مبدئيا يجب ذكر حقيقة هامة بالنسبة للأزمة بين روسيا وجورجيا وهى الفجوة الواسعة بين محاولة روسيا وضع صواريخ نووية فى كوبا فى الستينات على بعد 90 ميل من الشواطئ الأمريكية وبين أن تخوض روسيا حرب على حدودها الجنوبية مع صرصار كجورجيا!!!! دفاعا عن أمنها القومى لكن على أى حال شئ أفضل من لاشئ وقد تكون تلك الخطوة بداية لعودة روسيا للمسرح الدولى بعد طول غياب وقدرتها ورغبتها فى إستخدام القوة العسكرية لوضع حد لإنفراد البلطجى الأمريكى بالعالم والذى كان كارثيا وبالذات فى منطقة الشرق الأوسط وأنا مؤيد تماما لما قاله بوتين فى السابق بما معناه "أن إنهيار الإتحاد السوفيتى كان أكبر كارثة جيوسياسية حدثت بالقرن العشرين" فنتيجة لهذا الإنهيار أختل توازن القوى فى العالم وغياب التوازن شئ تأباه حتى قوانين الفيزياء ولابد أن ينتج عنه خلل وهو الشئ الذى حدث بعد تفكك الإتحاد السوفيتى ونعيش أثاره اليوم.

مشكلة روسيا الحقيقية ليست فى ترسانتها النووية فتلك الترسانة لم تمنع تفكك الإتحاد السوفيتى ولم تحد من مغامرات البلطجى الأمريكى بعد تفككه رغم وجودها فى حوزة روسيا ورغم الضجيج الحادث حول الدرع الصاروخى بأوروبا إلا إن كل التقديرات تؤكد أنه سيكون عديم القيمة إذا حدثت مواجهة نووية وقررت روسيا أن تجعل أمريكا خرم فى الخريطة لأنه بالإضافة لوسائل التشويش والخداع أو مايعرف بالdecoy وهى بإختصار صواريخ مزيفة لايستطيع أحد تمييزها من الصواريخ الحقيقية وزيادة عدد الصواريخ المطلقة فهناك أيضا صواريخ نووية يمكن إطلاقها من الغواصات والقاذفات بعيدة المدى وهذا أحد أسباب عودة طلعات تلك القاذفات بجانب ألاسكا بعد أن توقفت عقب إنتهاء الحرب الباردة ولكن كما قلت فالمشكلة ليست فى الترسانة النووية الروسية وقدرتها على الردع ولكن المشكلة لها أبعاد إقتصادية وثقافية وسياسية وإذا كان هناك مشكلة عسكرية فهى مشكلة فى السلاح التقليدى وليس النووى لأنه السلاح القابل للإستخدام والإتجار وتخاض به الحروب بالوكالة.

بالنسبة للسلاح الروسى التقليدى فنتيجة لإدراك الإتحاد السوفيتى أنه غير قادر على الإستمرار فى المنافسة مع أمريكا فى هذا المجال بسبب الإستنزاف المادى لجأ لإستراتيجية أقل تكلفة وهى التركيز على الأسلحة المضادة فبدلا من إنتاج الدبابة التى لاتقهر أنتج الصاروخ القادر على تدمير الدبابة التى لاتقهر كصواريخ كورنيت والتى أستخدمها حزب الله فى حربه مع إسرائيل وأستطاع بها تدمير الميركافا وبدلا من إنتاج أضخم حاملة طائرات أنتج صواريخ الصن برن القادرة على إغراق حاملات الطائرات ولذلك تجد كل شوية واحد من إيران يطلع يهدد بإغلاق مضيق هرمز فى حالة شن هجوم على إيران لأن إيران حصلت على تلك الصواريخ من روسيا وهكذا الحال فى مجال الطائرات فبدلا من إنتاج أفضل طائرة أنتجوا أفضل أنظمة الدفاع الجوى وهو مايعرف بصواريخs 300 لكن بالتأكيد أن كل تلك الأسلحة أسلحة دفاعية لاتصلح لشن حرب ولاحتى لشن هجوم مضاد فى حالة التعرض لهجوم وفى قانون الغابة الذى نعيش فيه اليوم تلك الأسلحة غير كافية ويجب على روسيا إذا أرادت أن تحتل مكانتها الدولية السابقة أن تعود لحلبة المنافسة فى مجال الأسلحة التقليدية الهجومية وبالذات فى مجال الطائرات وبالإضافة لعامل الردع الواقعى الذى تمثله تلك الأسلحة فهذا سيفتح مجال كبير أمامها فى سوق السلاح العالمى ويجعلها تحصل على نصيب عادل منه يؤثر بالإيجاب على إقتصادها.

بالنسبة للأبعاد الأخرى فكلها تتعلق بروسيا نفسها فحتى تكون قوة عظمى يجب أن يكون لك شعار براق تعمل من خلاله وفى الحقبة السوفيتية كان هذا الشعار الإشتراكية والعدالة الإجتماعية إلخ والشرموطة أمريكا أعلنت أنها الوكيل المعتمد والوحيد للحرية والديمقراطية وهم منها براء ولكن ممالاشك فيه أن أمور كالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان أصبحت خارج المناقشة والجدل وعلى أى نظام يريد أن يحتل مكانة قوة عظمى أن يكون قدوة فى تلك الأمور.

طبعا بكل تأكيد روسيا اليوم ليست نموذجا يحتذى به فى تلك الأمور وحتى لو أصبحت كذلك فدائما سيكون السبق لأمريكا بحكم الأقدمية ويجب أن تبحث روسيا عن شئ أخر بجانب تلك الأمور لترفعه ويكون خاص بها كالماركة المسجلة ومن وجهة نظرى الشخصية هذا الشئ يمكن ويجب أن يكون أشياء مثل العقلانية, الإلحاد,secular humanism اللادينية لأن أولا روسيا لها تاريخ وباع طويل فى هذا المجال وثانيا لأن أمريكا رغم متاجرتها بقيم الحرية والديمقراطية فهى غارقة فى أوحال الرجعية الدينية والهلاوس والضلالات التوراتية-طبعا بالمقياس الغربى وليس العربى- ويمكن بمنتهى السهولة واليسر النيل منها ومهاجمتها بهذا الخصوص وشن حرب شعواء إعلامية لاتبقى ولاتذر عليها وبعقلية ياقاتل يامقتول ومرمغة أى مقدس دينى لديها فى الوحل وإظهارها دائما بصورة الدولة المتقدمة ماديا والمتخلفة عقليا ولكن كل هذا بدون إصلاح سياسى داخلى بروسيا سيكون بمثابة حرث فى البحر.

بالنسبة للبعد الإقتصادى فرغم أن بوتين نجح فى إنتشال روسيا من الهاوية التى كان يقودها إليها يلتسين وأستطاع تحقيق معدل تنمية مقبول والإرتقاء بمستوى معيشة المواطن الروسى إلا إن الإقتصاد الروسى أصبح لحد ما شبيه بإقتصاد الدول الخليجية من حيث إعتماده على النفط والغاز وهو بالتأكيد وضع خطر لابد أن يتغير إذا أرادت روسيا أن تلعب دور رئيسى على المسرح الدولى
وأعتقد أن التجربة الصينية ممكن أن تكون مثال يحتذى لروسيا لتحقيق ذلك.