و ليس ( الأمر ) من الحدود العلوية كما يعتقد البعض, و ليس له ممثول في عالم الدين أو الطبيعة , بل هو مصدر الأفعال وقوة إرادية و مشيئة عليا انبعثت من نفس المبدع , وإن الإرادة و المشيئة و الأمر بمعنى واحد فإنه إذا شاء أراد و إذا أراد أمر وكل ذلك عبارة عمَا اتصل بالمبدع الأول من الأمر الساري إليه من مبدعه , وقد صار العقل الأول مما اتصل به من مبدعه شيئاً واحداً لا تمايز فيه ولا تغاير .
وفي هذا الصدد يقول مؤلف القصيدة الشافية المجهول :
بأن ( الأمر ) هو تدبير للسياسة وقول عادل صدر عن مقام الرئاسة و فعل ظهر عن الرئيس الأعلى و رأي صائب جال في فكر عاقل مدبر , أما العقل فهو وجه الباري , كما أن النفس وجه العقل , و أن الروح لاتوجد في البداية بل توجد في النهاية وهي قوة جارية في كل الأعضاء كمثل الهواء الجاري في الأضواء أو كمثل الحمل الذي يتكون من ماء دافق حقير , فعندما تستوي خلقته و تنتقل من لاشيء صورته ويصير في دار الحس وتنتشر فيه مواد النفس عندئذ يعتبر خلقاً جديداً ظاهراً وهكذا روح القدس في البداية تقبل أمر الأمر للنهاية فهي بحر ذلك الكور وقد فاضت قبل حدوث الدور لأن أرواحها موجودة في الأول من جوهر العقل اللطيف وتقبل تأييد الباري لأنها في عالم العقل النفيس و ولما كان من الجوهر الثمين يخرج الصدف الخسيس وخاصة عند تجلي العقل للنفوس في ختام الأكوار وابتداء الأدوار , وهذا ماطليه ادم وسعى إليه ظاناً أنه أبدي سرمدي لا يزول .
وننتقل بعد ذلك إلى ذكر العقل الفعال فنقول :
إنه أول من حدود الموجودات و فهو المنبعث الأول و الواحد بترتيب العدد و أول خلق ظهر من أمر الله تعالى و وسمي " العقل " لأن المبدع حصر في جوهره صور المبدعات كلها كي لايذهب شيء منها و ويقال للعقل أيضاً " القلم ط لأن بالقلم تظهر نقوص الخلقة من الابتداء إلى الانتهاء , ومن العقل تنفطر الحروف الجامعة للكلام , ويقال للعقل " العرش " ومعناه أن قرار معرفة التوحيد هو مايتقرر في العقل من الإثبات و النفي و بالعقل تعرف جلالة الله وعظمته عن سمات بريته و كذلك العرش فهو مقر لمن جلس عليه وبجلوسه تعرف جلالته عمن هو منحط دونه , ويقال للعقل ( الأول ) ومعناه مصدر الأولية لبتي ظهرت منه المخلوقات , ويقال للعقل ( السابق ) ومعناه أنه سبق لقبول آثار الكلمة قبل سائر الحدود لقربه منها ولاتحاده بها وهي و العلم و الأمر بمعنى واحد , وقد يجوز أن فعل العقل قد سبق قوته ولا توجد هذه الفضيلة في موجود سواه , لأن جميع الحدود من دونه قواتهم سابقة لأفعالهم وهذه الفضيلة للعقل خاصته ليكون بها تاماً كاملاً , وأن العقل هو الأول في الوجود و السابق في الوجود و التام في الوجود و التمام في الوجود والحد الأول و المبدع الأول و المترتب أولاً في الوجود على طريق الإبداع كاملاً أزلياً , فهو الملك المقرب والاسم الأعظم لا إله إلا من أبدعه . كما و أنه أداة باطنه في الإنسان فيه يصبر ما يبطن كما أن العين أداة ظاهرة فيها يبصر ما يظهر وهو كالواحد من الأعداد من حيث تعدد النسب و الإضافات , فكما أن الواحد يتعدد بالنسبة لغيره من الأعداد ويتكثر بالإضافة من إلى غيره من هذه الأعداد , فإنه يبقى مع ذلك واحداً دائماً فكذلك الموجود الأول تتعد نسبه و تتكثر إضافاته إلى ما سواه من الموجودات ولكنه يظل مع ذلك واحداً ابداً. وللعقل وظيفتان و وظيفة التفكير في الباري ووظيفة التفكير في نفسه, ومن العقل انبثقت نفس العالم ولهما ميلان علواً إلى العقل و هبوطاً إلى عالم الطبيعة.ويطلق " حجة العراقين " الكبير و الفيلسوف العظيم " أحمد حميد الدين الكرماني " على الموجود الأول اسم المبدع الأول أو العقل الأول أو المحرك الأول باعتباره أصل لجميع المتحركات في عالمي العقل و الجسم . ويقول :
إن الحدود وجدت عن بعضها البعض بترتيب منه , فمن العقل النفس ومن الهيولى الصورة ومن الصورة السموات و الأرض و حركاتها . ونراه أيضاً يسمي عقلاً فعالاً عاشراً ويجعل ترتيبه في آخر العقول لأنه بمثابة المبدع للأجسام, ويقول:
إن مركزه كمركز العقل الفعال الأول ويزيد على ذلك قوله :
