AUGUST RUSH
44340 السنة 132-العدد 2008 ابريل 30 24 من ربيع الآخر 1429 هـ الأربعاء
حب وموسيقي!
بقلم: نــبيـــل عمـــــر
قد يعيش البشر علاقات عاطفية, لكن قلة منهم هم الذين يعيشون حبا, والفارق كبير بين العلاقة العاطفية والحب, العلاقة العاطفية مشاركة تحكمها قوانين وأعراف كالتي تحدث في أي شركة بين شركاء, يلتزم فيها كل طرف بدوره ويحاسب الآخر علي المكسب والخسارة من هذه المشاركة, فإذا وجد أن المشاركة لا تفيده بالقدر الذي يتوقعه أو ينتظره, أو تصور أن الطرف الآخر يستفيد من هذه العلاقة أكثر منه, يفكر علي الفور في فسخها وفض هذه الشركة!
وحين يدخل البشر في علاقات من هذا النوع يتوقف انتظامها أو انقطاعها علي حسابات عقلية في الغالب ممزوجة بقليل من المشاعر والوجدان, وقد ينتقلون من علاقة إلي علاقة دون أن يعثروا أبدا علي جوهر الحب أو يعرفوه!
أما الحب فهو ليس مجرد علاقة عاطفية هو وجود عاطفي, عالم خاص مكون من اثنين, له لغة سحرية حروفها غامضة لا يفهمها سواهما, قوانينه سرمدية كالتي تجعل الريح نسيما, وماء المطر عذبا, وهفيف الشجر موسيقي, وضوء القمر سحرا, وغروب الشمس شجنا, وسواد الليل سرا, ونور الشمس خلودا, ودقات القلب نداء, ونظرة العين وصلا, وملمس الأصابع ولعا, وهزة الرأس دفقة, وبرودة الشتاء دفئا, ونجوم السماء رفقا, وصوت الحبيب لمسا وغيابه شوقا!
والوجود بطبيعته لا يقوم فقط علي حسابات المكسب والخسارة, وماذا أخذت وماذا أعطيت, الوجود, وجود في ذاته, قيمته في جوهره مهما أحاطه من صعوبات أو إحباطات, مثل الحياة تماما بحلوها ومرها..
العلاقات تتبدل أو تموت لكن الحب لا يتبدل ولا يموت..
العلاقات تجارب, ولكل تجربة علامة في ذكرياتنا, مجرد علامة تقول إن إنسانا ما تشارك معنا لبضع ساعات أو أيام أو شهور أو سنين..
أما الحب فهو حياة لا يترك علامة, لأنه لا يتركنا, وإنما يعشش فينا ويسكنا ويسبح في مشاعرنا ويرتجف مع كل دقة من دقات قلوبنا.. ولا يرحل أبدا مهما كانت تجاربنا بعده, إلا مع الرحيل الأخير!
هذا بالضبط ما شعرت به في فيلم أوجست رش, فيلم تفيض فيها المشاعر وتحلق, وإذا لم تكن تحب فقد تبحث عن هذا الحب وتتمني أن تعيشه ولو لحظات..
وكان طبيعيا أن تقرن مخرجة الفيلم كريستين شريدان حكايتها بالموسيقي, بل كانت الموسيقي عنصرا أساسيا فيها, فالعاشق مغني روك وكاتب أغان حديثة, والحبيبة عازفة تشيللو موهوبة في أوركسترا كلاسيكي..
ويتعارفان علي سطح بناية عملاقة في ليلة استكمل فيها القمر جماله وسحره ويشع بضيائه الفضي وجدا وولعا, يتعارفان لأول مرة كما لو أنهما يعرفان بعضهما البعض من ألف سنة ويمضيان الليلة القمرية معا.. وتجبرهما الظروف علي الافتراق في اليوم التالي, فالأب يري في ابنته موهبة فذة يجب ألا يعطلها شيء حتي لو كان حبا.. فيأخذها قسرا ويغادر المدينة..
أما الحبيب فلم يعد قادرا علي الغناء, فهي لن تسمعه, وإذا لم تسمعه فلمن يكتب أغانيه ولمن يغنيها..
توقفت هي عن العزف.. وتوقف هو علي الغناء..
ولكنها حملت في تلك الليلة القمرية, وحين أنجبت طفلها ادعي الأب أنه مات, بينما هو تنازل عنه إلي أحد الملاجئ..
12 عاما وبضعة أيام تمر.. والطفل إيفان في الملجأ..
لكن إيفان ولد موهوبا.. يسمع أصوات عيدان القمح موسيقي, وصوت السيارات موسيقي, صراخ المارة.. ضجيج الزحام.. الموسيقي داخله تحثه علي البحث عن أبويه.. كان في عبقرية موتسارت, وموتسارت عزف وألف الموسيقي وهو في الخامسة من عمره.. لكن الفارق أن موتسارت واقع وله أبوان..
أما إيفان فهو نجم الفيلم ومحروم من أبويه.. ويتصور أن الموسيقي التي بداخله هي التي ستقوده إليهما..
ويهرب إيفان من الملجأ.. ويعثر علي طفل عازف جيتار من أطفال الشوارع, ويشده الجيتار ويتبعه إلي حيث يسكن الضائعون في الحياة, مبني مهجور يسيطر عليه فنان شرير ضائع يعيش علي شحاذة هؤلاء الأطفال العازفين..
يطارد إيفان الجيتار لا العازف, فالموسيقي هي أمله الوحيد في العثور علي أبويه المجهولين, وهي داخله مثل بركان يغلي ويضغط كي يخرج إلي الفضاء الواسع, ويقبض علي الجيتار في سواد الليل ويعزف عليه بما يشعر به, فتخرج موسيقي شجية بديعة تدغدغ الإحساس والمشاعر, فيكتشف الفنان أنه أمام كنز يمكن أن يدر عليه فلوسا طائلة, فيمنحه الجيتار ويعلمه, ويعزف إيفان الموسيقي التي تصدح في عقله وتمسك بأنفاسه, وهو علي يقين بأن هذه النغمات ستطير عبر الأثير إلي أبويه, وتناديهما إليه.. وتتزاحم النغمات والألحان علي نفسه, فيزداد إبداعه..
لا أريد أن أقص عليكم حكاية الفيلم, ولكن أود أن أقول لكم ماذا يصنع الحب في النفوس.. فالحب هو أصل الوجود وسره كما يقول الصوفيون!
وبالفعل تصنع موسيقي إيفان المعجزة, ليس في أن يعثر علي أبويه, ولكن أن يعثر أبواه علي نفسيهما مرة ثانية, ويعودا إلي الحياة بعد12 عاما من الضياع والفقد والحيرة والتشتت.. فالحب لا يموت!
أوجست رش.. فيلم يخاطب مشاعرك ولا يهتم بعقلك.. فما أجمل المشاعر حين تفيض وتتحول إلي سحر يقيك من تشوهات زمن ملوث!
|