القصيدة الشافية
القصيدة الشافية
من أثمار الفكر الاسماعيلي الفلسفي
تأليف
داعي مجهول
تحقيق
عارف تامر
كلمة أولى
في مطلع عام 1956حطيت الرحال في " مصياف " البلدة السورية التي كانت في فترة من الفترات قاعدة للدولة الإسماعيلية , وكان غرضي التنقيب عن مخطوطات إسماعيلية ذكرها لي أحد الأصدقاء من البلدة نفسها ومنها ديوان الشاعر الكبير " الأمير مزيد الحلي الأسدي " الذي كنت أنقب باهتمام زائد عن نسخة ثانية منه أضيفها إلى النسخة التي أملكها , بالنظر لما لهذا الديوان من أهمية أدبية كبرى تظهر لنا الحياة الأدبية في عصر صلاح الدين الأيوبي و أثرها في حياة الاسماعيليين السوريين السياسية و الاجتماعية , و زعيمهم " سنان راشد الدين " . فعثرت أثناء تنقيبي في منزل أحد الأصدقاء على كتاب مخطوط كبير الحجم لم يكن يحمل أي اسم أو عنوان , وليس هو بالحقيقة سوى ( مجموعة ) تضمنت مقاطع و قصائد و مقتطفات لا تشكل بالنسبة لي أي أهمية علمية , وذلك لأن أكثرها معروف و مدروس وغير جدير بالنشر , وقد لفت نظري في آخرها قصيدة فلسفية كبرى من نوع الرجز اتخذت عنوان " القصيدة الشافية " . ومما يؤسف له أشد الأسف أن اسم مؤلفها غير مذكور , وليس هناك مايشير غلى الفترة الزمنية التي وضعت فيها , أو إلى تاريخ نسخها , أو إلى ما يعطي البينات الضافية و الدلائل التفصيلية عنها , ومما هو جدير بالذكر أيضاً أنها كتبت بخط ركيك مشوه و بأسلوب فوضوي لا أثر فيه للترتيب أو للنظام , هذا فضلاً عن وجود أبيات عديدة كان من العسير جداً قراءتها بسبب تسرب بعض نقاط الماء إليها في وقت من الأوقات , أما الأخطاء النحوية و الشعرية وتقديم بعض الفصول على الأخرى و تحريف الكلمات و القوافي فحدث عنه ولا حرج .
أجل ...أنه لما يؤسف له أشد الأسف ضياع هذه الكنوز الفكرية التي تشكل مجموعة ثمينة من تراثنا العربي , وتسربها في العهود الماضية المظلمة إلى أيد جاهلة لا تقيم للعلم وزناً ولا للأدب قدراً , هذه الأيدي هي نفسها التي نعتبرها مسئولة أمام الله و التاريخ عن ضياع أكثر المؤلفات العربية الفكرية .
وكان أن قدر لي السفر في مطلع عام 1957 إلى الديار المصرية و السودان وأفريقيا و زنجبار وغيرها من البلدان الشرقية فعملات تنقيباً في المكتبات الخاصة و العامة للمخطوطات , وفي الجامعات ودور الكتب بالرغم من أن فهارسها جاءت خالية من أي اسم لهذه القصيدة , و خاصة المكتبة المحمدية الهمدانية اليمنية المشهورة في القاهرة , ومكتبة محمد حسن ألأعظمي في باكستان , ومكتبة طاهر سيف الدين في الهند , ومكتبة الجامعة الإسماعيلية الثقافية بفرعيها في الهند وباكستان ,و مكتبة اصف بن علي أصفر فيضي في الهند وغيرها, علَي أعثر على نسخة ثانية للقصيدة الشافية فكان ذلك مستحيلاً . وبعد عودتي إلى سوريا من رحلتي الطويلة اتصلت بكبار علماء الإسماعيلية في اليمن و نجران و الهند وباكستان و إيران , وكتبت إلى بعض الأصدقاء من باحثين و مستشرقين في ديار المغرب و المشرق , وفي كل مكان أسألهم عن نسخة ثانية للقصيدة فكان الجواب سلبياً , فتيقنت عندئذ أن النسخة فريدة , ورجحت أن المؤلف من دعاة الإسماعيلية الذين عاشوا في القرن الرابع للهجرة النبوية المحمدية , يدفعني لهذا الاعتقاد تعرض مؤلف القصيدة الشافية لذكر " الصوري " و الصوري كما ذكرنا كان معاصراً للإمام المستنصر بالله الفاطمي المتوفي سنة 487 ه . هذا وأن عدم وجود نسخ أخرى للقصيدة في أي بلد اسماعيلي آخر غير مصياف يزيد في هذا الاعتقاد .
