"أتخيل عالما جديدا ، عندما يمكننا أنا و أنت من المشاركة في هوياتنا المتعددة الكثيرة ، بالرغم أن الإنفراديين يتقاتلون بالفعل عند البوابة ، كل منهم يهتف بإسم إله مولع بالقتال "

شهريار خان دبلوماسي باكستاني رفيع المستوى ، أرسله سكرتير عام الأمم المتحدة ممثلا شخصيا له إلى رواندا بعد المذبحة الشهيرة هناك ، و عندما عاد أخبر صديقا له هو أمارتيا صن ، حائز جائزة نوبل في الإقتصاد ،و الأستاذ حاليا في جامعة هارفارد ، بأنهما كشاهدين مخضرمين لما حدث من مذابح في الهند عام 1947 بعد التقسيم ، ليسا مؤهلين لرؤية الحجم الهائل من القتل الذي حدث في رواندا ، فالكراهية و العنف و المذابح الجماعية تزدهر أيضا ، و نحن نعلم أن الصراع بين الهوتو و التوتسي الذي امتد إلى بوروندي المجاورة قضى على مليون من البشر خلال أيام قليلة ، فهل لنا أن نسأل من أين تنبع بحارالكراهية تلك التي لا تنضب أبدا ولا تجف ؟.
لسنا كعرب مضطرين للذهاب إلى و سط إفريقيا لنستطلع منابع الكراهية ، فلدينا منها مخزون وافر و بحار عميقة ، عندما انفجرت الحرب الطائفية بين الشيعة و السنة في العراق لم يدر أحد من أين أتت كل تلك الكراهية ، و لكنها بالقطع لم تأت من المجهول أو اللامكان ، فالكراهية ليست شيئا سهلا ، بل هي منتج يحتاج إلى صناعة و دهاء و حنكة و مران ، هناك من شجع عمليات القتل ،و هناك من أقنع أناس مسالمين من كل الطوائف بالتحول إلى سفاحين مكرسين للقتل ،و انتحارين يحيلون أجسادهم إلى متفجرات مدمرة ، لقد قادوا أناس بسطاء للغاية ليكونوا سنة فقط و شيعة فقط ، لم يعد أحد منهم يتذكر أنه عراقي أو عربي أو أسيوي أو إنسان ، فقط سني و فقط شيعي ولا شيء آخر ، قتل السفاحون السنة الشيعة الأبرياء ، فرد السفاحون الشيعة التحية بأحسن منها ،و ثقبوا رؤوس السنة أحياءا ، وفي كل الأحوال لم يعلم القتلي لم قتلوا و لم مثل بهم ، و في كل الأحوال كان معظم من ماتوا فقراء لا يستطيعون الهجرة للخارج أو حماية أنفسهم بالحرس الخاص أو دفع الأتاوات ، مجرد أجراء يسعون لكسب قوت يومهم و ستر نسائهم و إعالة الصغار ، لم تعد لأي هوية أخرى عدا العرقية الدينية أية أهمية ، و منع الجميع من حرية التفكير ، فلا صوت يعلو فوق صوت الطائفة ،ولا عقل يفكر في حضور عقل الجموع المحتقنة بالكراهية ، إن الأغلبية العظمى من الجانبين لم تفكر في كل تلك التعبيرات و الشعارات الدموية ،و لكنها انساقت للتفاعل معها و الحماس لها ، أما الأكثر و حشية و اضطرابا بينها فيتحولون مباشرة إلى أبطال مغاوير يفتكون بالآخرين ، و يقررون أن يعلموهم الدرس الذي يستحقون ، درسا لن ينسوه أبدا ، غافلين عن استذكار درسا آخر أكثر بساطة .. لا تقتل !،و أن الإنسان عندما يقتل أخاه فهو يقتل جزءا من نفسه ، أفضل تلك الأجزاء .. البراءة .
ليس العراق وحده الذي فقد سكانه عقولهم ، فلدينا لبنان و السودان و الجزائر و مصر و فلسطين ، و باختصار كل شعوب الشرق الأوسط تقريبا ، و ربما يكون لبنان هو الذي في بؤرة الضوء الآن ،و هو الذي يستحق منا جميعا الإنتباه و الخوف .. الخوف منه و عليه ، و لبنان ليس منفردا في شيء سوى بتنوع طائفي كان دائما مصدر ثراء للبنان و للعرب أيضا ، ينفرد لبنان أيضا بدرجة عالية من التنمية و التعليم و الذكاء ، فعلى مقياس التنمية يحتل لبنان المرتبة الأولى عربيا في مدى الإستفادة من دخله في رفع مستوى الحياة و نوعيتها لمواطنيه ، بينما تحتل السعودية المرتبة الأدنى ، فلبنان – عكس السعودية - لا يحتل مرتبة عالية من حيث متوسط الدخل للفرد ، و لكنه يحتل مرتبة متقدمة على مقياس التنمية العامة ، ذلك المقياس الذي يقيس الصحة و التعليم مع مستوى الدخل ، و لبنان شعب سهل محب للحياة و متعها ، و لكنه فجأة أصبح مطالبا بأن يصبح مناضلا إنتحاريا ، يحرر فلسطين و هضبة الجولان و يدمر إسرائيل ، ولا بأس أن يصبح اللبناني بطل العرب المغوار ، و لكنه لم يستشر في تلك البطولات الخارقة التي يطالبونه بها ، و يدفعونه دفعا إليها ، ومع محاولة فرض الهوية الإسلامية الشيعية على شعب ليس كله ولا حتى أغلبيته شيعة إسلاميين ، اجتاحت لبنان حملة من التخوين و التكفير و الكراهية ، هذه الحملة تعيد إلى لبنان أجواء الحرب الأهلية التي عصفت بكل شيء لمدة 19 سنة قمطريرا !، ربما كنا الآن نشهد الأيام الأخيرة للسلام في لبنان ، و لكننا لا يجب أن نترك الكراهية تنتصر هناك ، و لو كان الفاشست يتحدثون عن فساد الآخرين ، فيجب أن نعرف أن مزيدا من الحرية مع مزيد من الفساد ، أفضل من قليل من الفساد مع قليل من الحرية .
