يختزل الخطاب المهيمن روحانية مسلمي اليوم في كاتالوج وصايا فقير يقدمه على شكل مفاضلات بين زوجين في تضاد :
إسلام / كفر،
جنة/جهنم،
فائزون/خاسرون،
ناجون/معذبون،
توحيد / شرك،
عادة / بدعة...
ففضلا عن كونها نظرة ثنائية تبسيطية عاجزة عن قراءة العالم المعقد ومقاربته موضوعيا، فهي بعيدة كل البعد عن عالم الروحيّات. فالروحانيّة حوار هادئ وصامت مع الكون. الصلاة، كما يقول الماهتما غاندي، هي أمنية الروح ومبتغاها وليس استجداء للسماء. لا علاقة للسلوك الروحي لا بتلك النداءات العدوانية الصاخبة للصلاة عبر مكبّرات الصوت ولا بدفع الناس البسطاء كالقطعان وبالهراوات نحو المساجد لأداء الصلوات غصبا عنهم، كما يفعل "المطوعة"، شرطة الإيمان في السعودية. حاول المتأسلمون ومن لفّ لفّهم إيهامنا أن هناك تخلفا في كل شيء إلا في الروح، في حين أنّ الواقع يبيّن أن التخلّف يضرب كل مناحي الحياة بما فيها مجال الروحيّات. يعرف الدين في الغرب، فضلا عن عزوف الناس المتصاعد عنه، ظاهرة المؤمنين غير الملتزمين بتطبيق التعاليم. أمّا في بلدان الإسلام فيمكن ملاحظة العكس. يسهل العثور على ملتزمين بالتعاليم وهم غير مؤمنين أصلا وإن بدا عليهم فائض من الإيمان! لا لشيء سوى لأنّ الصلاة والصوم ونحر الأضحية و...قد باتت مفروضة فرضا. "أصوم تحت ضغط 30 مليون جزائري. أحسّ في شهر رمضان أنّني مضطهد. لا تتحدّث وسائل الإعلام أبدا عن العزلة العميقة التي يعيش فيها إنسان عربيّ عندما يكون ملحدا". هكذا تحدّث شابّ جزائري، معترفا أنّه لا يريد الدخول في صراع مفتوح مع محيطه، فيصوم متنازلا ليحافظ على حرية تفكيره (1
يفرض الدين ولا يختار طواعية. إذا تديّنّا فإنّ المجتمع هو الذي يتديّن فينا. إنّه إيمان ميّت ذلك الإيمان الذي لا يشك أبدا، كما يقول ميغال أنامونو. بمعنى، أنّه يتحوّل إلى حركات روتينية. اللهمّ اعطِنا إيمان العجائز، كان يقول أحد أكبر المتصوفة المسلمين، بعدما فشل في عقلنة إيمانه وطرد الشك نهائيّا من قلبه 'المؤمن'. جوهر كل إيمان هو صموده في وجه صرامة المنطق. إنّ عدم أخذ الدين كلاعقلانيّة هو الذي يدفع الناس إلى عقلنته ومن هنا تأتي كل الأخطار والتي تبدأ مع الجنون الجماعي الذي يحلم بتكييف الواقع مع الإسلام وينتهي بقيام الدولة الثيوقراطية أو القتل والذبح من أجل إقامتها. يسمّى هذا العصاب الجماعي 'إسلاما سياسيا'،أو 'أصولية' في حين أنه ليس في واقع الأمر سوى ما يعتقد به ويصبو إلى تحقيقه معظم المسلمين وخاصة المتعلّمين منهم والمشتغلين في ميادين الثقافة. كل ما في الأمر أن هناك أصولية ثورية تطبيقية وأصولية إصلاحية نظرية. تمثّل الأولى أقلية ككل الحركات الثورية، تريد دولة الشريعة حالا. والثانية إصلاحية تمثل الأغلبية، تهدف إلى إقامة الدولة الإسلامية بالتدرج وعن طريق الإنتخابات حينما تكون متأكدة أن الفوز سيكون حليفها.
