مرحباً

اعتاد المفكرون القدماء على تعظيم الفكرة والاشادة بها اذا كانت الفكرة جميلة فيما تدعو اليه وتبغي تحقيقه من قيم اخلاقية واجتماعية مثالية، فتجدهم يتحذلقون في زخرفة افكارهم والبحث عن كل نصيحة زاهية مليئة بالفذلكات اللغوية والتحذلقات البلاغية دون ان يهتم احد هؤلاء في مدى عملية الفكرة وامكانية تحقيقها.

تجد احد هؤلاء المفكرين الذي امتلأت بهم حياتنا ينصح قائد الامة ان يكون حكيماً مخلصاً ويبتعد عن الرذيلة وسرقة قوت الشعب ثم يعطف على الجماهير ويردد بصوت خاشع وعيون تسابقها الدموع، ايها الشعب كن مخلصاً، كن مناضلاً، كن حراً، كن شريفاً، الى الاماااااااااااااااااااااااام ... الى النصر ! وحينها تتهاوى الناس حباً وعشقاً وطرباً بكلام المفكر الكبير وتتهاوى الحسناوات تحت قدمي مولانا المعظم مسبحة بجمال كلماته وكارزماه المميزة، موتوا بغيظكم يا من تريدون ان تحبطونا وتوقفونا عن مسيرتنا العظيمة وطريقنا الصائب العظيم وهذا هو قدرنا وهذا هو مفكرنا النابغة والعلامة الفذ الذي وضع يده على الجرح وحل كل المشاكل العويصة التي تواجه الانسانية، اليس الحل بسيطاً؟

ان الحل لكل مشاكلنا هو في زوال الاستغلال وزوال الظلم واحلال العدالة والمساواة، تصفيق... ايها القراء... الى الامام ايها الشعب المناضل.

ما اجمل هذه الكلمات؟ حقاً انها كلمات جميلة، ومن حق مفكري البرج العاجي ان يموتو هياماً وحباً بها ويجتروها اناء الليل واطراف النهار.

ولكن كيف سنطبق هذه الكلمات الرائعة؟ ماهو السبيل العملي لتحقيق هذه الاهداف النبيلة العظيمة والرائعة جداً؟ ان مفكري البرج العاجي لايهمهم مدى عملية الفكرة وامكانية تطبيقها، فهم يمدحون الفكرة لذاتها وليس لمقدار عمليتها وانطباقها على الواقع.

ان مفاهيم من نوع استغلال وظلم وعدالة ومساواة هي مفاهيم نسبية، فما يكون ظلماً لك، يكون عدلاً لغيرك، ولايمكن ان تضمن العدالة المطلقة مهما كان، لانه لا وجود للعدالة المطلقة. واذا كانت كل المفاهيم نسبية فمن الذي سيحدد ماهو الظلم وماهو العدل طالما كان كل الناس يختلفون فيما بينهم في تقدير الظلم والعدل؟

كلنا نرى في قاعات المحاكم القاضي حينما يحكم لجماعة ما، فانها تطير فرحاً وتصفق لهذا القاضي العادل المخلص المتفاني في عمله، ويعلو صياحها مرددة: يحيا العدل... يحيا العدل، هذا مع ان من حكم عليهم نفس هذا القاضي، قد دقوا الارض بارجلهم وراحوا يلعنون الزمن الذي جعل من رجل مثل هذا قاضياً يظلم الناس ويبخسهم حقهم. ليس هناك من سبيل يضمن به القاضي العدالة المطلقة، لانه لا وجود للعدالة المطلقة.

