خطة التبرؤ من جريمة اغتيال الحريري وُضعت في العام 2003 وجُربت باستهداف "المستقبل"
لهذه الأسباب تسوّق السلطة "شريط الجزيرة"

فارس خشّان - المستقبل 16 شباط 2005
في حزيران 2003، انطلقت ثلاثة صواريخ من سيارة مرسيدس على مقر "تلفزيون المستقبل" في الروشة.
أحدثتِ الجريمة ضجة كبرى... ولكن الفاعل بقي مجهولاً وسيبقى.

المبررات الرسمية التي تمَّ تبليغها الى اللبنانيين تمحورت حول نقطة واحدة: المتطرفون الإسلاميون.

قالت "الدولة الأمنية" آنذاك الكثير الكثير، أما الخلاصة فتتجلى بالآتي:

أولاً: جرى تفخيخ السيارة في مخيم عين الحلوة.

ثانياً: "عصبة الإنصار" أقدمت على اقتراف الجريمة.

ثالثاً: هناك دافعان، أولهما توجيه رسالة امتعاض الى تلفزيون ينتهج الاعتدال بإشراف مباشر من الرئيس رفيق الحريري، وثانيهما، إبلاغ السفارة السعودية الملاصقة لمبنى "تلفزيون المستقبل" أنها في متناول اليد.

يومها اكتفى الرئيس الحريري بتعليق بسيط سخر فيه من اتهام الإسلاميين بهذه الجريمة.

كان يعرف مرتكبها الحقيقي. كان مُدركاً لأبعادها الحقيقية. مع ذلك آثر الصمت، وأعطى التعليمات لكل مرتبط به بالتزام الهدوء وعدم "تكبير القضية" قائلاً: "لا مصلحة للبلاد من التصعيد".

وما أشبه سيناريو "صواريخ المستقبل" بسيناريو "متفجرة سان جورج"... ولو قيّض للرئيس الحريري أن يبقى على قيد الحياة لكان علّق على كل ما يحاول سياسيو الدولة الأمنية ترويجه، بمزيد من السخرية على الإمعان في اتهام الإسلاميين باستهدافه.

ولا ينطلق عدم وثوق الرئيس الحريري بسيناريو الإسلاميين من فراغ، ولا يُعتبر قفز العالمين ببواطن الأمور فوق هذه الفرضية ترجمة لرغبة بتلبيس جريمة الاغتيال الى السلطة، إنما من معلومات سبق ووصلت الى الرئيس الشهيد من مصادر على صلة وثيقة بتحرك أجهزة "الدولة الأمنية".

أرادت المصادر، يومها من توفير المعلومات للحريري ترهيبه لوقف حركته السياسية الداخلية الرامية الى قطع الطريق باكراً على التمديد من جهة وفرض معادلات سياسية من شأنها أن تعيد الاعتبار الى تعهدات لبنان في مؤتمر "باريس ـ 2"، من جهة ثانية.

أما المعلومات التهديدية فتفيد بالآتي:

أولاً: يجب ألا يطمئن الرئيس الحريري على أمنه الشخصي، فهو تحت الرقابة.

ثانياً: إن الأجهزة التي تحمي موكبه إنما تعيق المخططات المستندة الى التقنيات الحديثة وليس الى التقنيات البدائية.

ثالثاً: إن البلاد ملأى بالجماعات الأصولية المتطرفة الممسوكة الى حد كبير من بعض الأجهزة الأمنية.

رابعاً: إن بعض هذه الجماعات يُمكن تحريكها من خلال مفاتيح على صلة بالأجهزة من دون أن تتورط الأجهزة مباشرة بعملها.

خامساً: إن التحريك يكون من خلال التحريض بتصوير الشخص المستهدف بأنه عميل لبعض الأنظمة المغضوب عليها من هذه الجماعات.

سادساً: بعد التحريض تُقدم لهذه المجموعات كل التسهيلات اللازمة، بدءاً بترك حرية التحرك لها، مروراً بتوفير المواد الأولية اللازمة للتفجير، وصولاً الى التغاضي عن تنفيذ الخطة.

سابعاً: بعد تنفيذ الجريمة، يُقال إن جهة أصولية نفذتها من خلال أحد فدائييها ويُمكن أن يُلقى القبض على الضالعين فيها وتقديمهم للمحاكم، بمشهد يوفر للدولة الأمنية براءتها من جهة ويتيح لها التخلص من خصم لدود لها، من جهة أخرى.