هناك ما يشبه العجز الداخلي المزمن في مقاربة الحرية. فبدل محاولة التحرر من هيمنة الفكر الديني، لا يهدر مفكرو الإسلام وقت شعوبهم إلا في محاولة عقلنة الإيمان. يكفي رفض البداهة أحيانا لطمأنة الناس. لا يمكن بناء مستقبل ما دون أن يتحرر الفرد من كل 'الطقوس' التي لم تعد لها في واقع الحياة أية منفعة أو دور في انفتاح الشخصية واتزانها. هل احتفالات عاشوراء الدموية عند أهل الشيعة، تساهم من بعيد أو من قريب في تحسين وضعية الأفراد؟ هل الاستدانة لشراء أضحية العيد سلوك اقتصادي رشيد؟ ألا يلعب هذا 'الطقس' دورا كبيرا في غلاء سعر اللحوم طيلة أيام السنة وو...؟ هل من أجل صلاة جمعة نستمر في تحمّل الخسائر الاقتصادية الهائلة المترتبة على عدم العمل بنظام الأسبوع العالمي؟ كل دواء انتهت مدة صلاحيته يتحول مفعوله إلى علل حتما. يمكن الحديث عن "تدجين الإنسان"، عندما تتغلب القواعد الفقهية المتعارف عليها مجتمعيا على رغبات الفرد الذاتية. إنّه ترويض حقيقي لـ'الأنا'، بتعبير الفيلسوف نيتشة. يعتبر " الأنا الأعلى" في البلدان الإسلامية من أقسى 'الأنوات' على الإطلاق. تبذل الأقلية مجهودات جبارة لتتملّص من مراقبته وتجنب الانقياد له، وتبذل الأغلبية نفس الجهد مقابل تحمل ثقله وطاعة أوامره.
تتساءل منظمات حقوق الإنسان وكل أحباء الحرية عن تخاذل السلطات الدينيّة التي تدّعي أنّها غير أصولية في إعلان عدم صلاحية مفهوم 'الردة' وتعارضه مع منطق هذا العصر. ليس لهذه السلطات الدينية الشجاعة حتى في الدعوة لتجاوز ما قتلته الحياة من أفكار وسلوكات. يكتب صحفيّ من كندا "يعترف عالم اجتماع صديق من أصل جزائري أنّه من المستحيل على فرنسي من أصل مسلم أو منمذج كذلك، أن يفلت من قانون جماعته المهيمن، وأن يعلن مثلا غنوصيته أو إلحـــاده (2
تحت هذا الفقه التوتاليتاري، لم تعد الأخلاق تسهيلا للحرية وإنما تسييرا للإرغام والإجبار عن طريق العنف. كان الدين دوما قضية جماهير أو حشود أما الروحانية فقضية الفرد المفرد. فهل للإيمان المرفوع فوق كل السطوح علاقة بالروحيات؟ أم هو مجرد ماكينة لصنع الخوف وإفراز الندم حتى على الأفعال التي لم ترتكب بعد؟ يقول برنارد شو إنّ الناس العاديين لا يصلّون وإنّما يتوسّلون ! أمّا الروائي رشيد بوجدرة فيتحدث عن دين أفرغ من مضمونه الروحيّ والصوفي واختزل في مجموعة من السلوكات الدوغمائية البعيدة كل البعد عن حبّ الغير، تتمحور حول توسلات وتسوّلات كطلب الفوز بالجنة على وجه الخصوص دون فعل أدنى الأشياء لاستحقاقها. (جريدة لوماتان28/01/2003).
