متى ينتهي التجاهل الرسمي والثقافي لقضية المفقودين السوريين؟
جهاد الزين - النهار
2008-08-19

كنتُ دائماً اعتقد وفي ذروة المواجهة السياسية المحلية الاقليمية الدولية في لبنان وعلى لبنان منذ اواخر عام 2004 مرورا بالاعوام 2005 و2006 و2007 والنصف الاول من 2008 ان ملف المفقودين السوريين في لبنان هو الملف - الامتحان الصعب على بيئة تكتل "14 آذار"، بل الامتحان الاصعب على مستوى الشفافية "الذاتية" في هذه البيئة السياسية وإن يكن طبعا ليس الامتحان الاهم او الاخطر. وبصورة خاصة كان امتحانا صعبا على المثقفين المنخرطين في "14 آذار". فاذا كان السياسيون المحترفون ذوي برودة لا أمل منها في التعامل مع قضية خارج سلم اولوياتهم الصراعي - كان يمكن - ولا زال - للجو الثقافي ان ينتج مبادرة شجاعة ومحترمة على هذا الصعيد. وقد فعلت ذلك اسماء قليلة اقل من اصابع اليد الواحدة وبينها من فعلها ببعض الخفر.

اعني، منعا لأي تشتيت، المفقودين السوريين منذ ما بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري وبصورة اكثر تحديدا منذ ما بعد الخروج العسكري السوري من لبنان في 26 نيسان 2005. انهم "المفقودون" الذين سقط العدد الاكبر منهم في اعمال انتقامية في مناسبات او اوقات مختلفة في عدد من المناطق اللبنانية، وهم جميعهم - وليس معظمهم - من العمال السوريين الفقراء المتواجدين على الارض اللبنانية في مهن بسيطة... انصبت عليهم تباعا موجات ردود فعل عنيفة بعضها منظم على الارجح تحت اعتبارات "امنية". انهم مزيج من ضحايا معلومة ومفقودة.

لهذا - واعتذر عن التكرار - كتبتُ في الثالث من كانون الثاني عام 2006 وفي هذه الزاوية مقالا تحت عنوان "الشهيد شمس الدين محمود"، وهو عامل سوري قُتل غيلة في احدى المناطق (اللبنانية طبعا).

كنتُ أعني ما أُعَنْوِن يومها وفي فترة متوترة جداً: هذا العامل القتيل هو شهيد مثله مثل شهداء 14 آذار، ومثل المفقودين اللبنانيين سواء في السجون السورية او على الارض اللبنانية في فترة المرجعية السورية للوضع اللبناني والذين لا تزال قضيتهم العادلة مطروحة. في ذلك المقال اشرت الى ان "هذه الاعتداءات على العمال السوريين وما سبقها علنا وبدون اعلان في مناطق عديدة منذ العام 2005 تعبر عن "عقلية حرب اهلية" في الصراع الدائر و"نحن" لا نريد ولسنا معنيين ان نخوض الحرب الاهلية لاي كان وانما نريد الدولة ان تحمينا منطقا وسلوكا".

الآن لا زال الاختبار الذاتي للنخب السياسية والثقافية اللبنانية قائما في هذا الملف وفي مقدمه الخروج من النظر الى ملف المفقودين السوريين في لبنان على انه مجرد مناورة من القيادة السورية لمواجهة ملف المفقودين اللبنانيين. فماذا تريد الحكومة السورية من طرح الملف ايا تكن استهدافاته لا يمنع من ان الملف حقيقي ويستحق المعالجة: لقد قُتل سوريون على الارض اللبنانية في ردود فعل، العفوي منها مدان لانه عنصري والمنظم منها مدان لانه جريمة سياسية منظمة.

انطلاقا من ذلك اقترح على مثقفين كانوا منخرطين في "14 آذار" تشكيل لجنة لمتابعة هذا الملف مع اجهزة الدولة اللبنانية بهدف الضغط عليها لاعطاء ما تملك من معلومات لم تكشفها فعلا حول الموضوع، اذا لم اقل انها غضت النظر سابقا عن اعلان معلومات وافية عنه.

المسألة يجب ان تتعلق بالنسبة لنا كلبنانيين بمدى احترامنا لصورة لبنان الديموقراطي. بكلام آخر بمدى احترامنا لانفسنا ضد نمط من ممارسة السياسة على انها فقط اثارة المواضيع التي تحرج "الخصم". فأمام هذا الكم الهائل من التواطؤات مع عقليات ومصالح "غير دولتية" في العمق في نظامنا الطائفي "اللادولتي" في الاعمق، تواطؤات مسؤولة بالنتيجة عن فشل مشروع "14 آذار" الاساسي، او على الاقل مسؤولة عن الانكشاف الفضائحي لشعارات "14 آذار" الدولتية...

امام كل هذا، وحتى - كما يقال - لا تذهب جميع "التضحيات" التي قُدّمت في هذا السياق هباء وبينها الضحايا، بل حتى لا يكون الكثيرون بيننا في صف السُذّج سياسيا الذين كان يجب ان لا يصدقوا ما صدقوه، من المفترض ان يوضع ملف "المفقودين السوريين" في الاعوام الثلاثة ونيف المنصرمة في مكانه المحترم بين الملفات الاخرى الكبيرة، وبمعزل عن المناورات السياسية المتبادلة حوله. باختصار: يجب أن يكون القرار لبنانياً لا سورياً.

في هذا المجال سبق لي ان اثرت بعض الاقتراحات العملية حول الموضوع، موضوع تشكيل لجنة لمتابعة قضية المفقودين السوريين (ودائما المفقودين اللبنانيين) مع بعض الاصدقاء في الجو الثقافي اللبناني ومنهم صديق معروف لهذا "الجو" هو الكاتب السوري محمد علي الاتاسي. لكن الظروف لم تتح استكمال البحث العملي حول الموضوع.

واقتراحي العملي هنا هو تشكيل لجنة من اسماء ثقافية (ولمَ لا سياسية) وبالتحديد من القريبين من بيئة 14 آذار قبل غيرهم (على ما بقي من هذه البيئة! وهو ليس قليل) لمتابعة ملف المفقودين السوريين، ربما كان وجود وزير للداخلية مثل زياد بارود فرصة له ولنا لتقديم امتحان مسؤول عن كيفية الممارسة الديموقراطية بمعناها المحترم. فهو لو لم يكن وزيرا لكان احد المرشحين الطبيعيين لعضوية لجنة من هذا النوع.

انها قضية حقيقية (وصعبة كامتحان ديموقراطي). وهي فرصة لنا ولزياد بارود لمتابعة مسألة فعلية لا وهمية او شكلية في الممارسة الديموقراطية.