إن الدول الوطنية التي تأسست في بلدان ما يسمى بالعالم العربي بعد الحرب العالمية الأولى, قامت منذ البدء على أساس خاطئ يعتمد الفلسفة التالية : إن الوحدة ضد التنوع -- وإن تجاهل الجزء وكبته سيؤدي الى ذوبانه في الكل -- وقد اتخذت هذه الفلسفة سلاحاً لها مفهوم القومية العربية التي عملت على تجاهل حقيقة التنوعات السكانية لمجتمعات بلدان ما يسمى بالعالم العربي - المشكلة ليست في الإقرار بحقيقة وجود هذه العروبة التي تجمع الشعوب العربية بروابط ثقافية ولغوية ودينية وجغرافية اضافة الى المصالح السياسية والاقتصادية - لكن المشكلة هو سيادة المفهوم العرقي أو ما يسمى بالمفهوم القومي لهذه العروبة, أي التأكيد على شرط الأصل القبائلي التاريخي الذي يعتقد ويُفترض أنه متوفر في جميع الناطقين بالعربية! على هذا الأساس تمت محاربة وقمع جميع الطروحات التي تطالب باحترام التنوعات السكانية والثقافية الأخرى, تحت ستار : مكافحة الشعوبية ثم محاربة جميع الطروحات التي يمكن أن تؤكد على الأصالة الوطنية, باسم : مكافحة الميول القطرية .

لقد تجلى هذا الفهم العرقي القومي للعروبة بقياس وطنية المواطن بمدى أصالته العربية , واعتبار المواطنة والانتماء للوطن حسب ما يسمى ب (حق العرق والقومية), وليس على حق الأرض والوطن - لقد ابتدعت الانسانية منذ القدم وكذلك الديمقراطيات الغربية, مفهوماً يستحق الاستشهاد به: حق الأرض , أي أن الانسان يمتلك حق الحصول على المواطنة والجنسية بمجرد ولادته على أرض الوطن أو عيشه لسنوات معينة في الوطن - بناءً على هذا يتم منح الأجانب الجنسية مجرد ولادتهم أو زواجهم بمواطن أو مواطنة أو إقامتهم فترة معينة - إن حق الانتماء للأرض أقوى من حق الانتماء للقومية والسلالة العرقية, وهذا مالم تعترف به العروبة السياسية لحد الآن.

إن سيادة عقلية الانتماء القومي العرقي أدت الى ضعف الانتماء الى الأرض وتاريخها وثقافتها وناسها - بمعنى أن الحكومات لا تعامل المواطن والجماعات الوطنية على أساس الانتماء للوطن والاقامة على أرضه والانصهار بتاريخه وثقافته, بل على أساس الانتماء للتاريخ القبائلي العربي الحجازي القديم .



جهلة من السودانيين في الواقع مصابين بمرض النفس العروبي حيث روجوا للعروبة حتى ان بعضهم قال بان السودانيين اكثر عروبة حتى من السوريين والعراقيين،وعندما دحضنا اقوالهم هذه بالحجة والأدلة وكذبناهم بثوا إشاعة أخرى وهاجمونا قائلين بأننا "أعداء العروبة" لكننا أردنا فقط إنقاذ جمهورية السودان من تخبطها وفوضاها اللذين يعود الفضل في زيادتهما زيادة عظيمة إليهم ولأننا دعونا الشعوب السودانية إلى النهوض بنفسها والى الاعتماد على نفسها في قضاياها وشؤونها وحقوقها ومصالحها القومية والى الثورة على خيال العروبة وهذيان الوحدة العربية وجيوش العرب والعروبة في قضاياها ومصالحها القومية التي تعنيها وحدها والتي يجب أن تقوم هي بها إذا كانت تريد سيادة حقيقية وتحقيق أهداف حياتها ومطامحها.

