعر. قل لى ماذا تختار أقل لك من أنت! وليس غريبا أن يختار أبو العلاء المعري فيمن يختار فى مستهل الرسالة علقمة الفحل وهو شاعر جاهلي عمر طويلا، والموقف الذي كان بين علقمة وبين امريء القيس. ثم ليس غريبا أن يختار أبا زيد، وهو يعني أبا زيد الأنصاري البصري، والثقة فى النحو واللغة كما يلقبه سيبويه. ثم عدي بن زيد العبادي، وهو شاعر جاهلي نصراني والذي يقول:

أعاذل ما يُدريك أن منيتـــــي

إلى ساعة في اليوم أو فى ضحى غد

فذرني فمالي غير ما أُمض إن مضى

أمامي من مالي إذا خف عـــودي

وحُمت لميقات إلى منيتــــــي

وغودرت قد وسدت أو لم أُوســـد

وللوارث الباقي من المال فاتركــي

عتابي فإني مصلح غير مفســــد

ثم يختار أبو العلاء الأُقيشر، ثم أبا نواس، ثم النمر بن تولب العكلي، ثم نُصيب بن رباح أبو محجن الذي يقول:

أهيم بدعد ما حييت فان مت

فواحزنا من ذا يهيم بها بعدي

ثم أحمد بن الحسين المتنبي، ثم أخا ثمالة (المبرد)، ثم أخا دوس (ابن دريد)، ثم يونس بن حبيب الضبي، ثم سيبويه، ثم الكسائي، ثم أبا عبيدة، ثم عبد الملك بن قريب (الأصمعي)، ثم البكري (أعشى قيس)، ثم هوذة بن على، ثم عامر بن الطفيل، ثم زهير ابن أبي سلمى، ثم أبا ذؤيب الهذلي، ثم النابغة الجعدي، ثم لبيد، ثم حسان ابن ثابت، ثم الشماخ معقل بن ضرار، ثم أبا على الفارسي، ثم يزيد بن الحكم الكلابي، ثم حميد بن ثور الهلالي، ثم جران العود النميري الذى يقول:

حملن جران العود حتى وضعنه

بعلياء فى أرجائها الجن تعزف

وقلن تمتع ليلة النأي هـــذه

فإنك مرجوم غدا أو مسيــف

ثم الكندي امرؤ القيس..إلى غير ذلك مما يضيق عنه الحصر، حتى شاعر الجن الذى نسبه إلى الجني أبي هدرش الذي يقول:

حمدت من حط أوزارى ومزقها

عني، فأصبح ذنبي الآن مغفورا

وكنت آلفُ من أتراب قرطبـة

خُودا، وبالصين أُخرى بنت يغبورا

أزُورُ تلك وهذي، غير مُكـترث

في ليلة قبل أن أستوضح النـورا

ولا أمر بوحشي ولا بشــــر

إلا وغادرته ولهان مذعـــورا

.... إلى آخره مما لا تشك فى أنه من شعر أبي العلاء نفسه منسوبا إلى الجن، الأمر الذي يذكرنا بترجمة شيطان لعباس محمود العقاد. وقصيدة الجني في رأينا تشكل أروع مفتاح لرسالة الغفران، وفيها يلعب الرجل بالألفاظ اللعبة التي يجيدها فيملأ القصيدة بالألغاز ثم يفسر هذه الألغاز ثم يعود فيغطي التفسير.

نقطة أحرى نحب أن نستلفت إليها النظر وهى الأبيات التي يستشهد بها من شعر السابقين وطبيعة هذه الأبيات، على أنه ما تزال أشعار العفاريت أخطر ما قاله أبو العلاء فى رسالة الغفران. فهو يتخيل ابن القارح وقد ركب بعض دواب الجنة ويسير، فاذا هو بمدائن ليست كمدائن الجنة، ولا عليها النور الشعشعاني، وهي ذات أدحال وغماليل. فيقول لبعض الملائكة:

ابن القارح: ما هذه يا عبد الله؟

المــلاك: هذه جنة العفاريت الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وذُكروا فى الأحقاف وفي سورة الجن، وهم عدد كثير.

