اغتيال الحريري.. سقوط الأوهام
رضوان السيد

يخطئ من يعتبر، كما ورد في بعض وسائل الإعلام، أن اغتيال الرئيس الحريري كان متوقعاً. فقد كانت هناك أوهام سياسية، مفادها أن محاولة اغتيال الوزير مروان حمادة ما آتت أكلها بالنسبة للطرف أو الأطراف التي أرادت من ورائها تخويف المعارضين، ودفعهم باتجاه الخطأ أو السكوت. ثم جاءت كارثة اغتيال الحريري لتزيل كلّ الأوهام.
تنتهي كل الحروب الأهلية، إما بتسوية سياسية، أو بانقسام البلاد. والذي حدث في لبنان هو رسمياً تسوية سياسية، لكنها على دَغَل أو رخن كما يقال. فأطراف الحرب، هم الذين تولوا السلطة السياسية الجديدة، وهم جميعاً تحت القبضة الأمنية السورية، تُساعدها الأجهزة الأمنية اللبنانية التي أعيد بناؤها. أما المدنيون القدامى والجدد، وعلى رأسهم رفيق الحريري، فقد عُهد إليهم بالجزء المدني من الدولة. وقد كانت فكرة الحريري أن البلد المعاد إعماره، والذي تجري فيه انتخابات نيابية وبلدية منتظمة، سيقوى جانبه، وتتجدد نخبه السياسية والاجتماعية والاقتصادية، بحيث يتضاءل نفوذ أطراف الحرب، وتشعر سورية بفائدة لبنان القوي اقتصادياً وسياسياً لها، فتعدّل من سلوكها تجاهه، وتنشأ علاقات سياسية واقتصادية بعيدة المدى. أما الملف الاستراتيجي المتصل بالنزاع العربي/ الإسرائيلي، فقد كان الحريري عميق الاقتناع بضرورة أن تكون لسورية الأولوية فيه، باعتبارها تقود الصراع ضد إسرائيل، بعد خروج العرب الآخرين الكبار والصغار.
بيد أن الخلل خالط الجانبين منذ ما بعد أواسط التسعينات بقليل. فالطبقة السياسية التي تغلغل أطراف الحرب في مسامّها أوقفت عمليات الإعمار في الواقع، والوزارات وإدارات الدولة جرى اقتسامها من جانب حلفاء سورية المسلمين والمسيحيين، والأجهزة الأمنية اللبنانية والسورية نمت أدوارها، ليس في الجوانب الأمنية والعسكرية وحسب، بل وفي الانتخابات وقوانينها، وفي الاقتصاد اللبناني، وحتى في قطاع المصارف، كما تدل عليه واقعة بنك المدينة، الذي «ضاع» منه أكثر من مليار دولار خلال ثلاث سنوات، وكان الرمز الأبلغ لما وصلت إليه الحالة، وصول الجنرال اميل لحود، قائد الجيش السابق عام 1998 لرئاسة الجمهورية على أكتاف موجة شعبية دبّرتها الأجهزة الأمنية اللبنانية والسورية، باعتبار أن المدنيين في النظام فاسدون، وقد يكونون خوَنة، وعلى رأسهم رفيق الحريري. والملف الآخر الذي أخطأ الحريري في التحسب له، أو أنه اضطّر إليه، كما اضطر للاستمرار في الملف الأول، هو الشأن الاستراتيجي. فالذي «قاد» حرب تحرير الأرض اللبنانية في مواجهة إسرائيل ليس الجيش السوري أو اللبناني، بل حزب الله ، ذو الارتباطات الوثيقة بإيران من ضمن التحالف بينها وبين سورية. وبذلك ما عادت المسائل حتى في الصراع العربي/ الإسرائيلي رهناً بإرادة سورية ولبنان وحسب، بل تؤثر فيها إلى حد كبير تطورات العلاقات الإيرانية/ الأميركية.