جمهورية افلاطون

وضع افلاطون تصوره لحكومة مثالية، فقد رآى افلاطون ان الحكومة المثالية لابد ان يكون رئيسها شخص حكيم جداً وسالم من العيوب الجسمية ويحكم هذا الرئيس شعباً سعيداً انتخبه واختاره طواعية. ومثل هذه الفكرة يذوب الطوبائيون في حبها، فهي فكرة جميلة جداً، ولكن ما قيمة فكرة لايمكن تطبيقها؟

اذ من الذي سيقرر من هو الحكيم من غير الحكيم؟ ولنفرض اننا بحثنا في جنبات الارض وزواياها ووجدنا هذا الشخص الحكيم فكيف سنقنع الناس ان تنتخبه طواعية؟ ان الناس نادراً ما تتفق على رأي فكيف نقول لهم هذا هو الحكيم المنتظر وجدناه بعد طول بحث فهلموا الى بيعته، وختاماً اين نجد ذاك الشعب السعيد الدائم الفرح والابتسام؟

الا ترى الان انها نظرية ساذجة؟

والطوبائيون اخترعوا طريقة جديدة يتجنبون بها الحديث عن واقعية الفكرة وعمليتها فراحوا يرددون ان النظرية شيء والتطبيق شيء اخر، وراح بعضهم يسمي التطبيق "تكتيك" واخرون يسمونه "تجربة" وفي كل مرة يفشل التكتيك او التجربة يقولون لك لم تفشل النظرية ... انما فشل التطبيق، ليت شعري ما قيمة نظرية بلا تطبيق؟ ما قيمة نظرية لاتتضمن كيفية تطبيقها؟ هذا هو فكر فلاسفة البرج العاجي.

نحن لاننكر ما لهذه الاهداف من قيمة ولكن يجب انلا نغطي وجهنا ونظل نركض خلف السراب، لايمكن تحقيق العدالة بشكل مطلق بين الناس، ومن عجائب الامور انك حينما تقول ان العدالة نسبية، فان البعض يتصور من كلمة نسبي اي مدى الاقتراب من المطلق، فكأنما العدالة المطلقة هي التدريجة رقم 100 في مسطرة بينما هم في نظرياتهم الطوبائية يقتربون من هذا الرقم اقتراباً نسبياً.

حينما نقول ان هذا الامر نسبي فمعناه انه يظهر بهذه الصورة اذا نسبته الى هذا الجانب ويظهر بصورة اخرى اذا نسبتها الى جانب اخر، هذا ولا يزال مفكري البرج العاجي يصرون على ان نظرياتهم تحقق العدالة الاجتماعية المثالية الغير موجودة سوى في رؤوسهم.

يتحدث الماركسي بكل اخلاص عن انه يرغب في ازالة الظلم الاجتماعي عن العمال وانه يدافع عن المستغلين (بفتح اللام) ويهاجم المستغلين (بكسر اللام) وانه سيحقق العدالة والمجتمع العظيم ويعم الرخاء على كل الامصار والحمد لله رب العالمين !

ان ما ينشده الماركسي من عدالة هي عدالته هو، العدالة من وجهة نظره هو، فليس هناك عدالة مطلقة، بل ان ما يراه هو عدالة يراه غيره ظلماً وحيف، وما يراه استغلال قد لايراه الغير على هذا النحو، الا اذا كان الماركسي يؤمن بوجود شيء اسمه العدالة المطلقة والحرية المطلقة والمساواة المطلقة فيكشفون عن وجههم المثالي.

التحرر من الداخل

سألني احدهم ذات مرة:

ايهما افضل ان تتحرر الشعوب من الداخل ام تطلب الحرية من الخارج عن طريق الاحتلال؟

قلت له يا اخي واضح ان التحرر من الداخل افضل.

اجاب، امرك عجيب، اذا كنت ترى الامر هكذا فلماذا لاتدعو الناس للتحرر من الداخل بدل التنظير للاحتلال الامريكي لبلدك.............الخ؟

قلت له يا اخي ليست القضية قضية افضل فالفكرة لاتتبع لانها جميلة بحد ذاتها ولكن لانها عملية وقابلة للتطبيق، ولايمكن ان تتحرر ذاتياً من نظام فاشي، لم يحصل في التاريخ ان تحرر شعب من نظام فاشي من الداخل، فهل تحررت ايطاليا او المانيا من هتلر من الداخل؟ هل تحررت فرنسا وبلجيكا وبلغاريا وهولندا وبولندا وتونس والمغرب في الحرب العالمية الثانية من الداخل؟ ان التحرر من الداخل فكرة جميلة وانا لا انكر جمالها، وطبعاً من يحررك لايفعل هذا لسواد عينيك بل هو يبحث عن مصالحه ولكن ليس لفكرتك الجميلة من سبيل لتطبيقها لانها مستحيلة ولايمكنك ان تدعو للمستحيل، انما يتوجب عليك ان تجد مصالح مشتركة مع من يستطيع ان يحررك من الفاشية.