و تشاء الظروف أن التقي في بيروت سنة 1959 بالصديق الأستاذ " سامي مكارم " وكان يفتش عن نص اسماعيلي يعتمده كأطروحة للدكتوراه , وأمام إلحاحه أعطيته المخطوطة مكرهاً بعد أن بينت له عدم فائدتها وهي على شكلها الحالي , فلم يقنع وكان أن قدمها أخيراً لجامعة " ميشيغان " الأميركية حيث منح بموجبها درجة الدكتوراه .
ويأتي عام 1961 فيدفعني الأمل وحب الاستطلاع ثانية إلى مصياف , وفي هذه المرة ودون أدنى صعوبة عثرت في زاوية مهملة لا تخطر على بال على نسخة تامة من القصيدة الشافية , ولدى مقابلتها بالنسخة الأولى التي كنت أحتفظ بنسخة عنها , وجدت فروقاً كبيرة , فالأولى تكاد تكون ناقصة و مبتورة وغير ذات جدوى , بينما الثانية واضحة و صحيحة ومنسقة ولا غبار على فائدتها.
ومهما يكن من أمر فنحن لا يهمنا إلا إخراج النص الفلسفي لحيز الوجود صحيحاً , وإظهار القصيدة بشكلها الأدبي الواضح , وهذا ما جعلنا نتحمل كافة الصعوبات و ونبذل جميع الجهود في سبيل تحقيقها و شرحها و العناية بها وإضافتها إلى النصوص الإسماعيلية الأخرى التي نشرناها , وهذا من جهة أخرى فإن القصيدتين الأوليتين " سمط الحقائق" و " الصورية " تشكلان مع القصيدة الشافية مدرسة أدبية واحدة قائمة بذاتها .
شرح القصيدة :
عمدنا إلى شرح القصيدة الشافية نزولاً عند رغبة بعض الزملاء وتلبية لأمنية بعض الطلاب المبتدئين في دراسة الإسماعيلية وقد جعلنا الشرح فلسفياً و تأويلياً أكثر مما هو لغوي و تفسيري , مضافاَ إلى كل ذلك أننا أتينا بالمقدمة على بعض النواحي المهمة التي وردت بالقصيدة , فتوسعنا في بحثها ليسهل فهمها و تروق قراءتها .... وعلى كل حال فإن هدفنا في كل مابذلناه ونبذله من الجهود لا يتعدى تقديم صورة صحيحة من صور الفكر العربي وضع مؤلفها في نقشها لونين الأول اللون الأدبي المشرق الباسم و الثاني اللون الفلسفي الباطني العميق الذي لم يكن هناك بد من شرحه وإظهار بعض رموزه قدر الإمكان , فعسى أن نكون قد قمنا بخدمة أدبية عامة و وأضفنا إلى المكتبة الفلسفية العربية أثراً جديداً ظل ما يقارب من الألف عام في زاوية النسيان .
وأخيراً لابد من تقديم شكر للأب الفاضل الجزيل الاحترام " أمالثناء," مدير المطبعة الكاثوليكية في بيروت على مابذله من جهود في سبيل إظهار هذا النص العربي لحيز الوجود , وكلمة شكر أخرى للمدير و القائمين على شؤون معهد الآداب الشرقية في جامعة القديس يسوف في لبنان الذين شاءوا أن يجعلوا هذا النص من منشوراتهم القيمة , فدللوا على ذوقهم الأدبي وحسن اختيارهم ورغبتهم بخدمة تراثنا العربي.
المقدمة
افتتح مؤلف القصيدة الشافية المجهول مقالته الأولى بالحمد و الثناء , فقال :
إن مبدع المبدعات خالق قديم وعال وعريق في إيجاد الأولية... فكان بذلك يعطي الفكرة الفلسفية الصحيحة للاعتقادات الإسماعيلية التي لم تخرج عن هذا النطاق وعن حد القول:
بأن الخالق الباري قديم و قبل الأزل, وأن عالم الموجودات والمبدعات محدث لأنه إذا كان غير محدث فيجب أن يكون شيء سابق له قد أحدثه, ولو كان العالم قديم قبل الله لاستحال تعلق جبروته بالقدم ووجوده بالعدم ولا اقتضى موجداً أوجده. وهو المتعالي عن درك الصفات فلا ينال بحس ولا يقع تحت نظر ولا تدركه الأبصار ولا ينعت بجنس ولا تراه العيون ولا يوصف بالحواس ولا يدرك بالقياس ولا يسبه الناس. فهو المنزه عن ضد مناف أو ند مكاف أو شبه شيء , تعلى عن شبه المحدودين وتحيرت الأوهام في نعت جبروته وقصرت الأفهام عن صفة ملكوته وكلَت الأبصار عن إدراك عظمته ليس له مثل ولا شبه وهو غير ذي ند ضد لأن الضد إنما يضاده مناف دل على هويته بخلقه وبآثاره على أسمائه بأنبيائه ........ فليس للعقل في نيل سمائه مجال أو تشبيه, إذ أن تشبيه المبدع بمبدعه محال فهو سبب كل موجود لأنه مبدع المبدعات ومخترع المخترعات وسبب كون الكائنات ورب كل شيء و خالقه ومتممه ومبلغه إلى أفضل الأحوال. جلَ أن يحده تفكير أو يحيط به تقدير , ليس له أسماء لأن الأسماء من موجوداته ولا صفات لأن الصفات من أيسياته , وإن حروف اللغة لا يمكن أن تؤدي غلى لفظ اسمه أو يطلق عليه شيئاً منها لأنها جميعاً من مخترعاته وأن كل الأسماء التي أبدعها جعلها أسماء لمبدعاته , وهو قديم وقبل الأزل وصاحب مصدر الأولية بالترتيب لأن الحد الأول انبثق منه و الموجود الأول فاض عنه . وهو مبدع المبدعات ومعل العلل وباري البرايا و الدائم الموجود الفرد المعروف بفر دانيته وصمدانيته وصاحب فعل الإيجاد الأول للعدد الأول الذي جعله أصل الأعداد , كما أن العقل جعله أصل الموجودات , و الناطق أصل عالم الدين ويضاف غلى كل هذا ب،ه لا ينال بصفة من الصفات و أنه ليس جسماً ولا يعقل ذاته ولا يحس به محس وهو ليس بصورة ولا بمادة ولا يوطد في اللغات ما يمكن الإعراب به عنه , وهو موجود لأنه لا يصح أن يكون غير موجود ولا أن يكون موجوداً من نوع الموجودات التي وجدت عنه و وأما الاستدلال عليه فيستخلص من وجود الموجودات وذلك بأنه لا معلول بدون علة ولا موجود إلا إذا كان له ما يوجب وجوده وأن الموجودات يستند بعضها في وجوده إلى بعض و وإن بعض الذي يستند إليه البعض الآخر من الموجودات غير ثابت في الوجود ولا موجود .
ويخلص مؤلف القصيدة الشافية إلى القول :
بأن توحيد المبدع قد عرَفه الدليل المرسل الذي أرسل هادياً للأمة بدون تشبيه أو تعطيل أو تحديد أو تكييف. وينتهي إلى القول :
بأن من عرف الإبداع معرفة جيدة , و المبدع , ثم المبدع الأول الذي هو العقل الفعال, ثم الثاني وهو النفس الكلية ثم الهيولى و الصورة إلى آخر الحدود السبعية . ثم نزه الخالق و اعتقد بطاعته وطاعة الأنبياء المرسلين و الأئمة الوارثين فيكون قد عرف الله على الحقيقة و حاز مرتبة الخلود في جنان عالم العقل و النفس العلويان و وبغير هذا تعود نفسه إلى هوة السعير المظلمة وعالم الزمهرير تنقلب في أجوائه بالصعود تارة و بالهبوط تارة أخرى حسب أعمالها و اجتهاداتها و وهي في كلتا الحالتين تكون محجوبة عن كل معرفة ونور وقرب و اتصال سائرة في عالم يكتنفه الظلام الدامس و العذاب الأليم .
أما " الأمر " فهو القادر على التخليق لا من شيء هو مادته ولا بشيء هو آلته ولا مع شيء هو رفيقه ولا مثل شيء هو شبيهه ولا لشيء هو ذو حاجة إليه و يطلق على الأمر العلم و الحكمة و الوحدة ومعنى ذلك أن أمر الله لم يخالف علمه ولا علمه يخالف أمره ولا وقع بين ما علم من كيفية إبداع المبدعات وبين ما أمر من فعل البينونة .
ومعنى الكلمة الواقعة على " الأمر " هي أنها مما تحمل على الاسم ليكون به قولاً مؤلفاً من اسم و كلمة , فلما وضعت الكلمة بمعنى أمر المبدع فقد أمر المبدع جل جلاله أن تلحق بأمر كلمته كما تلحق بما دونه من المبدعين , معنى الوحدة أن الله تعالى مقدر التوحيد الذي منه انبعاث الواحد المتعالي عن سمات البرية و مظهر المبتدعات المستغني عن مشاركة قوة أخرى معه فهو وحدته خرجت الأشياء منه دفعة واحدة وقد جرت بذلك آيات كثيرة منها : ( وما أمرنا إلا واحدة كلمح البصر ) و ( إلا له الخلق و الأمر ) و ( لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء ) و ( أنزل بعلمه ) و ( تمت كلمة ربك صدقاً و عدلاً ) و ( إذا دعي الله وحده ) و ( ليعبدوا الله وحده ).
يتبع.......................
(تم إجراء آخر تعديل على هذه المشاركة: 09-16-2008, 03:23 PM بواسطة eyad 65.)
|