ظلام.. تتخلله أشعة تسقط على باب..
أصوات تنفس سريع.. آية الكرسي تـُقرأ..
يد مرتعشة تمتد إلى مقبض الباب..
وانفتح باب الحمام!!
يعاني جميل ابن ال 22 عاماً من البواسير منذ شهر.. على الرغم من صغر سنه.. إلا أنه متأكد من أن هذا المرض هو الأسوأ من بين الأمراض التي أُصيب والتي سيُصاب بها!.. فإذا كانت البعوضة تدمي مقلة الأسد كما قال الشاعر ، وإذ كان الحجر اللي ما بيعجبك بيفجك كما يقول المثل، فكذلك أيضاً: البخش اللي ما بيعجبك.. بينيـ**! ، لقد حولت البواسير قضاء الحاجة عند جميل إلى شيء أشبه بعملية جراحية دون تخدير.. وصار ينظر لكرسي المرحاض كما ينظر سجين سياسي عربي إلى الكرسي الكهربائي..وينظر إلى اليوم الذي يُشفى فيه من حالته كما ينظر ذات السجين إلى اليوم الذي يستنشق فيه الحرية. لقد صار جميل يتمنى لو لم يكن الإنسان يتبرّز.. ومن وحي هذه الأمنية حاول بالفعل ألا يتبرّز إطلاقاً عبر التوقف عن الأكل والاكتفاء بالمشروبات.. استطاع أن يفعل ذلك لثلاثة أيام ولكن تسبب له ذلك بإرهاق شديد عطله عن حياته.. إذاً يبدو أن عدم التبرز ثمنه حياة غير طبيعية!.. فقرر مجدداً أن يعود إنساناً طبيعياً بما له من تبعات غير طبيعية.. ولكن هذه المرة مع زيارة للطبيب.

يدخل جميل إلى عيادة طبيب أمراض الجهاز الهضمي.. يعطي بياناته إلى السكرتيرة.. فتأذن له بالدخول..
وحين دخل إلى غرفة الطبيب حرص على أن يغلق الباب وراءه.. مُشعراً بذلك الطبيب بأن المشكلة "حساسة"..
- السلام عليكم.
-وعليكم السلام تفضل.
يأخذ جميل مقعده قبالة مكتب الطبيب..
- أنا جاييك مشان مشكلة بواسير داخلية وخارجية.. صارلي من شهر عمبعاني من وجع شديد لما بقضي حاجتي مع نزول للدم ، لكن من أسبوع بلّشت معي البواسير الداخلية بحس إنو المستقيم بيصير ضيق وبيصير الوجع وقت التبرز من جوا ومن برا..جربت كم مرهم بس مافي فائدة.. الوجع شديد يا دكتور.
- سلامتك ، تفضل معي.
- شو؟
- لازم إفحصك حتى نعرف شو المشكلة بالضبط.
- تفحص شلون تفحص يعني؟
- بتتسطح عالتخت وبتكشف.
- شلون؟.... إيه....بس .. ما إحنا عارفين شو المشكلة فشو لزوم الفحص؟
- هلأ ليش الخجل؟
- إيه بس....
- خلص يا ابني تفضل معي.
- لحظة يا دكتور.. مافي داعي .. يعني هلأ في احتمال إنو يكون معي شي غير البواسير؟
- ممكن يكون معك شرخ شرجي ، ناسور ، الفحص هو اللي بيبيّن.
يقوم الطبيب من كرسيه قائلاً:
- تفضل تفضل.
- إيه ما بيصير يا دكتور!.
- شو ما بيصير أنا طبيب وإنت جاي مشان هالمشكلة بعدين رجّال إنت يعني الستات معقولة إنهم يخجلوا بس إنت ليش تخجل؟ تفضل معي بتتسطح على جنبك بهالتخت وبتخلي وشك للحيط وبتكشف.
قالها الطبيب بنفس الوقت الذي بدأ يرتدي قفازاً بيده..
- أنا ماني موافق ، مستحيل إني أوافق بعتذر يا دكتور خلص أنا عرفان حالي وعرفان إنو اللي معي بواسير خلص أوصفلي أدوية على هالأساس، أنا لا يمكن إني أوافق.

(بعد خمس دقائق)