ابن القارح: لأعدلن إلى هؤلاء فلن أخلو لديهم من أُعجوبة.

المــلاك: فيعوج عليهم، فإذا هو بشيخ جالس على باب مغارة، فيسلم عليه، فيحسن الرد ويقول: " العفـريت: ما جاء بك يا انسي؟

ابن القارح: سمعت أنكم جن مؤمنون، فجئت ألتمس عندكم أخبار الجنان، وما لعله لديكم من أشعار المردة.

العفـريت: لقد أصبت العالم ببجدة الأمر..فسل عما بدا لك.

ابن القارح: ما اسمك أيها الشيخ؟

العفـريت: أنا الخيتعور أحد بني الشيصبان، ولسنا من ولد إبليس ولكنا من الجن الذين كانوا يسكنون الأرض قبل ولد آدم صلى الله عليه...

ابن القارح: أخبرني عن أشعار الجن، فقد جمع منها المعروف بالمرزُباني قطعة صالحة.

العفـريت: إنما ذلك هذيان لا معتمد عليه، وهل يعرف البشر من النظيم إلا كما تعرف البقر من علم الهيئة ومساحة الأرض؟ وانما لهم خمسة عشر جنسا من الموزون قل ما يعدوها القائلون، وإن لنا لالآف أوزان ما سمع بها الإنس وإنما كانت تخطر بهم أُطيفال منا عارمون، فتنفث إليهم مقدار الضوازة من أراك نعمان. ولقد نظمت الرجز والقصيد قبل أن يخلق الله آدم بكور أو كورين. وقد بلغني أنكم معشر الانس تلهجون بقصيدة امريء القيس "قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل" وتُحفظونها الحزاورة فى المكاتب، وإن شئت أمليتك ألف كلمة على هذا الوزن، على مثل: *منزل وحومل* وألفا على ذلك القري يجيء على *منزلُ وحوملُ* وألفا على *منزلا وحوملا* وألفا على *منزله وحومله* وألفا على *منزلُه وحوملُه* وألفا على *منزله وحومله* وكل ذلك لشاعر منا هلك وهو كافر، وهو الآن يشتغل فى أطباق الجحيم.

ابن القارح: أيها الشيخ، لقد بقى عليك حفظك.

العفـريت: لسنا مثلكم يابني آدم، يغلب علينا النسيان والرطوبة، لأنكم خلقتم من حمإ مسنون، وخُلقنا من مارج من نار.

ابن القارح: أفتمل على شيئا من تلك ألأشعار؟

العفـريت: فإذا شئت أمليتك ما لا تسقُهُ الركاب، ولا تسعه صحف دنياك.

ابن القارح: (لنفسه) لقد شقيت فى الدار العاجلة بجمع الأدب. ولم أحظ منه بطائل..ولست بموفق إن تركت لذات الجنة وأقبلت أنتسخ آداب الجن، ومعي من الأدب ما هو كاف، لاسيما وقد شاع النسيان فى أهل ادب الجنة، فصرت من أكثرهم رواية وأوسعهم حفظا، ولله الحمد".

واضح أن أبا العلاء هو نفسه "الخيتعور"، وهو نفسه في هذا المشهد ابن القارح، وواضح أن ثقافته الموسوعية النادرة حتى فى علم الهيئة وعلم الحساب تسخر من مثقفي عصره ومن علماء الكلام ومن النقاد والشراح.

