(9)
" Irena Sendler "
2008 - 1910
++++++++++++++++++++++++++++++
عندما تتحول قصة حياة إنسان إلى ملحمة بطولية ... عندما تتمثل قمة المثل والتضحية وحب الغير في سيرة إنسان ... و عندما تعلم أن تضحية إنسان كانت السبب في منح حياة جديدة للمئات من بني البشر ... حينها لا بد أن تحني رأسك بخشوع وأن يتحرك شيء بداخلك و ربما تجد الدموع سبيلها إلى عينيك حينما تسمع برحيل هذا الإنسان مهما ابتعد عنك بالمسافة ومهما اختلف عنك بالدين واللون واللغة والجنسية وحتى لو كانت هذه المرة الأولى التي تسمع فيها باسمه لا بد أن يعني لك رحيله شيئاً .... خاصة وأنك تعلم أن قصة بطولية قد انتهت برحيل بطلها لينتقل من عالم الواقع إلى عالم الذاكرة والوجدان والحلم .... إنها قصة بطولة عنوانها اليوم وفي هذه اللحظة سيدة بولندية تدعى " إيرينا سيندلروفا "
بوجهها الملائكي وابتسامتها العذبة التي تنبع بالطيبة والبساطة والمحبة ... بملامح لم تستطع السنين تغييرها رغم كل الخطوط والتجاعيد التي رسمتها ... مع قلب طيب وعزيمة وتواضع وحب وبساطة وقناعة بالعيش .... غادرت عالمنا ورحلت بعيداً صباح يوم الاثنين 12 مايو 2008 ....
إنها إرينا سيندلير (Irena Sendler) أو كما تعرف بالبولندية (Irena Sendlerowa) والتي انتقلت إلى رحمة الرب منذ أيام قليلة لتطوي صفحات رحلة حياة امتدت على مدى 98 عاماً كانت فيها مثال للتضحية والشجاعة وحب الغير مهما كان الغير ومهما اختلف ، وهي التي كانت تقول أنها تعيش وفق المبدأ الذي غرسه والدها في نفسها وهو : " إن البشر ينقسمون و يتميزون عن بعضهم بالخير والشر أما العرق والدين والجنسية فكلها لا تهم " .
إنها " ارينا سيندلير " المسيحية الكاثوليكية ولدت في بولندا في العاصمة ( وارسو ) وحين كبرت اختارت أن تعمل في حقل الخدمة الاجتماعية البولندية و أن تكون عاملة اجتماعية ، وإليها يعود الفضل في إنقاذ نحو 2.500 طفل يهودي من الموت على يد الوحش النازي في الفترة ما بين أكتوبر 1940 وأبريل 1943 ......
فمع احتلال النازيين لبولندا عام 1939 وممارسة سياستهم الوحشية ضد اليهود ، سعت سيندلير ما بوسعها لتأمين الطعام والماء والعناية الصحية والملجأ للعائلات اليهودية والمساعدة في تهريب الأطفال ، كما كانت فيما بعد جزء من منظمة سرية تدعى (Zegota) والتي تأسست عام 1942 و كان هدفها مساعدة وإنقاذ اليهود المقيمين في الأراضي البولندية خلال الاحتلال النازي ، واستمر نشاط تلك المنظمة حتى عام 1945 وكانت تحت إشراف الحكومة البولندية الوطنية في المنفى حيث كانت الحكومة البولندية هي الممول للمؤسسة التي كانت فروعها الأساسية تتركز في عاصمة بولندا – وارسو كما كان لها فروع أخرى في مدينة كراكوف ولفوف.
وقد تبلورت شجاعة وبطولة إرينا سيندلير بما قامت فيه حين استغلت كونها عاملة اجتماعية وتعمل في التمريض لتدخل إلى الغيتو في وراسو (حي أقيم لعزل العائلات اليهودية تمهيداً لنقلهم جميعاً إلى معسكرات الموت ) ، و بحجة الكشف على الحالة الصحية لليهود هناك حيث أن النازيين كانوا يخافون أن تتفشى الأوبئة والأمراض المعدية خارج الغيتو ، فقامت سيندلير بعمليات إنقاذ وتهريب للأطفال اليهود من الغيتو سواء عبر سيارات الإسعاف أو مجارى الصرف أو بين المعدات الطبية وحتى في الحقائب والأكياس ....
ومن ثم إخفاء الأطفال لدى عائلات بولندية أو في الأديرة الكاثوليكية ، ولكن الأبرز كان هو عملية تزوير المستندات والوثائق الرسمية الشخصية للأطفال اليهود في الأراضي البولندية المحتلة ومساعدتهم في تنظيم الهروب خارج الحدود أو إيجاد مكان لاختبائهم.
كما كانت سيندلير ومنظمة زيغوتا تتعاون مع منظمات مسيحية كاثوليكية وخاصة مع جمعيات رهبانية التي كانت تساعد في إحضار شهادات تعميد لليهود لتوثيق مستندات إثبات شخصيتهم المزورة على أنهم مسيحيون ليسوا يهوداً وذلك لإنقاذ حياتهم ......
ونجحت ارينا سيندلير بعملها البطولي ذاك في إنقاذ حياة 2500 طفل يهودي من الموت ، وتهريبهم خارج البلاد أو إخفائهم بأمان حتى نهاية الحرب ...
