رفيق الحريري: من ظلم الإقصاء إلى عنف الإلغاء
غسان الإمام


في صوته عفوية القروي اللبناني. نوع من البراءة غير المألوفة في عالم السياسة. في وجهه مساحة كبيرة للطيبة تخفف من خشونة الشارب والحاجب والعينين الجريئتين الصافيتين. ضخامة الجسم وملامح الوجه المعبرة تجعله أشبه بسنيور برازيلي رسمه غارسيا ماركيز. في خطواته تواضع رفيق الحريري الانسان الذي لم يغيره المال والسلطة والشهرة.
في حساسيته البالغة إزاء الاعلام، شارك الحريري وأنشأ شبكة إعلامية واسعة. ثم يجد من الوقت ليسأل صحافيا في لقاء أو على الهاتف: ماذا تعني عندما تقول إن مشكلة الحريري في ضخامة الحاشية؟ ثم يردف في براءة طيبته: هل تقصد (فؤاد) السنيورة؟ كان مسؤولاً في شركاتي عن التصرف وإدارة ثلاثة مليارات دولار، قبل أن يتولى وزارة المالية.
ثم يروح أبو بهاء معددا أسماء كبار مساعديه ومستشاريه ملحا في السؤال: قل، أنا احترمك، هل تقصد فلانا وفلانا؟ وأجيب بمكر الصحافي المحب والصديق: لم أقصد أسماء. أنت تعرف اني لا أشي ولا أشاغب على أحد، وانما أخاف عليك من كثرة المستشارين والمساعدين.
رفيق الحريري انسان قريب الى القلب. رجل عائلي واجتماعي محب للدعابة. زعيم سياسي، لكن ليس بخطيب أو رجل شارع. رجل منفتح بلا آيديولوجيا تقيده. معتدل ليس في خطابه ولغته استفزاز أو تحد للآخرين. عميق الإيمان المتسامح الذي يمتد به من طائفته السنية الى الطوائف. شبكته التربوية والخيرية تضم باستمرار ستة آلاف طالب فقير من كل الطوائف في لبنان وسورية، يدرسون على نفقته في مدارس لبنان وجامعات الغرب.
في انتقالي من رفيق الحريري الانسان الى رفيق الحريري السياسي، أقول إن الرجل مر في ثلاث مراحل.
في «مرحلة الاستدعاء» للخدمة، جلب الحريري معه الى السلطة دينامية رجل الأعمال المهتم بالإنجاز في وقت محدد. وحمل معه أيضا طموح السياسي المشروع. وأحسب أنا المرتاب دائماً بالساسة أن حسن نيته كان، يسكن عنده النفس والخلق والسلوك. كان يقول لي انه يريد أن يدخل التاريخ كرجل إعمار. وكان إعماره قلب بيروت رمزا لإعادة اللحمة بين طوائفها المسيحية والإسلامية.
في نقد «مرحلة الاستدعاء»، يأخذ سليم الحص الذي أحترمه وإن كنت لم أقابله، على الحريري استخدامه «المال السياسي».
في عودتي إلى آدم سميث أحد آباء الرأسمالية الليبرالية، أجد في كتابه (ثروات الشعوب) تلميحا صريحا بتحبيذه ذلك، شرط أن لا يضر المال بالمجتمع. أعتقد أن خدمة المال للسياسة أمر مشروع، لكن أن تأتي السياسة بالمال فهو ذروة الفساد.
الاتهام الآخر للحريري أنه اهتم بالإنشاء والإعمار في منطقته الانتخابية، أو بالأحرى، لم تمتد مشاريعه الإعمارية والإنشائية إلى المناطق الفقيرة في لبنان. لست مكلفا بالدفاع عن الحريري، ولا أكتب تقريظا ورثاء له، إنما أذكر بأن الأصولية الشيعية (حزب الله) وغيرها قاومت محاولة الحريري اختراق المناطق الشيعية الفقيرة بمشروعه الإعماري. أيضاً، كانت البيروقراطية على نقيض مع كفاءته الإدارية، وضد رغبته في تحويل الإدارة الحكومية الى شركة ناجحة وفاعلة.
في مرحلة الاستدعاء (83-1998) احترف الحريري السياسة، ثم تولى السلطة (1992). لم يكن الرجل من رموز الحرب. كان رجل مصالحة ومهادنة. معتدل في مرونة. سياسي غير مناور. متردد لكنْ ذو أعصاب قوية. ديمقراطي طموح، لكن ليس برجل حوار. كنت أتمنى أن يترك لبيروت مقعدين نيابيين لسليم الحص وتمام سلام، لكنه آثر أن يحتل جميع مقاعدها.
الحريري رجل ضخم عريض. كنت أتمنى أن يتسع مقعده في السلطة والسياسة والنيابة لأصدقاء من السياسة. حالف لكن ظل اعتماده على التكنوقراط، فعاداه الساسة، واستغلوا خلافه مع الرئيس لحود حول الإدارة والاقتصاد، ليدخلوه في ما أسميه «مرحلة الإقصاء»، مرحلة الإبعاد القسري والقهري عن الحكم والسلطة، فقطعوا عليه متابعة مشروعه الإعماري، وأخذوا عليه إغراقه لبنان بالقروض والديون (35 مليار دولار) وهم يعرفون أن الدولة بقيت عاجزة عن جباية الضرائب من غني يتهرب وفقير لا يدفع.
بعد إخفاق حكومة الحص، عاد الحريري الى السلطة. أضاف على ملامح الطيبة في الوجه مسحة من القلق والمرارة عندما لم يستطع أن يحكم، وبعدما فضلت سورية التمديد للحود وليس له. ظن في مسايرته الطويلة للشقيقة أنه يرضيها في التصويت للتمديد لغريمه، ولا يزعجها في احتجاجه الصامت عليها. وكان مخطئا في حسابه.
