كلمة رئيس الوزراء إيهود أولمرت خلال المراسم الرئيسية التي أُقيمت لإحياء ذكرى الهولوكست في متحف" ياد فاشيم " ......




فخامة رئيس الدولة السيد شمعون بيريز ...
معالي الحاكم العام لأستراليا السيد مايكل جفري وعقيلته ..
القائمة بأعمال رئيسة الكنيست النائبة كوليت أفيتال ..
القائمة بأعمال رئيسة المحكمة العليا القاضية أيالا بروكاتشيا ...
أعضاء الحكومة ونواب الكنيست ...
رئيس بلدية أورشليم السيد أوري لوبوليانسكي ..
جناب الحاخامين الأكبرين لدولة إسرائيل ..
رئيس مجلس مؤسسة (ياد فاشيم) السيد تومي لابيد ..
رئيس إدارة مؤسسة (ياد فاشيم) السيد أفنير شاليف ..
ضباط جيش الدفاع والشرطة ...
أصدقاء الشعب اليهودي ..
أعضاء السلك الدبلوماسي ..
أعزاؤنا الناجون من المحرقة ...

ستة ملايين إنسان راحوا ضحايا المحرقة : رجل .. ثم امرأة .. ثم عائلة .. ثم طفلة رضيعة ... ثم فتى مراهق... ثم عروس تزوجت حديثاً... ثم أم مرضعة ... ثم مسنّ ثم مئة ثم عشرة آلاف.. وصولاً إلى هذا الرقم الفظيع الذي يستحيل تصوره: ستة ملايين ... ستة ملايين من بني البشر.

لقد مرت 63 عاماً على انتهاء العمل الشيطاني لمصانع الموت التي شغلها النازيون وأعوانهم ، لقد مضت فترة أكثر من جيلين على وقف دوران عجلات آلية الموت المُحكَمة التي عملت للقضاء على المزيد والمزيد من اليهود. ورغم انقضاء هذه الفترة إلا أن أبعاد المحرقة الفظيعة ما زالت أعجز عن إدراك كل ذي عقل وأفظع مما يتصوره وتقشعر الأبدان وترفض التسليم بهذا الأمر.

اليوم وبعد مضي 63 عاماً ، أيمكنكم أن تصدقوا أن كراهية اليهود والإسرائيليين تتجلى بصورتها القبيحة في منابر مختلفة في أنحاء المعمورة لتواصل التحريض وتسميم العقول وإضلالها . ولا يغيب أيضاً صوت المنكرين للمحرقة أي أولئك الذين أصابهم جنون العداوة لدرجة التفوّه بكلمات تنكر حقيقة وقوع أكبر مأساة عرفتها البشرية.

إننا نقول اليوم لهؤلاء الكارهين والمنكرين والخبثاء حيثما كانوا ، وكذلك لكل من يسمح لهم بالعمل في البيئة المحيطة بهم: لن يتكرر هذا الأمر إلى أبد الأبدين!

إنكم الذين تنكرون وجود السكك الحديدية ومحارق الغاز ومعسكرات الإبادة التي بقيت ذاكرة صامتة ؛ إنكم الذين تنكرون شهادات عيان الملايين من الناس - لا يهمّكم الدقة التاريخية بل ترغبون في نفي مبررات وجود الدولة اليهودية ، لكنكم مخطئون باعتقادكم بأن هذه الدولة قامت بسبب المحرقة وكأن محو المحرقة من الوجود يتبعه تلقائياً زوال سبب قيام إسرائيل. إذ إن دولة إسرائيل التي تحتفل الأسبوع المقبل بعيد استقلالها الستين لم تقُم بسبب الهولوكست. إن دولة إسرائيل هي إحقاق الحق الطبيعي للشعب اليهودي في العيش حراً في بلاده أرض صهيون وأورشليم. أما المحرقة فقد أبرزت ضرورة وجود هذه الدولة والثمن الرهيب الذي اضطُر الشعب اليهودي لدفعه آنذاك بسبب غياب دولة كان بالإمكان أن تكون مأوى وملجأ ليهود العالم.

وبالتالي نحن نؤكد هاهنا أنه لن ينقاد أي طفل يهودي آخر وهو يرفع يديه استسلاماً إلى الموت ؛ ولن يتم فصل الرجل عن زوجته والصبية عن والدها والحفيد عن جدته لمجرد كونهم يهوداً ؛ ولن يتم إذلال المسنين على رؤوس الأشهاد واحتقارهم وضربهم ضرباً مبرحاً حتى يلفظوا أنفاسهم الأخيرة لمجرد كونهم يهوداً.

أيها الحضور الكرام .....

إن إحياء ذكرى المحرقة وبطولات اليهود فيها تتسم هذا العام بطابع قدوم مئات الآلاف من الناجين الذين عمَّروا بيوتهم في إسرائيل وجمعوا شتات حياتهم واستجمعوا قواهم ليحققوا أحلامهم. وهناك الكثير من الفتيات والشبان الذين لم تمضِ إلا سنوات قلائل على خوضهم صراع البقاء في الغيتوات ومعسكرات الإبادة إلا أنهم انخرطوا لدى وصولهم إلى البلاد في الكفاح من أجل إقامة الدولة. ورغم أنهم لم يتزودوا إلا بسلاح هزيل ولم يخضعوا إلا لتدريبات قصيرة وعاجلة إلا أنهم أرسلوا للمشاركة في أهم حرب لشعبهم ألا وهي حرب الاستقلال. وقد أدى هؤلاء الفريضة الإلهية القائلة "وعليكم اختيار الحياة" غير أن العديد من هؤلاء المقاتلين لم يعودوا من جبهات القتال المختلفة أو من القتال في إطار التنظيمات السرية المختلفة أو وحدات جيش الدفاع التي انبثقت منها.