إن العنف الطائفي في كل مكان الآن ، وهو لا يقل فجاجة و لا إختزالية عن الماضي البعيد ، فوراء دعم الوحشية الفظة يوجد اضطراب في المفاهيم حول الهوية ، هذا الإضطراب يؤدي إلى اختزال الأبعاد المتعددة للبشر إلى بعد واحد لا سواه ، إن وهم الهوية المنفردة يزرع و يرعى بمهارة فائقة على يد قادة متمرسين على التحريض الطائفي ، ربما نعجب بالفعل كيف يمكن لزعماء الطوائف تحقيق كل هذا النجاح معتمدين على فكر شديد الضحالة يقوم على إختزال كل هويات الشعب المتعددة في هوية طائفية موروثة غالبا ، كيف ينجحون في تحويل بشرا مسالمين إلى حيوانات متعطشة للدماء ؟، ولو بنينا حكمنا على تأثير الطائفية الشديد ، سنجد أن وهم الإنفرادية الذي يرعاه أمثال أسامة بن لادن و حسن نصرالله من السهل أن يكتسب أنصارا مخلصين كل يوم ، و هذا النجاح يرتبط بضرورة ربط تلك الهوية الإنفرادية بهدف قتالي عنيف ، وقوة تلك الهوية ترتبط تصاعديا بمقدار درجة الكراهية و العنف المطلوبين ، هذه الهوية الطائفية تدفع إلى البؤرة ، و يتم التعتيم على أي هوية أخرى ، وهذا عادة يكون خلال خطاب ديماجوجي تحريضي ، ( كيف تتحدث عن هذه الأشياء و أهلنا يقتلون و نساؤنا يغتصبن ؟!) و ( لا صوت يعلو فوق صوت المعركة ) و ( هل أصبحت الخيانة وجهة نظر ؟) و ( الزحفطون و المارينز و الصهاينة و .... و البطيخ ) و غير ذلك من الشعارات التي يرددها الصبية خلف الزعماء الملهمين .
الكراهية القاتلة ليست سهلة أبدا ، فهي صناعة ..و أيضا صناعة معقدة تحتاج مران و خبرة و شرا كبيرا ، و كلها أشياء قد لا تكون متاحة لكل إنسان ، إن تعزيز الكراهية و العنف هو فن قتالي يعتمد على توظيف الغرائز الأساسية للإنسان ، كما أنها تعتمد أيضا على نوع من المنطق ، و لكنه منطق شكلي هش ، فالهوية التي يجري تأكيدها و ترسيخها ليست هوية مفتعلة ،و لكنها بالفعل هوية أصيلة للإنسان المستهدف ، فالشيعي هو بالفعل ينتمي للشيعة ، و المسيحي هو أيضا ينتمي إلى المسيحيين ، كذلك الهوتو و التوتسي و الصربي و الألباني ،و هكذا ، أما ما يحدث لتحويل هذا الإدراك للذات إلى أداة للكراهية ثم للقتل ، فيتم خلال مرحلتين ، الأولى طمس كل الإنتماءات و الإرتباطات الأخرى ، أما الخطوة الثانية فهي إعادة تحديد مطالب الهوية - التي تفردت الآن - في قالب قتالي ، هنا تحديدا تبدأ الكراهية في النشاط و تثمر أهدافها الدموية المتوخاة من البداية .
لو نظرنا إلى مجتمع تعددي مثل المجتمع المصري ، سنجد أنه يبدأ طريقه الدموي عن طريق التركيز على الهوية الإسلامية ، هنا سنجد دعاة العنف يخاطبون هوية أصيلة لدى المصريين هي الهوية الإسلامية ، في نفس الوقت يتم إزاحة كافة الإنتماءات و التفضيلات الأخرى مثل الوطنية المصرية و القومية العربية و الماركسية و غيرها من الهويات المدنية ، فالوطنية المصرية مثلا سيراها الدعاة عصبية جاهلية نتنة ، و أنها من صنع الإستعمار الغربي ، كما صرح الشيخ القرضاوي بالفعل ، متغافلا عن حقيقة أن الوطنية المصرية ظهرت و ترسخت قبل ظهور الإسلام ب3000 عام تقريبا !، سيستمر ذلك حتى مرحلة يعرفونها بمرحلة التمكين ، عندئذ نجد أن مطالب الهوية الإسلامية تتمدد لتصبح هوية مقاتلة ، هذه الهوية توجه عدائها للقبطي المصري في البداية ، ثم تتوسع لتحارب الصليبيين و اليهود و الشيعة كما تفعل القاعدة و منتسبيها من المصريين و غيرهم من العرب ، هكذا يصنعون الكراهية القاتلة تحت أعين ضحاياها و بتشجيع منهم ، لم يكن ما حدث في العراق و لبنان ، أو في فلسطين و السودان مختلفا ، فنفس الآلية الدموية تتكرر في كل مكان .

تسجيل الدخول
اسم المستخدم:
كلمة المرور:	فقدت كلمة المرور؟
	تذكرني

المواضيع المحتمل أن تكون متشابهة…
الموضوع		الكاتب	الردود	المشاهدات	آخر رد
	حينما تتحالف الكراهية القذافي ,cia	نسمه عطرة	1	593	11-18-2005, 12:27 PM آخر رد: نسمه عطرة