يقول الطبيب بينما جميل يعيد سرواله إلى مكانه:
- متل ما تبين معي بالمنظار في عندك بواسير داخلية وخارجية.
- طيب ما هيك حكينا من الأول! شو استفدنا من هالفحص؟ .
- استفدنا إنو عرفنا إنو حالتك ما بتستدعي التدخل الجراحي.
أخذ كل منهما مقعدهما ، وراح الطبيب يكتب في ورقة قائلاً:
- اعمل كل يوم ثلاث مرات مغطس مي دافية وملح وكتر خضروات وفواكه وبعّد عن الخبز الأبيض والرز الأبيض واستخدم بدالهم الأسمر. كتبتلك دوا ملين للبراز ، وتحميلات، ومرهم مخدر موضعي للألم بحالة وجعك كتير.
- يعني إذا واصلت على هالعلاج ممكن تنتهي المشكلة؟
- إذا واصلت على هالنظام بحيث ما بيرجع الإمساك يحصل معك مرة ثانية ممكن تمشي الأمور معك.
- يعني البواسير رح تروح ولا ما رح تروح؟
- والله ممكن تروح وممكن تظل متعايش معها وفي ناس بيظلوا هيك لأربعين سنة!
- ......
راح الطبيب ينظر بصمت إلى جميل من وراء مكتبه ، فقال جميل:
- شو في؟
ظل الطبيب صامتاً لثوان ثم قال:
- لازم توقّف الشغلات الثانية.
- شو يعني؟
مال الطبيب بجسده إلى الأمام وقال بصوت منخفض:
- إنت بتعرف شو يعني.
بدأت العصبية تنتاب جميل فقال:
- عن شو عمتحكي إنت؟
- يعني لازم احكيها صريحة؟ يعني إنت بتعرف شو المشكلة فليش....
- يا عمي شو بعرف ما بعرف احكي شو في شو قصدك يعني؟
- يا ابني .. إنت لازم تبطل الشذوذ الجنسي!.
- شو؟؟؟؟
- لقيت تشوهات بالمستقيم عندك ، يعني مو بس الإمساك هو اللي عمل هيك فيك ، يعني .....
- شو شو شو شو؟؟؟؟؟ إنت عن جد عمتحكي؟؟ يعني إنت .....
- ما في فائدة إنك تنكر وبعدين اطمّن ما رح احكي لحدا .
يقف جميل على قدميه ووجهه محمر قائلاً بصوت مرتفع ملوحاً بسبابته:
- شوف يا دكتور.. إنك كشفتلنا طيزنا وبعصتنا بهالمنظار تبعك على ولا شي مشينالك ياها ، بس هالحكي الفاضي هاد اللي عمتحكيه....
يقف الطبيب بدوره ويقاطعه بلهجة صارمة:
- حاجتك بقى! لو بتعلي صوتك مرة ثانية ترى بتصل على الشرطة وبحكيلهم عنك وعن شذوذك! فهمت؟
يُفتح باب الغرفة وتظهر السكرتيرة وهى قلقة.. فيقول الطبيب:
- ما في شي ارجعي لمكتبك.
تحدق السكرتيرة للحظات في الوجوه المتشنجة.. ثم تغلق الباب..
يعود الطبيب وجميل إلى مقعديهما ، تنقضي ثوان صامتة ، ثم يقول جميل:
- هلأ الإمساك مو ممكن يعمل هالتشوهات اللي حكيت عنها؟
- ممكن بس بحالات نادرة جداً أقلها إنو يكون المريض بيعاني من إمساك شديد من أكتر من عشر سنين ، وإنت صغير على هيك شي.
- طيب شو رأيك إنو معي مرض الـ celiac disease وإني عملت تحاليل الـ Antiendomysial والـ Anti-Gliadinوإنت بتعرف إنو هالمرض وراثي وممكن تبدأ أعراضه من الطفولة ، أنا يا سيدي معي إمساك شديد من لما كان عمري 11 سنة.
صُدم الطبيب أمام هذه المعلومات وبتلك التفاصيل والأسماء العلمية ، ووجد نفسه فجأة هو في الموضع المحرج ، فقال محاولاً استدراك خطئه:
- الله يسامحك! ليش يا ابني ما تحكي هيك من الأول؟
- هلأ طلعت أنا الغلطان؟ وحضرتك ليش ما سألت إذا كان عندي مشاكل بالباطنة ولا لأ؟ الله سبحانه وتعالى بيقول: إن بعض الظن إثم.
- آسف آسف حقك علينا حقك علينا.
- شو حقك علينا؟ إيه والله هزيتلي بدني! قليلة حدا يقول عنك إنك شاذ؟
- طيب ما تواخذنا ما تواخذنا ، ومشان ما تزعل منا رح احكي للسكرتيرة إنها ما تاخد منك إجرة الكشف.
فكتب الطبيب على ورقة صغيرة شيئاً وأعطاه لجميل قائلاً:
- بس تطلع عطيها للسركتيرة.
أخذ جميل الورقة وقرأها ، فقال في نفسه: رب ضارة نافعة!.
يقوم جميل من مقعده ، ويقف الطبيب مصافحا له قائلاً:
- بكرر اعتذاري عن اللي حصل.
- ما شي الحال مافي مشكلة ، بس سؤال أخير دكتور.
- تفضل.
- قديش بدها وقت مع هالادوية لحتى تخف مشاكلي بشكل كبير؟
- يعني بدك شي أسبوعين.
- طيب ، شكراً دكتور ، السلام عليكم.
- وعليكم السلام.


يخرج جميل من المبنى ، يُخرج موبايله ويتوقف للحظات ، ثم يعود يكمل طريقه.
لقد بعث رسالة إلى صديقه ، كانت الرسالة:
((أنا هلأ طلعت من عند الدكتور ، اطمّن ، كلها إسبوعين وبعدها بتاخد راحتك)).