أننا نرفض العروبة السودانية الوهمية المخالفة للواقع وللحقيقة "عروبة الأمة العربية" الممتدة على شواطئ آسيا وأفريقيا، وعروبة "لحم الرأس" الموجودة في جماعات مختلفة الأجناس متفرقة البيئات ومتباعدة والنفسيات المتباينة، عروبة "المجتمع العربي" الذي تنقصه كل خصائص المجتمع الصحيح الحي الفاعل وكل عوامل الاتحاد الاجتماعي، وعروبة "الثلثمائة مليون عربي"، فإن رد الفعل عند عدد المصابين بمرض هذه العروبة الوهمية كان مبالغا فيه، فالبعض هاجوا وماجوا والبعض عادوا إلى إشاعة "عدو العرب" والحقد على العرب والعروبة، فبرهنوا على أنهم من النوع المزمن المستعصي، فجميع الأمور تبدو في نظرهم على خلاف واقعها وعكس حقيقتها، ولكن من دواعي السرور لي أن نعترف ان عدداً كبيراً من الذين لم يكن قد بلغ الداء بهم دوره الخطر أيدوا ما ذهبنا إليه بخصوص وهمية العروبة السودانية خاصة .

إن المرضى العروبيين النفسيين استنتجوا من خلال قراءتهم السطحية لمقالاتنا السابقة عن العروبة أن هناك "عداوة للعرب وحقدا عليهم" فقاموا يبثون من هذه الإشاعات البعيدة كل البعد عن الحقيقة وعن مقاصدنا التي قدناها وأوضحناها بكل وضوح وهي "عدم واقعية عروبة السودان التي ينادي بها البعض" وإذا كانت هناك عروبة حقيقية ، فهي العروبة التي تنادي بها بعض الجماعات في سوريا والأردن .. الخ .

إن العروبة الواقعية التي تقول بها بعض الحركات في سوريا والاردن .. الخ، تختلف كل الاختلاف عن عروبة "الأمة العربية والقومية العربية والوطن العربي والوحدة العربية و300 مليون عربي" الوهمية . إنهم واقعيون في الوجود، يروون العالم العربي في واقعه لا في تخيلات الواهمين، والعالم العربي في واقعه عالم ببيئات وشعوب وأمم فلا تحاول إيهام الناس انه يمكن تحويل هذه البيئات المختلفة والشعوب والأمم إلى بيئة واحدة وشعب واحد وأمة واحدة، بواسطة رابطة اللغة والدين أو بواسطة دخول كمية من الدم العربي فيما بين تلك الشعوب والأمم من نحو ألف سنة ونيف، أو بواسطة الطيارات والبواخر والقطارات .

إن العروبة الوهمية هي التي تقول بإمكان إحداث مثل هذا التحويل غير الواقعي بتجميع أبناء الشعوب السودانية مثلا في هوية واحدة اسمها الأمة العربية او القومية العربية ،انها تنافي كل النواميس والواقع – إن هذه العروبة الوهمية الهدامة هي العروبة التي نحاربها في وطننا السودان – هي العروبة التي وصلت بالشعوب السودانية إلى كوارث تدميرية .

يمكن للعروبيين السودانيين المولعين بجمع شعوب العالم العربي مجتمعا واحدا وجذب بيئاته المنتشرة في قارتين (آسيا وأوروبا) حتى تصير بيئة واحدة إن يقضوا حياتهم وينفقوا ما في أيديهم في هذا السبيل. ليذهبوا ويهتموا بلملمة قبائل الرزيقات والهبانية والمسيرية والحمر .. الخ المتحاربة مع بعضها البعض وتحضيرهم وتثقيفهم وتعليمهم، وليذهبوا ويجمعوا الرشايدة والزبيدية ليصيروا شعبا واحدا وأمة واحدة ويفتحوا المدارس والمستشفيات لأبناءها ليتعاشروا ويتزاوجوا ويعالجوا المصالح والقضايا والأهداف معا، وليذهبوا ويجمعوا عرب البدون والاهوار وبني مرة واقناع دول الخليج للاعتراف بهم كعرب لهم حقوق في هذه البلدان وجعلهم شعب واحد - إننا لا ننكر عليهم شيئا من ذلك إذا كانوا واقعيين - ولكننا ننكر عليهم أن يغرروا بشأن الشعوب السودانية في مثل هذه المحاولات اليائسة .

إن العروبيين الواهمين يجب ان يفهموا شيئا واحد والذي يقول أن في العالم العربي أمما وشعوبا لكل منها خصائص ومقومات ووحدة حياة وإمكانيات فعلى كل أمة أن تعي وجودها وحقيقتها وأهدافها ومصالحها وان تنهض معتمدة على نفسها ثم تعمل على التعاون مع الأمم الأخرى .