إن الحديث عن أبي العلاء حديث يطول فإلى عودة مع أبي العلاء الذي يقول، ولطالما اتهم بالتشائم ظلما:

لو قيل لم يبق سوى ساعة

أملت ما تعجز عنه سنـة


--------------------------------------------------------------------------------

المقالة السابعة
بين هوامش الغفران

(1) سؤال عن ابن القارح:

لا يوجد عمل فى أدبنا العربي على اطلاق تحار فيه العقول كما تحار في "رسالة الغفران" لأبي العلاءالمعري. وأكثر من هذا ابتعاثا للحيرة الدوافع التى دفعت رجلا كأبي العلاء إلى أن يكتب مثل هذه الرسالة الالغازية الى رجل كابن القارح. فمن هو ابن القارح؟

ان أبا العلاء نفسه يحدثنا بأنه يعرف ابن القارح معرفة سطحية حين يقول: "..وأول ما سمعت بأخبار الشيخ من رجل واسطي يتعرض لعلم العروض، ذكر أنه شاهده بنصيبين وفيها رجل يُعرف بأبي الحسين البصري، معلما لبعض العلوية، وكان غلام يختلف اليه يُعرف بابن الدان، وقد اجتاز الشيخ ببلدنا والواسطي يومئذ فيه. وقد شاهدت عند أبي أحمد عبد السلام ـ رحمه الله ـ كتبا عليها سماع لرجل من أهل حلب، وما أشك أنه الشيخ، وهو لا يفتقر الى تعريف بالقريض، كما قال الطائي:

تحميـه لألاؤه أو لوزعيتـــه

من أن يُذال بمن؟ أو ممن الرجل"

إن أبا العلاء نفسه يشك فيما هو يؤكد أنه لا يعرف ابن القارح معرفة يقينية قاطعة. ثم ان ابن القارح لم يكن بالشخصية الشهيرة المتفقهة فى علوم الدين واللغة والكلام، وما كان لرجل كأبي العلاء أن يكتب مثل هذه الرسالة التى تعتبر أهم ما كتب الى شخصية عابرة لا تتمتع بالصيت القوي فى عصره. فقد كان المعقول أن يكتب مثل هذه الرسالة الى شخصية كشخصية أبي نصر ابن أبي عمران ـ داعي الدعاة ـ لا الى ابن القارح المزعوم. ثم ان ابن القارح يُعرفنا ببدء التعارف بينه وبين أبي العلاء بطريقة أكثر سطحية وأكثر ابتعاثا للقلق والحيرة، وذلك حين يقول في رسالته إن أبا العلاء ذكر اسمه فى مناسبة عابرة حين قال فى ما نقله ابن القارح: "بلغني عن مولاي الشيخ ـ أدام الله تأييده ـ أنه قال وقد ذُكرت له: أعرفه خبرا، هو الذي هجا أبا القاسم على بن الحسين المغربي".

هذه المعرفة الجادة من جانب أبي العلاء تثير القلق أكثر. ثم ان رجلا كأبي العلاء كانت العيون تترصده وتطارده فيما يكتب أو يقول. ورجلا بهذا الحذر، ورجلا سبق أن سُرق له رحل به رسائل أخرى من ابن القارح الى أبي العلاء، رجلا كهذا وبمرارات أبي العلاء لا يمكن أن ينزلق إلى التراسل المفتوح بينه وبين ابن القارح الذي نحار بين كونه يعرفه معرفة يقينية وكونه يعرفه معرفة سطحية، وبين واقعة أنه كتب رسالة الغفران له بالذات وان أخذت الشكل الشفري الالغازي الغامض التى هي عليه. هو الذي لم ينزلق الى مثل هذا الحوار المفتوح مع داعي الدعاة ولم يستجب لاستفزازاته المتكررة.

هل ابن القارح شخصية وهمية ألبسها أبو العلاء أفكاره وجسد فيها رؤاه؟ نبادر فنقول لا. انها شخصية حقيقية ولكن الاسم مستعار تختفي وراءه شخصية هامة فى ذلك العصر. انهما يتحاوران أو يحاورها أبو العلاء دون أن يتورط فى كشف النقاب عن وجهها الحقيقي وذلك لظروف سياسية واعتبارات دينية معينة. تُرى من عساها تكون تلك الشخصية؟ نحن نظن، وهذا أغلب الظن، انها شخصية داعي الدعاة نفسه الذي اتفق مع أبي العلاء بعد المراسلة على المساكتة أو الصمت كما يسجل ذلك ياقوت. فمن الملفت للنظر هذه الجدية فى الكتابة الى ابن القارح، ومن الملفت للنظر هذه الطمأنينة والثقة فى الكتابة إليه. ومن الملفت للنظر أن رجلا كأبي العلاء بطبيعته كان شديد الحذر من الناس ومن العصر. ومن الملفت للنظر أخيرا ذكاء ابن القارح فى الرسالة التى وصلت الى أبي العلاء بين رسائل أخرى سرقت ثم رغم ذلك يكتب أبو العلاء رسالته بطريقته الشفرية هذه ممتحنا ذكاء ابن القارح وذكاء من قد تقع بين يديه رسالة الغفران. من هنا شدة صعوبة رسالة الغفران على من يحاول حل ألغازها وفك رموزها وتحليل محتواها.

