مرحباً

اراد رجل ان يعلم ابنه صيد الطيور، فقال له يا بني، لقد كبرت صياداً علمني والدي كيفية الصيد، وكنا ننظر قدوم الطيور في موسم الربيع من الشمال فنصطاد منها صيداً وفيراً وعشت من خيرها طوال حياتي، وقد آن الاوان ان تأخذ انت محلي وترث صنعتي بعدي كما ورثتها انا عن ابي.

جاء اليوم الموعود وخرج الابن مع ابيه للصيد، قال الاب لابنه: يا ابني اننا في الخريف فانتظر مقدم الطيور من الجنوب واكمن لها خلف تلك الاجمة، وحضر قوسك ونشابك والا مرت دون ان تنال منها طيراً....اطاع الابن كلام ابيه واختبأ خلف احدى الاجمات وحضر قوسه ووضع النشاب في موضعه، لكنه كان لايزال يفكر بما قاله ابوه له في اليوم الماضي... فوجه سهامه ناحية الشمال...ومرت الطيور ولم يفطن لها، وقضى اليوم والليلة ينتظر الطيور التي مرت دون ان يشعر.

وفي اليوم التالي، اعطى الاب ابنه فرصة اخرى ليتعلم بها الصيد، فقال الاب: يا بني، الا ترى ما حصل معك البارحة وما قصرت به من توجيه سهامك ؟ فان الصياد البارع يغير اتجاه سهامه مع تغير الجهة التي تقدم منها الطيور، الا وان الطيور اليوم ستقدم من الشرق ... فاكمن لها وابرع في اصطيادها...فعل الابن ما قال ابيه...لكنه كان لايزال نادماً من تقصيره يوم امس، فوجه سهامه ناحية الجنوب...فمرت الطيور مرة اخرى وبقي صيادنا الصغير ينتظر طيوراً لن تقدم.

الحداثة بعد فوات الاوان

ان المفكرين العجائز في هذه الامة هم مثل صيادنا هذا، انهم يؤمنون بالفكرة بعد ان يكون قد فات الاوان وبعد ان يكون العالم قد نبذ تلك الفكرة والتزم بفكرة جديدة وراح يطورها ويستنبط منها خيرات كثيرة...وحينما يكون الاوان قد فات فان الفكرة تصبح قديمة تجر المجتمع الى الوراء وتزيد من الهوة بينها وبين باقي الامم.

في القرون الوسطى كانت الامم العظيمة تعيش على الفتوحات، حيث ترسل جيوشها فاتحة ومستولية على اموال الشعوب وخيراته، وكانت عواصم تلك الدول تعيش عصوراً ذهبية مزدهرة بينما الشعب المفتوح يعاني الويلات والفقر والظلم ونهب المستعمر الغازي، وتغير الزمان واختفت الامم التي تعيش من الفتوحات وتمص دماء باقي الشعوب...لكن لا يزال هناك من يريد ان يعود الى هذا العصر، لا يزال هناك من يريد ان يعود الى عصر هارون الرشيد وعمر بن الخطاب ونبوخذنصر ... ولا تزال تجد من الدول والاحزاب والجماعات السياسية والدينية من لا يزال ينتظر عودة هذه الدولة حيث سيركب فرسه ويستل سيفه ويخرج غازياً فاتحا ناهبا باسم الله والوطن والقائد.

مثل هؤلاء كمثل صاحبنا الصياد الذي ما برح ينتظر مقدم الطيور من مكان مرت منه البارحة ولن تمر منه اليوم، انه يفكر بطريقة قديمة لا تتناسب مع معطيات عصره ومفاهيمه.
لا تزال في مجتمعنا الكثير الكثير من الافكار التي صعدت في اوروبا في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين تعشش في عقول بعض العجائز فيظنون انها الحق المطلق ... لقد نبذت تلك الشعوب هذه النظريات التي يتحدثون عنها ويتمسكون بها رافضين كل ماهو جديد...لم يعد هناك فكر قومي في المانيا وايطاليا ولم يعد هناك من شيوعية في الاتحاد السوفيتي...لكنهم لايزالون يوجهون سهامهم الى ما كانت اوروبا توجه سهامها اليه في القرن التاسع عشر.