بالحقيقة انا اسمع مثل هذه الجمل كثيراً، لابد ان تتحر الشعوب العربية من الداخل، الى النضال الى الحرية يا شعب يا بطل يا ابي، وعندها يذوب القراء غراماً بهذه الفكرة الصحيحة جداً، ولكن هذا مستحيل، مستحيل لان الطريقة التنظيمية للنظام الاشتراكي تجعل نجاح الثورة عليها مستحيلا.

مشكلة النظام الفاشي والاشتراكي

مشكلة الدولة الاشتراكية هي انها تحتكر كل وسائل الانتاج، فالمصانع الرئيسية والضخمة بيدها، ووسائل الاعلام بيدها، والصحف ودور الطباعة والجامعات وحتى الاتحادات والنقابات تسيطر عليها، وانت اذا اردت العمل صرت مضطراً ان تعمل عند الدولة، وهكذا فانت تصبح جزء من آلة الدولة الجبارة ولايمكنك ان تثور على ما انت جزء منه، لان وجودك صار من ضمن وجود الدولة، يعني انت موظف في الدولة العراقية، انت بعثي، كيف تثور على فكر الدولة البعثية وانت بعثي؟ فكل الطبقات الفاعلة في الدولة صارت جزء من الدولة نفسها، من بامكانه ان ينظر للثورة هو كاتب في الصحيفة الرسمية للدولة، ومن يستطيع ان ينظم شعر ثوري صار شاعر السلطان الرسمي، ومن يستطيع ان يبحث في معاناة الناس هو عميد الكلية في جامعة الدولة، ولم يبق سوى الطبقات المسحوقة التي لاتستطيع ان تقدم او تؤخر.

في عام 1991 سقطت 15 محافظة عراقية من اصل 18 من سيطرة الطاغية، ولكن مع هذا استطاع ان يعيد سيطرته على كل المحافظات خلال فترة لم تتجاوز ثلاث اسابيع، لم يجلب صدام جيش من الخارج، لقد استخدم نفس الجنود الذين شتموه وانسحبو من الكويت هاربين مهزومين، انهم مضطرون لذلك على اي حال اذا اراد احدهم ان يضمن تعليم لاولاده واذا اراد ان يضمن استمراره بالحياة الكريمة بعيداً عن مضايقات الدولة، وكما ترى ايها القارئ فان الثورة فاشلة، وقد حاول العراقيون مرارا الثورة على الطاغية وفي كل مرة كانوا يفشلون، لان اراء الطوبائيين لايمكن ان تتحق.

شكراً لقراءة المقال

تسجيل الدخول
اسم المستخدم:
كلمة المرور:	فقدت كلمة المرور؟
	تذكرني

المواضيع المحتمل أن تكون متشابهة…
الموضوع		الكاتب	الردود	المشاهدات	آخر رد
	التحالف مع الشيطان، و تفاهات اخرى	Logikal	21	3,152	08-06-2006, 04:50 AM آخر رد: خوليــــو
	بوش يأمر بتجميد أصول المتورطين في اغتيال الحريري واعتداءات اخرى	Truth	1	506	04-28-2006, 02:28 AM آخر رد: Truth
	مرة اخرى الغرب الانساني يتدخل لتخليص الانسان (الافراج عن المرتد بعد مكالمات غربية)	The Godfather	20	2,096	03-28-2006, 04:57 PM آخر رد: The Godfather
	تيسير سبول .... وقصص اخرى ( قصص قصيرة جدا )	منذر ابو حلتم	6	1,639	11-27-2005, 02:32 AM آخر رد: بـوشـهـاب
	توضيح حول موضوع صورة اخرى عن اليانكي المهذب..للزميلة نسمه عطرة	زمان	11	1,774	10-31-2005, 08:25 PM آخر رد: maryam