المغالطة الجديدة التي اتيتني بها يا سي ابراهيم هي نسبة ما أقوله للنص الديني، وهي مغالطة لا تخفى على من تابع حوارنا أنني لم أستدل بآية ولا حديث ولا حتى رأي فقيه معروف ولا مجهول. ببساطة لأن الموضوع يتعلق بوصف واقع وليس بتنزيل أحكام، وإلا لأتينا بالأدلة المتعلقة به.

وحيث أن معرفة ماهية الحضارة هو وصف واقع، فهذا يحتاج دليلا عقليا يصف ما على الأرض، ويبرر نسبته إلى اللفظ المحكي الذي كان له معنى آخر سابق على الربط يسمى بالمعنى اللغوي، ثم اكتسب معنى جديدا له علاقة بالمعنى اللغوي السابق، وهذا الأمر نقوم به حين التعريف يا برهوم ليس للفذلكة، ولا لأن الأزهر فرض هذا المنهج، بل منعا لحوار الطرشان من عينة شلونك وجوابها البسة خلفت امبارحة وجوزها اكل ولادها! فيكون عادة في اللغة العربية التي تولد من ذاتها التعريف دون حاجة للتعريب أنها تربط بين المعنيين اللغوي والاصطلاحي برابط علاقة المعنى.

ليس ذنبنا يا إبراهيم أنك حين عكفت على دراسة اللاهوت والناسوت، نسيت أن هناك عالما في الخارج اسمه اللغة العربية، وهو بحر عميق لا يحسن السباحة فيه من أدمن القعود عند الشطوط، فلا تصارع غواصا يا فتى أتى لينقذك من الغرق في بحر المصطلحات.

عزيزي برهوم،

الحضارة عندك حزيرة مطاطة، تتمغط لتلبس ما تريده أنت، حيث أنك تظن أن لفظ إنسان متحضر يعني بالضرورة التحسين، وأن عكسها انسان متبربر متوحش همجي.
الحضارة عكسها البداوة يا برهوم، وليس كلاهما بلفظ سيء ولا حسن، حتى أهرع لربطها بخير أمة أخرجت للناس، الحضارة وصف ظاهر منضبط لوجهة النظر عن الحياة المتميزة المبنية على قاعدة فكرية ثقافية. والوصف بالتحسين والتقبيح لا يكون لمجرد التحضر، بل لنوعية التحضر.

فحضارة فاسدة مثل حضارة الغرب، أعلت من شأن الفردانية على حساب المجتمع، وأشاعت الأنانية، وجعلت مقياس الأعمال النفعية، وغاية الغايات نيل المتع المادية، وجعلت رأس سلم القيم القيمة المادية، ثم ألغت القيم الروحية من سلم القيم، هذه حضارة، وقادرة على الإبداع لأنها تنظم سلوك الانسان، لكنها حضارة فاسدة لفساد الأصل.

أما العرب والمسلمين، فحاليا لا حضارة لهم، بل هم منسلكون في عباءة الحضارة الغربية، يقبلون ما تجود به عليهم من فتات وسموم، يحسبون المنجزات العلمية حضارة لضعف تفكيرهم وسطحيته الشديدة، ولو أنهم أرادوا الحضارة لسعوا لها سعيها، ولا يعيبهم أن يكون أساس حضارتهم الإسلام أو غيره، طالما انه من عندهم ومن إنتاجهم وإخراجهم، فلا حضارة تنقل لغير أهلها إلا إن اتبعوا أهلها.

عزيزي برهوم، العرب كانوا أصحاب حضارة هي الحضارة الإسلامية، وهي النظر إلى العالم كله من زاوية خاصة ومحددة وهي أن العالم مخلوق لخالق يدبر أمره. نقطة أول السطر.

أما احترام الانسان أو اهانته فهذا ليس حضارة بحال، هذا مجرد نزعة توجد في البشر أن يكرموا بعضهم أو يهينوهم، وقد يهينك الحضري ويكرمك البدوي والعكس، وقد رأينا القبائل الهندية الحمراء البدوية الساكنة في شمال القارة الأمريكية تكرم الرجال شاحبي الوجوه الذين أتوا حاملين معهم الدمار والأمراض والقتل والتشريد وسلخ فروة الرأس، فما منع هذا الرجل شاحب الوجه أن يكون له حضارة الغرب، وما جعل كرم أخلاق الهنود واحترامهم لكلمتهم ومعاهدتهم، بل وإطعامهم "الحجاج" البيوريتانيين في ما يسمى اليوم عيد الشكر، ما جعل كرم أخلاقهم لهم حضارة مطلقا.

مع أنني أحترم كل الهنود الحمر وأكبر فيهم ما سمعته عنهم، وأحتقر عدوهم الذي لم يحترم كلمة ولا معاهدة، ولم يرقب فيهم إلا ولا ذمة.

أرجو أن تكون قد فهتمني، وأتمنى أن لا يغضي منك السؤال حين تعجز في بحور اللغة العربية العميقة واسعة الغور.