... عن الاستقلال والدم
حازم صاغيّة الحياة 2005/02/16

في تاريخه الحديث، عرف لبنان رئيسي حكومة تاريخيين. أولهما كان رياض الصلح الذي ارتبط اسمه باستقلال 1943، والثاني كان رفيق الحريري الذي بدأ اسمه يرتبط بالاستقلال الثاني الموعود. وجاء الاغتيال الهمجي للحريري يقول كم ان الاستقلال الثاني أصعب من الأول، وكم ان طريقه مرشح لأن تعبّده الجثث. فالفرنسيون في 1943 انكفأوا من دون دم، وأتيح لاستقلال لبنان عهد ذاك ان يندرج في الاستقلالات السلمية والوديعة، لا في تلك العنيفة التي عرفتها بلدان أخرى. ودائماً كانت البيئة النضالية والراديكالية تأخذ على الاستقلال الأول انه حصل من دون دم وعنف. ذاك ان أبواب «الحرية الحمراء» لا تُدق إلا بالأيدي المضرّجة، على ما قال بيت شعري شهير.

مع هذا، ترتب على الاستقلال الأول دم أُجّل دفعه قليلاً. فبعد سنوات قليلة على حصوله، تعرض العهد الوطني لانقلاب قام به بعض الذين انتقدوا سلمية الاستقلال وطالبوا بضم لبنان الى سورية. وما لبث ان اغتيل الصانع الأول للاستقلال، رياض الصلح. لكن القاتلين لم يكونوا المستعمرين الفرنسيين السابقين، بل أولئك أنفسهم، أولئك الذين رفضوا سلمية الاستقلال وأرادوا ضم الكيان الوليد الى... الشام.

أما الاستقلال الثاني فما يرشحه للدم الكثير أن المستعمِر مأزوم جداً. فإلى الفشل في تحرير الأرض المحتلة، وفي مواجهة الاعتراض الكوني والتحولات الاقليمية غير المواتية، والى العجز عن إتيان انجاز واحد على أي من الأصعدة، لا يبدو أي ضوء في نفق المستعمِر غير ذاك الذي تُحدثه العبوات للحظات عابرة. حتى الطائفية بصفتها أداة للتخويف وتفريق اللبنانيين، بدأت تتضاءل فعاليتها بعدما انضم الى المعارضة وليد جنبلاط، وبات انضمام الراحل الكبير اليها، وهو «السيد لبنان» كما أسمته الصحافة الغربية، حدثاً متوقعاً في أية لحظة. وحتى اسرائيل جُعل اتهامها يفقد صدقيته، فلا يمنحه بعضَ الصدقية الا من تمتع بحصانة برمانها. وقبل ذلك، كان أضحى تحرير مزارع شبعا مزحة سمجة، مثلها مثل الأخوّة والتوازن الاستراتيجي وباقي الإنشاء السقيم.

وحين يقفز الإفلاس الإنجازي ليصبح إفلاساً لغوياً، لا يبقى من القوة إلا طاقتها الفرنكشتاينية فتنفلت آلة الرعب من كل عقل وتقدير.
:angry::angry:

لهذا يعاني اللبنانيون اليوم قوة الضعف واستشراسه، لا قوة القوة. وفي حالة كهذه، يعمل صاحب القبر الذي يراه قريباً وشيكاً على تحويله مقبرةً تهضم أكبر عدد ممكن. وهو ما لم يتحوّط له رفيق الحريري ولا تحوّط له، من قبل، رياض الصلح. فهما قالا للبنانيين إن نيل الاستقلال سهل، وان المسلم «مسموح» له أن يكون لبنانياً كما المسيحي. أما أعداء الاستقلال فظنّهم الراحلان بعيدين جداً يمكن اجتنابهم. ذاك أن «الإستعمار» لا يحضر إلا لوصف المقيمين في قارة نائية. وقد فات الاثنين اللذين حاولا جمع ما لا يُجمع، ان هناك أفكاراً قاتلة، وأنظمة ومنظمات قاتلة لا ترضى بديلاً عن التوسع حتى وهي تتراجع نحو جحر، ولا تقيم اعتباراً لواقع أو حقيقة أو معنى. أما الاستقلال عن هذه الأجسام فلا يتم إلا، لشديد الأسف والألم، بالدم.