Array
الأخ العزيز عاشق الكلمة، تحياتي لك:
سؤال جميل. لاحظ أنك تربط ما بين الحضارة وما بين "الزنادقة" أو "الهراطقة" ورغم أني لا أريد لا سمح الله لوي ذراعك إلا أنك تكلمت هنا بالحق الإلهي مباشرة أو كأن الله نفسه نطق على شفتيك. لو قلت لي المقفع وأبو بكر الرازي وابن الراوندي وأمثال هؤلاء، فهؤلاء ليسوا صناع حضارة في نظري ولكن هؤلاء هم أنبياء الله مباشرة بل وأكثر. لكن هل في رأيك هؤلاء لوحدهم يصنعون حضارة؟ الحضارة يا صديقي هي إنجاز. يعني تقف أمام معالم شعب ما وتقول: شوف الانجازات هذه كلها وكم عددها، حقاً هذا شعب متحضر.. وطبعا تكون الحضارة سلوك وفعل. هل في نظرك أن واحد مثلي فعلا إنسان متحضر؟ يا راجل اعطس من بقك. نحن أبعد ما نكون عن الحضارة. لا تنخدع بالكلام المثالي الذي أكلم الناس به هنا فما أتمناه شيء وواقعي الحقيقي شيء آخر. نحن أبعد ما نكون عن الحضارة والتحضر.
[/quote]

كان العرب والمسلمون وقتها (في القرن الحادي عشر الميلادي مثلاً) يستطيعون أن يقفوا أمام سكان العالم ويقولون لهم: انظروا إلى هذه الانجازات التي صنعناها، إننا حقاً متقدمون !!! ومع هذا "فعرب اليوم " لا يستطيعون أن يقولوا هذا مطلقاً.
الأوروبيون في نفس القرن مثلاً - القرن الحادي أو الثاني عشر الميلادي-، كانوا لا يستطيعون الوقوف أمام العالم للمفاخرة بعلومهم ومعارفهم وإنجازاتهم (حضارتهم) ولكنهم اليوم يستطيعون هذا بعد جميع ما أنجازوا منذ زمن "يوحنا الأكويني" حتى اليوم .. ماذا يعني هذا؟

هذا يعني أن الحضارة ليس دائمة ثابتة مقيمة في شعب من الشعوب أبد الدهر. ولكنها تأتي وتذهب حسب مقدرة الشعوب على "تصدّر عالمها" من خلال انجازاتها. فلو استطاع شعب من الشعوب أن يحمل شعلة عالمه في زمن ما فإننا نقول عنه بأنه شعب متحضر (كحال شعوب أوروبا الغربية والولايات المتحدة اليوم مثلاً)، وإن تخلف عن هذا فإننا نقول عنه أنه "غير متحضر". لذلك فالعرب والمسلمون كانوا في عصورهم الخمسة الذاهبة (بين القرن الثامن والثاني عشر) متحضرين والأوروبيون متخلفون، بينما هم اليوم متخلفون والأوروبيون شعوب متحضرة. اليونانيون كانوا متحضرين في القرون العشرة التي أحاطت بميلاد المسيح، بينما كانوا شديدي التخلف في القرن السابع عشر مثلاً. الرومان كانوا في سمت الحضارة الانسانية ايام ملك "أوغسطس قيصر" (28 ق.م. - 14 م.) بينما لم يكونوا يطالون أسباب الحضارة في القرن الخامس والسادس الميلادي مثلاً.

لجميع هذا علينا ألا نقيس تحضر الشعوب في التاريخ بحالها في زمن قراءة الأحداث، لأننا - في هذه الحالة - ننكر على أصحاب الفضل فضلهم. فلرب شعب متخلف اليوم كان يوماً ما متقدماً بالنسبة لعالمه، ورميه بالتخلف الدائم عبارة عن "تزوير للتاريخ" ليس إلا. إذ ليس لمن يزور "بغداد" في القرن السادس عشر أن يستخلص بأن هذه المدينة كانت دائماً على مثل هذا الحال، فبغداد في ذلك القرن تختلف جذرياً عن بغداد في القرن العاشر مثلاً، كما يختلف "فراعنة" الزمن القديم عن مصريي العصر المملوكي(بالمقارنة مع عالمهم طبعاً).

أخيراً، قراءة التاريخ بهذا الشكل تقول لنا بأن الأيام دول و"الدنيا لمن غلبا"، وأن حالنا اليوم ليس ميؤوساً منه، وما علينا كي نأخذ بأسباب الحضارة إلا تعلم العبر ومحاولة السير، فما كان أمس ممكن أن يعود. طبعاً، هناك قراءة أخرى تفشت في كثير من الأوساط الأوروبية في القرن التاسع عشر وجسدتها "النازية" في القرن العشرين. هذه القراءة تقول بأن "الشعوب والأعراق" متراتبة هرمياً، منها ما هو في الحضيض وسوف يبقى هناك (الساميون عند الآريين مثلاً)،ومنها ما هو في القمة ويجب أن يسود (الآريون عند بعض الألمان مثلاً). هذه القراءة (الثانية) أخذت مجدها في أوروبا تحديداً - كما ذكرنا - في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، ولكنها انحسرت اليوم ولم يعد هناك من يتبناها بعد الحرب العالمية الثانية لأسباب وجيهة جداً.

واسلموا لي
العلماني