قيمة بطولة سيندلير تأتي من طبيعة ما فرضه النازيون على سكان بولندا ، حيث كان أي بولندي يكتشف أنه يخفي اليهود في منزله أو مزرعته أو مكان عمله أو يتستر عليهم وينكر معرفته لوجودهم أو يساهم في تهريبهم وإبعادهم عن يد النازيين يتم الحكم عليه وعلى عائلته بالإعدام رمياً بالرصاص ، وهذا القانون الصارم جداً كان مختلف عن بقية الدول الأوروبية التي كان يعاقب فيها الأوروبي الذي يخفي اليهود أو يهربهم بأن يتم إرساله على معسكرات الاعتقال أو زجه بالسجن ، أما في بولندا فكان الموت ينتظر كل من يفكر بمساعدة اليهود ، لذلك نتخيل كم كانت قيمة بطولة أي بولندي يلبي واجبه الإنساني ويمد يد العون إلى اليهود في تلك المرحلة ...
إرينا سيندلير كانت تعرف ذلك وتعرف معنى أن يتم كشف نشاطها وما الذي يمكن أن تواجهه ، لكن ذلك زادها قوة وشجاعة ولم تستلم وواصلت مهمتها المقدسة ، تعمل ولا تكل في تهريب الأطفال وتزوير المستندات وإيجاد الملجأ المناسب لهم وكانت تحتفظ بأسماء الأطفال اليهود الحقيقية أسماء عائلاتهم وسجلاتهم الأصلية وتخفيها ، وتعد الأطفال أنهم سيعودون إلى عائلاتهم الأصلية ......
حتى جاء العام 1943 حينما اكتشفت الشرطة السرية النازية (الجستابو ) نشاط سيندلير وألقت القبض عليها ، و أرسلتها إلى سجن (Pawiak ) وهناك تعرضت لأبشع أنواع التعذيب والحرق وتكسير الأطراف كي تعترف وترشد إلى بقية أعضاء المنظمة التي تنتمي إليها ، إلا أنه رغم كل المحاولات بقيت صامتة رافضة أن تعترف وتفشي أسرار أصدقائها وزملائها في الكفاح ، فتقرر إعدامها ورميها بالرصاص إلا أنه وبأعجوبة نجت من الموت بعد أن نجحت محاولة زملائها في رشوة حراس السجن لتهريبها تحت اسم وأوراق مزيفة ، فخرجت ارينا محمولة وجسدها مليئ بالندب والحروق وأطرافها مكسورة ، لكنها لم تفقد عزيمتها وحاولت عد تعافيها أن واصل رسالتها في مجال الخدمة الاجتماعية ، ومع نهاية الحرب عادت إلى الأسماء والسجلات التي أخفتها قبل اعتقالها للبحث عن عائلات الاطفال اليهود لإعادتهم إليهم إلا أنه تبين للأسف أن معظم العائلات كانت وقوداً لمحارق الموت التي أقامها الوحش النازي في بولندا ....
مرت الأيام والسنين على هذه السيدة البولندية ارينا سيندلير وقصة بطولتها حاضرة ومتداولة بين كل من عايش وتأثر بحقبة الهولوكست ، وفي العام 1965 قرر متحف - ياد فاشيم – في أورشليم منح جائزة تكريم لارينا سيندلير وكانت ضمن أوائل الأسماء المنضمين إلى قائمة "خير الأمم " وهو اللقب الذي يطلق على أبناء الشعوب الأخرى الذين ساعدوا أبناء الشعب اليهودي في محنته وناصروه وأنقذوا حياة اليهود وحتى التضحية بالحياة أثناء مهمة إنقاذهم خلال الهولوكست ......
لكن المفارقة أن السيدة سيندلير لم تستلم جائزتها حتى العام 1983 لأن النظام الشيوعي الذي حكم بولندا منعها من السفر إلى إسرائيل .....
ونالت عدة جوائز وتقديرات أخرى من بنيها رسالة تقدير خاصة من البابا الراحل (بولندي الجنسية ) يوحنا بولس الثاني ، كما قام الرئيس البولندي ومجلس الشيوخ بتكريمها ، ومؤخراً وهو الأبرز كان ترشيحا لنيل جائزة نوبل للسلام عام 2007 لكن للأسف الجائزة لم تكن من نصيبها وذهبت لآل غور ، كم ظهرت عدة كتب عن سيرة حياتها وبطولتها كما لقبها البعض بأم أطفال الهولوكست ...
رغم ذلك كانت تلك السيدة الرائعة شبه منسية في وطنها ولم تنل ذلك التقدير الكبير الذي تستحقه شاهدة حية على تاريخ مؤلم وبطلة تنبض بالحياة ، وربما يعود ذلك لتواضعها الكبير وبساطتها وهي التي فضلت الابتعاد عن الأضواء وتمضية سنواتها الأخيرة في دار للرعاية في وارسو ...
و صباح الاثنين الماضي 12 مايو انتقلت ارينا سيندلير إلى رحمة ربها عن عمر يناهز 98 عاماً ، وأقيمت مراسم جنازتها أمس الخميس 15 مايو في وارسو ، ونعاها متحف ياد فاشيم وأعاد للذاكرة قصة صديقة للشعب اليهودي وبطلة بكل معنى الكلمة جسد أسمى المثل والقيم في حياتها .....
وداعاً يا بطلة بولندا .. وقديسة الحب والحنان...... والخيرة من بين الأمم ..... وصديقة الشعب اليهودي ... مهما كتبت في عظمتك وتضحيتك وطيبة قلبك لن تسعفني قواميس الرثاء والمحبة والفخر .. أهدي روحك الطاهرة زهرة حب من أرض صهيون باسم شعب أحبك وأخلص لذكرى تضحيتك .. وأطلب السماح عن كل من نسيك ونسي بطولتك فللأسف كثيرون منا نحن البشر لا نكرم الأبطال إلا بعد رحيلهم ..
باسم كل طفل وطفلة في أرض إسرائيل أصلي لراحة نفسك ( Irena Sendlerowa )