وبالتالي فإننا - وعندما نستحضر ذكرى شهداء معارك إسرائيل ونحتفل بمرور ستين عاماً على قيام الدولة - سنتذكر أيضاً أولئك المطاردين الذين أصبحوا منقذين ، أولئك الحالمين الذين صاروا مقاتلين ، أولئك الذين صانوا بدمائهم حياتنا على أرض هذه البلاد.

غير أن الكثير من الناجين من المحرقة الذين انخرطوا في حياتنا هنا وصولاً من معسكرات الإبادة والغيتوات وعزلة الغابات قد صاروا جزءاً لا يتجزأ من المجتمع الإسرائيلي. إذ ما من مجال في حياتنا - سواء أكان ذلك في الجيش والمجال الأمني أو في العلوم والثقافة والتربية والتعليم والرياضة والجامعات ومعاهد الأبحاث - إلا وقد ساهم فيه هؤلاء الناس الذين كانوا ينازعون الموت في معسكرات الإبادة قبل سنوات قلائل ليس إلا ونفذوا منها بجلودهم (بكل ما يحمله هذا التعبير من معانٍ) . إنهم استمدوا من تجاربهم القاسية الرغبة الجامحة في ممارسة الحياة والجرأة على احتواء آلامهم والشوق العارم لبناء الحياة الجديدة المفعمة بالأمل والمليئة بالقوة - وكل ذلك في الدولة الفتية.

إننا نشاهد في معرض يقام في هذه الأيام هنا في متحف (ياد فشيم) شيئاً عجيباً وهو كيف أن الروح الإسرائيلية المميزة الخاصة التي طالما كنا نحن "أبناء البلد" الذين وُلدوا في البلاد نتباهى بإبداعها ، كانت بالفعل في كثير من الحالات وليدة الروح والمواهب التي حملها الناجون من المحرقة لدى وصولهم إلى هنا بصفة مراهقين أو بالغين بعد أن أكملوا تحصيلهم في مواطنهم الأصلية ودون أن يتقنوا لغتنا.

إن صورة "سروليك" ( كنية "إسرائيل" وهي رسم كاريكاتيري مشهور لصبي إسرائيلي بملامحه الخاصة) كانت نتاج عمل رسام الكاريكاتير "دوش" من مواليد المجر ، فيما ساهم قلم الصحافي الذي قدم من المجر وكان يدعى فرنتز كيشون (ثم أصبح يدعى هنا إفرايم كيشون) في إنتاج بعض تعابير المزاح الأكثر شهرة وشعبية في اللغة العبرية الدارجة المتجددة ؛ كما أن عدداً من أشهر الماركات التي تمثل الصناعة والاقتصاد في إسرائيل وكذلك المؤسسات الاجتماعية والثقافية لم يقم بوضعها رسام إسرائيلي صرف ذو شعر مسترسل يبهج القلوب وإنما رسام نجا من المحرقة النازية كان اسمه دان رايزينغر (وتم منحه فيما بعد ذلك جائزة إسرائيل). وهكذا الأمر في المسرح والسينما والرياضة والعلوم والتربية والتعليم والأمن - في شتى مناحي الحياة.

إننا وفي هذا اليوم بالذات نركع شاكرين للناجين من المحرقة ثم ننتصب فخورين إلى أبعد حد بما قدمه هؤلاء الناجون من مساهمات في بناء هذه البلاد.

ما من قوة في العالم أجمع تستطيع التصدي لروح الشعب اليهودي التي انبثقت من مهاوي التهلكة لتبلغ أعلى قمم الإبداع والنجاح وبناء قوة دولة إسرائيل.

غير أنه يجدر بي القول اليوم بصفتي رئيساً لحكومة إسرائيل إن الدولة لم تفِ دوماً بواجباتها إزاء الناجين. ومما يدعو للأسف أننا ارتكبنا بعض الخطايا وأخفقنا بإجحافنا بحقوق الناجين من الهولوكست في ممارسة حياة ذات نوعية وكرامة ، كما لم نعلم كيف ندرج احتياجاتهم على قائمة المسائل المتعددة المطروحة على الأجندة العامة لرصد الموارد اللازمة لها. إننا تحدثنا عن المحرقة والعِبَر المستخلصة منها وضحاياها لكننا عجزنا عن رؤية بعض الناجين وهم يغرقون في حياة من البؤس والفقر. لا مبرر لهذا النهج ولا مغفرة له.

لكننا أحدثنا التغيير حيث خصصنا للعام الحالي وللأعوام المقبلة الموارد اللازمة لضمان حياة كريمة لجميع الناجين من المحرقة. ولم يهدف هذا الإجراء إلى تكفير خطايا الماضي التي ارتكبتها جميع الحكومات فحسب بل جاءت من منطلق الوفاء بواجب أخلاقي نبيل نعتز بالاعتراف به وتحمل كامل المسؤولية عنه.

أما اليوم فتتعهد دولة إسرائيل البالغة الستين من العمر لملايين اليهود الذين اختفوا وسكتوا إلى الأبد بأننا سنحفظ إلى أبد الدهر ذكرى أحداث المحرقة. إن نشوء دولة إسرائيل وازدهارها وقدرة الناجين من المحرقة على العيش فيها بكرامة - تمثل مجتمعةً خير طريق للتذكار والمضي قدماً.

إننا نتذكر ونذكّر ونستعيد الذكريات - اليوم وغداً وعلى الدوام - إذ إن الذاكرة هي ضمانة وجودنا ، فيما سنجد الأمل والعزاء ببناء مستقبل دولة إسرائيل وضمان الأمن والسلام.

يتبع ...