عقل بلاجسد..د/أحمد خالد توفيق بقلم د/ أحمد خالد توفيق
عقل بلاجسد
عندما شطر (روذرفورد) الذرة ذهب إليه صحفي أمريكي يغطي الخبر .. واقترح عليه أن يصوره في ثلاث صور: الصورة الأولى له جوار الذرة .. الصورة الثانية له وهو يكسر الذرة .. الصورة الثالثة له وهو يقف باسمًا جوار أجزاء الذرة المشطورة !
نفس الشيء ينطبق على (ستيفن هوكنج)الذي مزج بين جاذبية (أينشتاين) وميكانيكا الكم.. نعرف جميعًا أنه اكتشف شيئًا مهمًا جدًا لكننا لا نفهم ما هو بالتحديد ..
بالنسبة للغربيين هو رمز بصري شهير مثله مثل (غاندي) و(جيفارا) و(شابلن) .. حقًا لا يفهمون بدقة ما يتكلم عنه، لكنهم ينبهرون وكفى ...
(ستيفن هوكنج) .. العالم البريطاني الذي اعتبره الكثيرون (أينشتاين) آخر .. إنه أستاذ رياضيات في (كمبردج) يشغل ذات الكرسي الذي شغله (نيوتن) يومًا ما.
هناك في بناية الفيزياء القديمة المتسخة في (كمبردج) يراه الطلاب بوجهه الضحوك وعينيه الزرقاوين الماكرتين، حتى ليبدو كطالب مثلهم .. لكنه يتحرك على مقعده المتحرك الذي لا يفارقه .. فقط يضغط بأنامله على أزرار تتيح له أن يوجه المقعد، ثم على أزرار أخرى تتيح له الكلام وإلقاء المحاضرات، فيخرج الصوت من الجهاز كأنه روبوت يتكلم .. هذا هو الرجل الذي تغير نظرياته الكون، وكأن الأقدار اختارت أن يرمز هذا الرجل الذي لا جسد له إلى إنسان المستقبل .. مجرد عقل على مقعد متحرك.
كرس (هوكنج) حياته لدراسة مفاهيم الزمن والفضاء كما شرحتها النسبية. ويقول عن نفسه:
"انبهرت طيلة حياتي بالأسئلة المرعبة التي تواجهنا، وحاولت أن أجد تفسيرًا علميًا لها. كيف نشأ الكون؟..السؤال واضح ويبدو سهلاً بدرجة خادعة .. لكن الإجابات بعيدة عن متناولنا حتى الآن.. إن فكرتنا عن الكون اليوم صارت غريبة حقًا ..الانفجار الكبير .. الثقوب السود .. الخ"
ولد عام 1942 أثناء الحرب العالمية الثانية، في ذات اليوم الذي يكمل 300 عام على موت (جاليليو) أول من غير مفهوم الكون بالنسبة لنا، وانتزع الأرض من مكانتها الجميلة كمركز الكون لتصير تابعًا لنجم متوسط الحجم . فهل لهذا التاريخ معنى ما ؟
عاش أبواه في لندن حيث كان أبوه يدرس الطب، فلما كبر دخل جامعة أكسفورد ليدرس الرياضيات برغم اعتراض أبيه، ثم نال منحة تفوق ليدرس في كمبردج وأثناء الامتحانات النهائية لاحظ أنه يتصرف بشيء من الخرق، فطلبت منه أمه أن يرى طبيبًا .. تم تشخيص داء (لو جيريتش) العصبي عام 1963، وهو مرض قاتل يطلقون عليه أيضًا اسم (التصلب الجانبي الأميوتروفي) .. وسرعان ما تدهورت حالته وتوقع الأطباء أنه لن يعيش حتى الدكتوراه. صدم الفتى الذي لم يجن ثمرة شبابه الغض بعد وانهار وقضى وقته في الحانات.. لكنه لسبب ما عاد ليواصل الدراسة ..كان معجبًا بفتاة معينة وقدر أنه بحاجة إلى الحصول على الدكتوراه كي يجد ما يكفي من مال ليتزوجها. حصل على الدكتوراه عام 1966 من ثم تزوج وصار أبًا لثلاثة أطفال. وارتقى حتى صار أستاذ فيزياء الجاذبية عام 1977.
في الستينات آمن (هوكنج) بأنه لو كان الكون يتمدد فلابد أن ميلاد الكون شهد ظاهرة غريبة يسمونها (التفرد) وهي لحظة توحد الزمان والمكان. عام 1969 برهن مع طبيب بريطاني آخر على أن الكون بدأ من نقطة لا متناهية الكثافة، وهذا معناه أن للزمن بداية. في السبعينات درس الثقوب السود مستخدمًا ميكانيكا الكم، وبرهن على أنها قد تشع الطاقة.. كان هذا فتحًا جديدًا لأننا نتصور الثقب الأسود كالبالوعة .. يمتص كل شيء ولا يخرج منه شيء على الإطلاق بسب جاذبيته المرعبة. معنى هذا أيضًا أن الثقب الأسود يمكن أن يزول .. إن معدل بقاء الثقب الصغير عشرة آلاف مليون سنة .. وعندما ينحل تنبعث منه جزيئات جاما. وقد أطلق العلماء على النظرية اسم (شعاع هوكنج).
كان رأيه أنه أثناء الانفجار الذي كون الكون وجدت كتل تزن عشرة أس تسعة طن لكنها بحجم البروتون، أي أن هذه الثقوب السود الضئيلة في حجم جزء من الذرة، لكن كتلتها تفوق جبل إفرست.
الزمان والمكان محددان لكنهما بلا حدود أو حافة .. لا يوجد تفرد، وقوانين العلم سارية دائمًا حتى على تكوين الكون. طبعًا لا أفهم حرفًا لكن من يفهمون هذه الأمور قالوا إنه كلام مهم جدًا.
عام 1985 أصيب وهو في جنيف بالتهاب رئوي، وقد اقترح الأطباء على زوجته أن تتركه يموت لكنها لم تقبل هذا وطارت به إلى إنجلترا حيث أنقذ حياته جراح بريطاني، لكنه فقد صوته نتيجة هذا. هكذا تم تزويده بكمبيوتر يسمح له بإطلاق صوت الكتروني.
باستعمال هذا الجهاز وجهاز آخر لتقليب الصفحات كتب (موجز تاريخ الزمن) الذي احتل قائمة أفضل المبيعات أربعة أعوام كاملة، وهو ما لم يحدث في التاريخ، حتى أنه دخل موسوعة (جنيس).
عامة فلسفة (هوكنج) التي قدمها لعلمي الفيزياء والفلك هي مزجه بين نظرية أينشتاين حول الجاذبية التي تسير حركة الكون ونظريات ميكانيكا الكم التي تقول إن المادة على الصعيد الذري تعمل بشكل عشوائي. والنظرية الأخيرة لم يقبلها (أينشتاين) قط لكن (هوكنج) برهن على أنها ممكنة.
(هوكنج) اليوم في الثالثة والستين، وقد نال تكريمًا يكفي عشرة علماء .. لا شك في أنه يستحق لأنه مزيج من العبقرية وتحدي الإعاقة معًا.. لقد أعدته الأقدار لمهمة كشف أسرار الكون، لهذا لم تمنحه إلا العقل .. وسلبته كل شيء آخر.
http://www.rewayty.com/Public/ShowArticl...icleID=276