(1)

الرسالة رقم واحد، من ابن لأم قديسة

أمي؛
هل تعذبتِ كثيراً؟ لقد تعذبتِ كثيراً بحياتك، ككل قديسة.
هل آلمتك أنا؟ كل أم تحب كل ما يأتي من ابنها الجميل، وكل ابن جميل لأي أم.
أماه أنا ثمرة الحب، أعرف أني ثمرة الحب، وأعلم أنك كنت تتمنين أن تريني للمرة الأخيرة قبيل مماتك.
ولكن الحياة أرادت غير ذاك.

أماه؛
أنت من أجلي تضحين، وضحيتِ من أجلي ومن أجل أخوتي كثيراً، أعرف مقدار محبتك القدسي. لو لم تكوني قديسة لما تعذبتِ ولما متِّ بهذا العمر
أماه 56 سنة وتموتين؟ هناك من يبدأ حياته بهذا العمر، ولكنك عشتِ حياتك بكل لحظاتها بكل دقائقها، أنت لا أحد غيرك إلهة. أنت من يتحمل نزق مراهقة ابنك، فيخبئ له بعض الطعام حين يكون في حالة خصام مع الأب المحب أيضاً.
أماه ما أجملك حين تديرين ذاك البيت، وبدونك ليس للدفء مكان ومعنى. أبي يعلم أنك تديرين الدفء بكل مهارة.

أتذكرين أماه؟ أتذكرين؟
طفلك الصغير المراهق، يتخاصم مع الأب لشيء بلا معنى، فيقوم الأب أبي، بطردي لغرفتي، وأنا قابل و"حردان"، أحاول مقاومة الجوع، ولكن هل يستطيع الإنسان مقاومة الجوع. ومن غير الأم تقدر أن تفهم الابن الذي يتعذب في غرفته ويلتوي من جوعه؟ من غير الأم يا أمي؟
أمي تلك أمي أنتِ، تأتين كنتِ كملاك، تفتح باب غرفتي وتهمس لي بكل حنانك وجمالك الذي يشل أي إنسان، "طارق في أكل بالمطبخ، روح كل".
أترجمه لمن لا يفهم لغة الأمهات: "طارق ابني الحبيب فكرت بك ووضعت لك الأكل لك أنت لأني أحبك".
لغة الأمهات نسمعها بالصوت وبالفعل، لا يوجد أم لا تفكر بكل لحظة بكل أولادها.
آه ياحياة ما أجمل الأم.

أمي يا أمي، ابتعدت كثيراً وكنتِ أنت دوماً بقلبي.
أماه هل تذكرين؟ لو كان هناك إله كنا سنتذكر بعد الحياة الأولى كل شيء وسنجلس ذات مساء نتذكر.
هل تذكرين بالذات نقاشنا حول وجود الله؟ أنت مؤمنة بوجوده، وأنا الطفل الصغير الذي ينكره، هل تذكرين، أنا الطفل النزق؟ أنا لو تريدين يا أماه كنت سأؤمن يوجوده لو بقيتِ ساعة إضافية في هذه الحياة، دقيقة إضافية، بل ثانية أخرى.
أعتذر يا أماه، أعتذر عن نزقي وعصبيتي، ولكم كنتِ جميلة، لكم كنتِ تحتويني، لأنكِ تحبيني، لا يهمك ما أعتقد، أنت تحبين ابنك كما هو.
كنتِ تقولين لي لم يبقَ بالعمر أكثر مما مضى، وكنت أرفض هذا الكلام.. ولكنك كنت تعرفين، فعلاً مضيتِ.
على الإنسان دوماً أن يستمع لصوت أمه، وأن يسمع كلامها.
أماه؛
لا يوجد مثلك يا فاطمة
لم يخلق الله قديسة مثلك
لم يعرفك أحد فلم يحبك
ويحنا، ويح الخليقة التي لم تجعلك تنشرين الحب أكثر.
أماه سأعيش وبدمي حبٌّ كبير هو حبك، سيكون المعين بكل أيامي
لن أقول أنك حبي الوحيد، لأني أعرفك، تريدين أن أعيش سعيداً، وأن أخلف لك فاطمة الصغيرة ويوسف الصغير. يا أجمل جميلات العرب.
أماه يا ليتك اليوم معنا، يا ريتك هنا لتنظري بمحبة لجبران، جبران ابن ابنتك طفول، طفل جميل، وجميل به أنه ثمرة حب مثلي، إنه مثلي يا فاطمة يا قديسة الأمهات، وأم القديسات.
جبران يا أمي سنخبره عن جدته التي لم تعرفه ولم تره يوماً ولكنه مشبعٌ بحب أمه وأم أمه وأم خاله وحتى أم أبيه. فأنت أم الجميع.
لم أخبرك مرة أن صديقي بالثانوية الذي كان يأتي إلينا كان يراكِ مخيفة؟ مع أنكِ لطيفة ومحبة، أنت مخيفة يا أمي، المخيف فيكِ ليس رهبتك، بل رونقكِ. كان يخاف منك لهدوئك، لك رهبة وجمال هادئ ورونق. كان يقول لي أمك ترعبني، ولكن يقولها بنفس الوقت بحنان، أنت حنونة أماه، يحبك الجميع، ولكنهم يعلمون أنك أم. أم قوية متسامحة وغفورة ولكنها صارمة بعنفوان.
آه أماه؛
ذاك الهدوء بشخصيتك كيف أفسره؟ كيف أشرحه، هو في أنا. ثقافتك وقوتك وعمقكِ.
الكل كان يقول شو بيشبه فاطمة طارق.
أنا شبيهكِ أماه، هادئ ومجتاح بنفس الوقت.
أحب أن يشبهوني بكِ
كنت أتمنى أن تفخري بي بحياتكِ، أن تكون الحياة أسهل، أن نرى بعضنا قبيل مماتكِ، ولكنها الحياة، وأرادت غير ذلك.
أماه لدي الكثير أقوله، تمنيت لو قلته لك قبل مماتك.
تمنيت لو حضنتك طويلاً وقبلتك طويلاً، وبقيت معك بكل لحظة أحمل جهاز تنفسك كما فعلت من قبل حين كنت في سوريا.
تعذبتِ كثيراً أماه؟! أعلم أنكِ تعذبتِ، ولكنكِ مجبولة من حبٍّ وحساسية، لن يعرف أحد مقدار تضحياتك يا قديسة، فالأم قديسة وإلهة وسماء لأولادها.
ذكريني حين أموت أن نضحك سوياً من ذاك اليوم الذي سخرت فيه من إيمانك بالله، وستشفعين لي أليس كذلك عند الله؟ وسيقبل بالتأكيد، فمن يستطيع أن يتركك تنامين حزينة أماه؟ من !

يتبع