الحريري في السلطة والسياسة لم ينجح في إرساء المؤسسات «لبناء الثقة بين المواطن والدولة». فوضى الديمقراطية اللبنانية حالت دون إرساء دولة القانون. ترهل الإدارة وامتلاؤها بـ «زلم» الساسة والطوائف تسببا في عرقلة مشروعه الإنمائي والإعماري، فأصبح العجز في الميزانية والديون الخارجية عبئاً ثقيلاً على اللبناني العادي.
مع التجديد للحود، بدأت المرحلة الثالثة والخطرة في حياة الحريري السياسية، مرحلة الإلغاء. في اقترابه الحذر والبطيء من المعارضة المسيحية النامية، حاول أن يحفظ علاقة المسايرة مع سورية المتهم بمحاباتها أكثر من اللزوم، حاول أن يطمئنها في أن معارضته لرجلها لحود لا تعني عداءه لها. لكن اندفاع حليفه الدرزي وليد جنبلاط في احتضان المعارضة وهجومه العنيف على النظام في دمشق، زادا من شبهة وريبة دمشق في الحريري.
في تاريخ لبنان الحديث، رهن سنة لبنان عروبتهم لدى حبيبتهم سورية. زعماؤهم تزوجوا من بناتها. حلف السنة مع الموارنة في لبنان الاستقلال لم يلغ الحب المشتعل في قلوبهم لعبد الناصر عبر الحدود. حافظ الأسد في دخوله لبنان آثر أن يحالف الشيعة الأصولية والعلمانية، وأن يبقي السنة في بيت الطاعة.
في زمن تهميش السنة، كان الحريري أقوى رئيس وزراء سني منذ رياض الصلح. مسايرته لدمشق أبقت العلاقة في حدود المصلحة، أو كما يقول الشاعر: «على أن قرب الدار ليس بنافع/ اذا كان من تهواه ليس بذي ودِّ». غيبة الأسد الأب، وضغوط اميركا على سورية في لبنان ومن العراق، جعلت لسورية أكثر من قرار وسياسة إزاء لبنان، وصولا الى الاعتقاد بأن الحريري، في علاقاته الدولية، كان وراء قرار مجلس الأمن (1559) بإخراج سورية من لبنان.
الآن وباختصار، ما هي نتائج وذيول اغتيال الحريري؟
إجراء تحقيق دولي في ملابسات الاغتيال إضاعة للوقت.
لبنان دائماً (شاهد ما شافشي حاجة). معاقبة سورية في مجلس الأمن اقتصادياً وعزلها عالميا، كما في معاقبة العراق سابقا، إلحاق بالأذى والضرر بالسوريين المحكومين لا بالحاكمين. الحكمة الدولية الأفضل هي في المضي في مساعدة سورية على تخليص نفسها من الورطة في لبنان بانسحاب مشرف، واعتبار اغتيال الحريري بمثابة بداية للعد التنازلي للانسحاب.
لعل حكمة الرئيس شيراك تجنب المجتمع الدولي تورطا مستعجلا في القضية اللبنانية. فلم تلتئم تماما، بعد، جروح الحرب الأهلية والطائفية. لبنان حقل ألغام فيه عشرات التنظيمات الأصولية النائمة التي يضبطها ويخيفها الوجود السوري. وها هو الذكاء في «توريط» الأصولية بالجريمة، لإبعاد الشبهة عن غيرها، ولتمييع التحقيق.
القرار الدولي (1559) فيه إنصاف للبنان، وظلم لسورية. لقد فرض الانسحاب على سورية، من دون أن يفرض على اسرائيل الانسحاب من الجولان. أبدى النظام السوري استعداده لاستئناف المفاوضات مع اسرائيل، لكن اسرائيل تريد اتفاق سلام مع نظام سوري أعرض في قاعدته الشعبية. وهي تمضي في تشجيع أميركا بوش على فرز المشرق العربي الى دول طوائف مريحة لها، دولة للشيعة في العراق تحت وصاية الدولة المحتلة، تواجهها دولة للسنة في سورية، مع ترك لبنان لعبة مسلية وشاغلة للطوائف.
لا شك أن إلغاء الحريري أضعف المؤسسة الرئاسية في لبنان، وقلص من قدرة الرئيس لحود على لعب دور الحاكم، بدلا من دور الحكم الذي رسمه له اتفاق الطائف. مع ذلك لست مع المعارضة في «ترحيل» الحكم والسلطة. هل تريدون لبنان بلا دولة، وبلا رئاسة، وبلا حكومة؟! لعل حكمة البطريرك صفير تساهم في تشكيل حكومة مصالحة أو مهادنة، وتأجيل الانتخابات التي ستفرق أكثر مما توحد، وعقد ميثاق وطني بين الطوائف، يتم بموجبه تحول «حزب الله» من ميليشيا إلى حزب سياسة.
هل تحتاج سورية إلى عمر كرامي؟ لا أظن. سورية قادرة على شد الخيوط في لبنان، حتى ولو سحبت جيشها... سورية، أيضاً، بحاجة إلى ميثاق واقعي ينظم علاقتها بلبنان الطوائف، لا لبنان الطائفة الواحدة.
إذا تأجلت الانتخابات انتفت الحاجة إلى حكومة كرامي الانتخابية. ومن الكرامة لهذا البيت السياسي العريق في طرابلس/ لبنان أن ينسحب صاحبه وسيده عمر من السلطة في ظروف الاغتيال المأسوية. عمر كرامي سيئ الحظ في الحكم. اختنقت حكومة عمر الأولى (90-1992) بدخان دواليب الشارع الجائع. وتختنق حكومته اليوم بدخان الألغام المفخخة في الشارع الملتهب.