(2) سؤال آخر عن حكاية الطفل:

ورد فى رسالة الغفران ذكر لطفل بما نصه أن التأله، أي التوحيد، غريزة فى الطفل. وورد ذكره فى مطلع رسالة الغفران بطريقة غير مباشرة، كما سبق أن ورد فى لزوميات أبي العلاء وفي سقط الزند. ومن العبث أن نمر بهذه الظاهرة مرورا عابرا، فهو الطفل الذي يريد أبو العلاء أن يربيه منذ المهد كما فعل أفلاطون والفارابي من قبل لكى يحكم العالم. فهل كان أبو العلاء هو الآخر طوباويا؟. إن أفلاطون لم يكتف بأن كتب جمهوريته بل راح يبحث عنها بالعمل السياسي الدائم فى العالم المحيط به، وكذلك الفارابي. نعم لقد مارسوا السياسة قبل وبعد التورط فى الطوباوية. فهل تورط فيها أبو العلاء الذى قال: "انما هذه المذاهب أسباب لجلب الدنيا إلى الرؤساء"..نعم. حتى أبو العلاء كان طوباويا، وراح يبحث فى عصره عن الشخصية التى تتجسد فيها أحلامه وأفكاره ورؤاه فلم يجد فيمن حوله أحد ولم يجد بين المذاهب على الاطلاق مذهبا واحدا يستريح إليه ويهدأ عنده فراح يبحث عن امكانية تربية المستبد العادل أو المهدى المنتظر وذلك منذ نعومة أظفار الطفل. ولذلك جاءت رسالة الغفران خط عمل أو برنامج سياسي لا علاقة له فى الواقع بجنة أو بنار الا علاقة الحقيقة بالمجاز.

04-06-2008, 03:17 AM
عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}


الردود في هذا الموضوع
مخطوط نادر وقيم للشاعر المصري الراحل نجيب سرور : تحت عباءة أبي العلاء - بواسطة abu yasaar - 04-06-2008, 03:17 AM

المواضيع المحتمل أن تكون متشابهة…
الموضوع الكاتب الردود المشاهدات آخر رد
  قنبلة جديدة تؤكد ديمقراطية نظام الرئيس الراحل .....؟؟؟؟؟؟!!!! زحل بن شمسين 3 1,453 11-21-2012, 02:21 AM
آخر رد: زحل بن شمسين
  محمود أمين العالم - قطب اليسار المصري نبع الحياة 0 1,167 09-17-2011, 09:51 AM
آخر رد: نبع الحياة
  أسلاف المجلات (أبولو، حوار، جاليري68، الكاتب المصري...) assayyad 28 17,814 01-05-2011, 10:53 PM
آخر رد: Enkidu61
  قراءات في فلسفة العلوم : باروخ برودي، نجيب الحصادي pinno 3 2,451 10-24-2009, 11:57 PM
آخر رد: pinno
  ابو العلاء المعري - الواد روقه 30 7,373 03-29-2009, 06:17 AM
آخر رد: إبراهيم

الانتقال السريع للمنتدى:


يتصفح هذا الموضوع من الأعضاء الان: بالاضافة الى ( 1 ) زائر
{myadvertisements[zone_2]}
إتصل بنا | نادي الفكر العربي | العودة للأعلى | | الوضع البسيط (الأرشيف) | خلاصات التغذية RSS