إن الذي حدث في الشهور الأخيرة ، والمتمثل في التمديد للرئيس لحود من سورية بواسطة المجلس النيابي اللبناني، وصدور القرار الدولي رقم 1559 كشف أمراً ثالثاً ما كان واضحاً من قبل رغم كلام الأميركيين عنه لأكثر من سنتين: رفع الغطاء الأميركي عن الوجود السوري في لبنان، وبمبادرة «مزدوجة» من جانبهم وجانب فرنسا هذه المرة. وقد أطلعنا هنري كيسنجر في مذكراته عام 1999 كيف دخل السوريون إلى لبنان عام 1976 بموافقة الولايات المتحدة، وكيف جدّدوا غطاء الولايات المتحدة لهم بالتدخل في حرب الخليج ضد غزو العراق للكويت عام 1990 ـ 1991.
ما كان سهلاً على الحريري، الذي حمل مشروع السلام المدني والإعمار منذ عام 1978 أن يُقنع نفسه بأن كل ما جاهد من أجله، بما في ذلك احتضانه لمشروع علاقات «سوية» واستراتيجية مع سورية، قد ذهب أدراج الرياح، لأن سورية أيام الرئيسين حافظ الأسد وبشار الأسد، لم ترد علاقة بين دولتين شقيقتين، بل الاستمرار في استتباع لبنان بالطريقة التي جرى عليها الأمر منذ مطلع التسعينات. ولو أن الرئيس الحريري اقتنع، رغم كثرة شكواه، بأن الأمل مفقود في أن يعدّل السوريون سلوكهم في لبنان، كما صبر ثلاث سنوات على إذلال الرئيس لحود له، خروجاً على الطائف والدستور، رجاء أن تسمح سورية بتغيير الرئيس والنهج، تحت وطأة تصاعد المعارضة الداخلية، والضغوط الدولية. كان الرجل يغالط عقله وخبرته، وكان السوريون يزدادون انزعاجاً منه لكثرة حركته، وكثرة تذمره. وجاء التمديد للحود، الذي وافق عليه الحريري مرغما لكي لا يقطع مع سورية، ثم دفعه عن رئاسة الحكومة، والبدء بالحملة التخوينية عليه، في الوقت الذي اندفع فيه هو باتجاه المعارضة الانتخابية وليس السياسية. بمعنى أنه صرح بالتحالف مع المعارضة في الانتخابات النيابية، لكنه لم يصرح بشيء بشأن خروج القوات السورية من لبنان، وتجريد حزب الله من سلاحه، بل إن حزب الله بشخص أمينه العام السيد حسن نصر الله، كان أحد آخر الوسطاء بينه وبين سورية.. ثم حدث ما حدث.
قلت في مقالة بصحيفة «المستقبل»، إن هذا يوم له ما بعده. فالأمور أمس غيرها اليوم، بالنسبة للبنان ولسورية، لكنه على الأخص يوم له ما بعده بالنسبة للمسلمين السنة في لبنان، فإذا بدوا منقسمين على مستوى القيادات، فليسوا كذلك على مستوى الجمهور، هم جميعاً مع الحريري، ولا بديل عنه لديهم في الأمد المنظور، كيف سينظمون أمورهم، وهل تستمر الزعامة السياسية في بيته وتياره؟ حتى الآن أفادت سياسياً من اغتيال الحريري المعارضة السياسية في لبنان، التي صعّدت في الموقف ضد السلطة اللبنانية والسلطة السورية (سمّتها في البيان: سلطة الوصاية!)، واعتبرتهما مسؤولتين عن مقتل الرئيس، ودعت لإسقاط الحكومة، وجلاء السوريين عن لبنان فوراً. وستكون للاغتيال تداعياته الإقليمية والدولية. وحتى الآن، لا تزال السلطات اللبنانية والسورية مرتبكتين، وبخاصة بعد أن أعلنت أسرة الحريري أنها لا تريد مشاركة للسلطة في الجنازة والتشييع.
كان المأزق السياسي حاضراً، لكن اغتيال الرئيس الحريري أوصل الأمور إلى درجة الانفجار، وهذا يومٌ له ما بعده!
* مفكر لبناني