العروبة التي تهمل المبادئ الجغرافية والإقليمية والسلالية والتاريخية والاجتماعية والاقتصادية والنفسية الاجتماعية، أي جميع العوامل التي توجد الواقع الاجتماعيَّ وتتكفل بحفظه، ولا تستند إلاّ إلى الدين وإلى اللغة ، هي عروبةٌ زائفةٌ لا نتيجة لها غير عرقلة سير المبادئ القومية الاجتماعية الصحيحة في السودان والأقطار العربية عامة.

إن أصحاب العروبة التي تجمع كل المتناقضات هم أعداءُ العرب الحقيقيون لأنهم أعداءُ نشوء القومية الصحيحة في كل أمة من أمم العالم العربي، وأعداءُ نهوض كلِّ من هذه الأمم كرجُلٍ واحد لنيل سيادتها وحقوقها والارتقاء نحو مطالبها العليا المكوّنة من نسيج شعورها وآمالها ومطامحها وأشواقها الأصيلة في نفس كل أمة ومزاجها، وهم يتوهمون، لجهلهم الفنون والعلوم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية.

إن هؤلاء "العروبيين" قد زيَّفوا القومية ووضعوها في السوق للتداول عوضاً عن القومية الحقيقية التي هي شعور كل أمة بشخصيتها ونفسيتها وحقوقها ومطالبها. وكما يلتبس على غير الخبراء بالعملة والطباعة المالية أمر العملة الزائفة، كذلك يلتبس على غير الخبراء بالعلوم الاجتماعية والسياسية وغير الممارسين للقومية الصحيحة أمر القومية الزائفة، فهم قد جعلوا العروبة في مقام الرابطة الدينية، ثم رسموها برسوم القومية زيادةً في التمويه والتضليل.

إن القومية هي الشعور بشخصية الأمة وحقوقها ومُثُلها العليا، وهي، في الحقيقة، شخصية المجتمع ونفسيته، فلا تُطلق إلا على المجتمع المكوِّن شخصية فزيائية ونفسية واحدة. ولما لم يكن العالم العربي قطراً واحداً وبيئة واحدة وسلالة واحدة ومجتمعاً واحداً فلا يمكن أن تكون له شخصية فزيائية ونفسية واحدة، وبالتالي لا يمكن أن تكون له قومية واحدة ومطالبُ واحدة ونظرةٌ واحدة إلى الحياة والفن.

العالم العربي بيئاتٌ متباينةٌ ومجتمعاتٌ متباعدة. وحاجات كلِّ مجتمع ومطالبُه العليا ونظرتُه إلى الحياة والكون تختلفُ عن حاجات الآخر ومطالب كلِّ منها ونظرته إلى الحياة والكون. وبناء عليه يكون العالم العربي أمماً لا أمة - وهذه الأمم لها صلاتٌ لغويةٌ ودينية بعضها ببعض توجب عليها سلوك خطة التقارُب والتفاهم ما أمكن والتعاون على نسبة الاشتراك في بعض الشؤون السياسية أو الثقافية أو الاقتصادية التي يمكن أن توجد في ما بينها، والطريقة الوحيدة لحصول هذا التقارب وهذا التفاهم وهذا التعاون هو في أن تنهض كل أمةٍ بنفسها وتفهم وضعها وحاجاتها ومثلها العليا، ويتمرَّن أفرادها على ممارسة الحقوق المدنية والسياسية، فتصبح قادرةً على إدراك ما يمكنها من أن تشترك فيه مع أمم العالم العربي ويتفق مع حاجاتها ورغباتها وما هو النصيب الذي تقدرُ على القيام به، وما لا يمكنها الاشتراكُ فيه ولا يتفقُ مع حاجاتها ورغباتها - وهذه هي العروبة الصحيحة التي تجمعُ بين المحافظة على شخصيات أمم العالم العربي وحريّاتها وحقوقها من جهة، والتعاون الطوعي أو الاختياري في جميع المصالح المتبادلة في ما بينها من جهة أخرى - هذه هي العروبة الصحيحة وهل عرف دعاة العروبة في السودان هذه الحقيقة وترك الشعوب السودانية لوحدها؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟.



عبد الغني بريش اللايمى
http://www.sudanboard.net/viewtopic.php?p=...30b8cbe44d282a5