لست ازعم ان هذه الافكار لا اهمية لها، فهذه الافكار كانت مهمة وحداثية في الزمن الذي ظهرت فيه وهي على اي حال جزء لا ينكر من تكوين فكرنا الحالي، ولكن ان يبقى الانسان مصراً على فكرة قديمة مع وجود ماهو احدث فان هذا هو البؤس الفكري والانقطاع عن العالم الحالي.

كم يؤلمني حينما ارى شباباً او حتى عجائز حينما يتحدثون، يسرعون بالقاء الاسماء المقدسة التي عاشت في القرون الاولى حيث احدث مفكر مرجعي عند هؤلاء مات قبل ثلاثمئة سنة ! يتحدث هؤلاء وكأنه لم يحصل اي تقدم ولم يتطور الناس منذ ان قررت الطبيعة ان تجود لنا بهؤلاء.... لقد عقمت النساء واغلقت الجامعات ولم يعد احد يفكر منذ ان فكر لنا هؤلاء وجاؤا لنا بكل ما نحتاج من علوم ومناهج عمل.

وامة المحافظين هذه تجدها تناضل كل ماهو حديث وتطلق عليه ابشع الصفات وتصف قائليه بالخونة، وهذا هو عين ما كان يحدث لكل فكرة جديدة تدخل مجتمعاً محافظاً...ثم مع مرور الوقت يعتاد الناس عليها ... بل حتى يتعصبون لها بعد ان تعصبو ضدها.

ان ما ندعو اليه من الحداثة المتمثل باحدث شكل من اشكال الديموقراطية (الديموقراطية التعددية) لهو النموذج الاكثر حداثة الذي تتبناه احدث امة في زمننا واكثرها تطوراً، والامة ذات النموذج الاكثر حداثة تفرض نموذجها على الاخرين وماهي الا مسألة وقت قبل ان تتأثر بها اغلب الامم وتتبع منهجها قليلاً او كثيراً.

لكن الاوان سيكون قد فات بالنسبة لهذه الامة فحينما ستقرر ان تصبح امة ليبرالية فان العالم ربما سيكون قد نبذ الليبرالية لصالح فكرة اكثر تطوراً وتقدماً...وستظل عندها امة بلاد العرب اوطاني تصرخ: الليبرالية هي الحل، وتنتظر النصر المؤزر بينما تمضي الامم الاخرى باتجاه اخر...كما يحصل في زمننا هذا تماماً.

تسجيل الدخول
اسم المستخدم:
كلمة المرور:	فقدت كلمة المرور؟
	تذكرني

المواضيع المحتمل أن تكون متشابهة…
الموضوع		الكاتب	الردود	المشاهدات	آخر رد
	أزمة الحداثة الغربية وإبداع الحداثة الإسلامية مراجعة لكتاب: روح الحداثة	فارس اللواء	11	1,567	03-06-2012, 09:07 PM آخر رد: فارس اللواء
	ماهي الثورة ؟ اسلام السلفية أم إسلام الحداثة	يسرى عبد السلام	0	1,337	04-07-2011, 07:00 PM آخر رد: يسرى عبد السلام
	صدمة الحداثة .	بهجت	96	25,347	11-22-2009, 03:28 AM آخر رد: بهجت
	إشكالية الحداثة و الهوية: دبي نموذجا	Awarfie	16	3,615	10-22-2008, 07:28 PM آخر رد: هاله
	آن الاوان ، للاحزاب الشيوعية أن تستحم ، أو ، أن تنقرض !	Awarfie	1	513	06-19-2007, 01:42 PM آخر رد: Awarfie