لا تلتزم أغلبية الناس بالشعائر الدينية طواعية للارتفاع روحيا، والتحرر من عالم المادة والأنانية وإنما تفعل كأنها مضطرة اضطرارا. "رأس الحكمة مخافة الله." لا هدف روحاني وراء شهية التعبد الاستعراضية سوى تحاشي لهيب جهنم والنجاة بالجلد من عذاب القبر. جنة تسيل اللعاب وسعير تقشعر له الأبدان. "كان جدي يجمع كل أطفال العائلة عندما يعود من صلاة الجمعة، يكتب الأفغاني عتيق رحيمي، يفتح كتاب الأموات للإمام الغزالي و يقصّ علينا وبالتدقيق ما ينتظر كل إنسان يوم ردمه في قبره. كنا نبكي من شدة الخوف والرعب." (3)
من لم يرهبه ناكر ونكير؟ من لم يسمع ويجزع بأصحاب الجنة وأصحاب النار؟ تتمتع جهنم بأوصاف كدّسها الوعاظ عبر التاريخ الإسلامي تصدر عن خيال إرهابي مفرط، كما يلاحظ هادي العلوي، ويدعونا لنقرأ هذا الوصف المريع الذي أورده الغزالي في 'إحياء علوم الدين' وهو على لسان جبرائيل في حديث له مع النبي :"أن الله تعالى أمر بها فأوقد عليها ألف عام حتى احمرت. ثم أوقد عليها ألف عام حتى اصفرت. ثم أوقد عليها ألف عام حتى اسودّت، فهي سوداء مظلمة لا يضيء جمرها ولا يطفأ لهيبها. والذي بعثك بالحق لو أن ثوبا من ثياب أهل النار أظهر لأهل الأرض لماتوا جميعا، ولو أن ذنوبا (دلوًا) من شرابها صبّ في مياه الأرض جميعا لقتل من ذاقه، ولو أن ذراعا من السلسلة التي ذكرها الله وضع على جبال الأرض جميعا لذابت. ولو أن رجلا أدخل النار ثم أخرج منها لمات أهل الأرض من نتن ريحه وتشويه خلقه." (هادي العلوي، من تاريخ التعذيب في الإسلام، دار الفارابي، ص.63) لا يلبي تدين الجماهير المرئي حاجة ميتافيزيقية بل هو إلى النفعية والخشية والاستسلام للجماعة أقرب. تجد البروليتاريا المسلمة نفسها اليوم محرومة من أدنى متاع الدنيا وتجد الطبقات المحظوظة نفسها محرومة من الاستمتاع العلني بما رزقها الله من ثروات الشعب 'الغلبان'، فتتصرف في دينها بما يلبي لها رغباتها كابتداع الزواج المصياف لممارسة 'السياحة الجنسية' وغيرها من التحايلات الفقهية. فلئن مقتت هذه الطبقة المادية الجدلية والتاريخية، فإنها ببساطة تعشق المادية المبتذلة. أما المعدمون فينتظرون الجنة عساهم يعوضون بالأضعاف ما افتقدوه وحرموا منه في الدنيا. فكل شيء ممكن في الأحلام حينما تنعدم أبسط الأشياء على أرض الواقع." يا عمال العالم صلوا على النبي ! ". يعود هذا العسر كلّه إلى أسطورة الهوية ووهم الأصالة والخصوصية الثقافية . لا هويّة ديناميّة إذا لم تكن مركبة. الهوية ليست ماركة مسجلة زرعت متكاملة في أعماق قوم بشكل نهائي وإلى الأبد، هوية في قالب إسمنتي. أنا الذي أختار هويّتي الفلسفية والسياسية وحتى الدينية إذا أردت أن أكون متديّنا. من الخطأ القاتل عدم التفرقة بين الهوية والتأحيد. كلّ الهويات هي في صيرورة، فإذا اكتملت هويّة ما أو اعتقد أنّها كذلك فقد حان موعد ضلالها. الهوية هي ما نُورث لا ما نَرث كما يلاحظ الشاعر محمود درويش. من غير المعقول بل من الوهم محاولة سجن 'بني آدم' في هويّة مغلقة أو ديانة نهائية. لكلّ إنسان حقّ التحرّر من قفص الخصوصية التي ولد فيها.
http://www.alawan.org/?page=articles&o...article_id=1418