وتدليلاً على جدية هذه المعلومات ووجوب أخذها في الاعتبار، حصلت في حزيران 2003 جريمة استهداف "تلفزيون المستقبل". كانت عيِّنة. وفي 14 شباط 2005 استُكمل التهديد حقيقة. وها هو السيناريو نفسه يعوم على سطح الواقع.

ولأن المسألة كذلك، فإن أحمد تيسير أبو عدس كان بحاجة إلى ابتداع اسم تنظيم أصولي جديد: "النصرة والجهاد في بلاد الشام".

أتى النفي متلاحقاً من الجهات الإسلامية المعنية بسلوكيات مماثلة.. ولكن أحمد أبو عدس بقي حقيقة عند السلطة تحاول ترسيخها في الأذهان.

أحمد أبو عدس شاء الانتقام من السعودية بالرئيس رفيق الحريري؟

حسناً، ولكن ماذا عن ملفات الأصوليين الإسلاميين المكدّسة في لبنان؟

لماذا الانتقام من السعودية وليس من "الدولة الأمنية" في لبنان التي هاجمت مسلحي الضنية وتماطل في محاكمتهم عن سابق تصور وتصميم منذ خمس سنوات، واعتقلت مفجري "ماكدونالد" وهاجمت شبكة كبيرة قيل إنها تخطط لتفجير سفارات غربية في لبنان، وتسببت بوفاة أحد الموقوفين اسماعيل الخطيب تحت التحقيق، وتباهت بملاحقتهم ونسبت إليهم تهم الإرهاب وهددتهم بقطع رؤوسهم؟

هل يعقل أن يكون لأحمد أبو عدس كل هذه الملفات في لبنان ويتطلع إلى الانتقام من السعودية حصراً؟

ولا تختصر اشكالية التصويب على "الإرهاب الأصولي" في قضية استشهاد الرئيس رفيق الحريري، عند هذه النقطة بل تتعداها إلى أسئلة أكثر حدة:

أولاً: التنظيمات الأصولية خاضعة لمراقبة الأجهزة الأمنية اللبنانية والسورية، فكيف يمكنها أن تتحرك بحرية في مناطق مزروعة بعملاء هذه الأجهزة؟

ثانياً: منافذ المخيمات الفلسطينية محكمة الطوق من الأجهزة الأمنية وكذلك المنافذ الحدودية بين لبنان وسوريا كما الشواطئ اللبنانية، فمن أين تمكنت مجموعة أصولية من أن توفر لنفسها مئات الكيلوغرامات من مادة "تي.ان.تي"؟ وهل باتت تملك داخل الأزقة اللبنانية معامل تصنيع؟

ثالثاً: كيف يمكن لتنظيم أن يوزع نفسه في مربع سياحي مهم بدءاً بوسط بيروت وصولاً إلى محيط "سان جورج" من دون أن ترقبه الأجهزة الأمنية التي فككت من تحت طريق الزهراني، قبل نحو شهر، قنابل موقوتة؟

أبعد من ذلك فإن طريقة كشف المعلومات المتصلة بالتحقيقات الأولية البدائية تثير الشبهة، انطلاقاً من الأسئلة الآتية:

أولاً: لماذا لا تزال طريقة تنفيذ التفجير بموكب الرئيس الحريري محور تكهنات وليس محور تصريح علمي دقيق متوافر؟

ثانياً: إذا كان التكهن بهجوم سيارة مفخخة على الموكب المستهدف صحيح، فأين هي أجزاء تلك السيارة، في وقت بدا واضحاً أن على ساحة الجريمة لم تكن هناك سوى سيارات موكب الرئيس الشهيد؟

ثالثاً: ألم تكن الطريق هي المفخخة، بدليل الحفرة الهائلة القطر؟

رابعاً: مَن يستطيع أن يزرع مئات الكيلوغرامات من مادة "تي.ان.تي" في طريق مكشوفة كتلك الطريق؟

هذه المقدمات التي تجعل الرواية الرسمية عن الجهة التي اغتالت الرئيس رفيق الحريري مثيرة للسخرية، تصبح أكثر حدة في وجه سلطة تعاملت منذ أشهر مع الرئيس الشهيد بعدائية وصلت إلى حد الاغتيال السياسي بداية والتخوين لاحقاً، فالاعدام أخيراً.

سليمان فرنجية وايلي الفرزلي وعدنان عضوم كانت لهم أدوارهم في الهجمة السياسية على الرئيس الحريري، لا علاقة لهم بالتأكيد في اغتياله الجسدي، ولكن عودتهم إلى الدور السياسي لتغطية السماوات بالقبوات غير محمودة.