إن العقل الأول مركز لعالم العقول و العقل الفعال مركز لعالم الجسم , من الأجسام العالية الثابتة إلى الأجسام المستحيلة المسماة عالم الكون و الفساد و وهذه التسمية لم يذكرها أحد من الفلاسفة قبل الكرماني , فهو يعتبر بحق مبتكرها ومبدعها , و العقل الأول مبدع أبدعه الباري سبحانه و تعالى فهو الإبداع الأول و الخلق الأكمل وإنه فعل فعله الله بذاته و أوجده بكلمته و قدرته التي قدر فيها وجوده , والعقل أقرب الأشياء من باريه جلً اسمه وهو الفاعل لما دونه بأمره وفي المعلول توجد العلة ويضاف إلى كل ذلك بأن العقل هو العلة الأولى لوجود ما سواها من الموجودات و المبدأ الأول لحركة جميع المتحركات في عالمي العقل و الجسم فهو دائم الإشراق في الأدوار يقبل ما يتصل به من فيض المبدع , وإن نوره كنور الشمس في المثال و كمشيئة المبدع و حكمته النافذة في البرية التي أوجبت أن يفيض من كثرة الأعداد حتى تظهر القدرة و المبدع الأول هو علة لوجود الموجودات الكائنة و كما أن الواحد هو علة الأعداد جميعها , وأن الإنسان مكون من كثيف ظاهر ومن لطيف باطن , فالكثيف الظاهر ينقسم إلى عناصر الحياة الأربعة : التراب و الهواء و النار و الماء , وهناك شيء لطيف باطن هو العقل , وقد أطلق على النفس الناطقة النفس ( الكلية ) و على العقل ( الكلي ) لأن العقول الجزئية و النفوس الجزئية التي في الإنسان منسوبة إلى العقل الكلي , و النفس الكلية في عالم العقل وهو الباطن اللطيف وأن العقل سابق في الوجود على كل الحدود كما أن النفس به لاحقة ثم أن الهيولى سابقة و الطبيعة لاحقة تشوقَت إلى الصورة و هيولاها كتشوقها إلى لطائفها إذ بها كمالها و تمامها , والهيولى الأولى مشتاقة إلى النفس وما تقبله من فيضها .
أما النفس فهي الخلق الثاني المنبعث من الخلق الأول , وإنما سميت نفساً لأنها تتنفس دائماً للاستعادة ليكون بتواتر تنفسها قوام الخلقة , ويقال للنفس ( اللوح ) ومعناه أن الذي انفطر من العقل من أنوار الكلمة يتسطَر في النفس , ومن النفس يتصل بجريانها المنبعثة منه على مقدار صفائها و لطائفها , ويقال للنفس ( الملك ) ومعنى ذلك أن النفس ملك العقل وقينته , لأن بالنفس ظهرت فضيلة العقل , كما أن بالملك تظهر فضيلة الملك , ويقال للنفس ( الثاني ) فمعناه أنها الحال الثاني لجميع المخلوقين ومحافظتهم أشياءهم , إنما تفضيل النفس بين كل شيء ليكون للسلوك و للمنطق عبارة ويقال للنفس ( التالي ) ومعناه الذي يتلو العقل في باب قبول آثار الكلمة إنما هي النفس , ويجوز أن النفس بقوتها تتلو العقل بفعله و يقال للنفس ( القدر ) ومعناه أن الذي يتحد بالنفس من فوائد العقل فإن التقدير و التحديد محيطان به , ويقال للنفس الصورة , ومعنى ذلك أن النفس تصورت من جوهر العقل , ويقال للنفس ( القمر ) ومعناه أن النفس تستفيد من أنوار العقل و ضياءه , وإنها متى همت أن تلحق به لتنزل منزلته محق نورها , كما أن القمر يستفيد نوره من نور الشمس و إذا ا أجتمع مع الشمس في المنزلة محقت أنوارها نوره ز ويقال للعقل و للنفس بكلمة واحدة ( الأصلان ) ومعناه أن العقل و النفس مرجع الأشياء سواء أكان روحانياً أو جسمانياً , أما متى يكون اتصال النفس الكلية بالإنسان ومتى يكون معادها فالجواب هو أن النفس النامية هي الحياة الكامنة في كل شيء من موجودات عالم الكون و الفساد و هي التي تسمى الحياة الهيولانية ويعني أنها موجودة في كل هيولى طويل عريض عميق وهي تنسل الأبخرة الصاعدة
من الماء و الأرض إلى الهواء ثم يمازجها قسط من الهواء و قسط من النار و تصير غيوماً ثم تنحل مطراً فإذا انعقد من ذلك المطر معادن كانت تلك الحياة وهي التي تسمى النامية الكامنة في تلك المعادن , وإذا ظهر ذلك المطر نباتاً كانت تلك الحياة التي هي فيه تسمى نفساً نامية و اتصالها به عند حصول البذر الذي هو سبب النبات في الثرى وهو الماء و التراب لإنمائها ذلك النبات و تحريكها إياه , وسميت نامية لأنها تجتذب له الغذاء بالعروق من عمق الأرض و تزيد في طوله وعرضه و عمقه فإذا حصل من ذلك النبات مع ما بلائمه من الأغذية من بعض الحيوان الذي يغتذيه بنطفة كانت تلك الحياة كامنة في تلك النطفة ما دامت في أصلاب الذكران ,فإذا ظهرت بالمناكحة إلى أرحام الإناث كان عند في وقوعها في الرحم ظهور فعل تلك النطفة التي هي فيه كامنة و فحركتها و أنمتها طولاً و عرضاً و عمقاً وجذبت بقوتها التي هي الجاذبة للغذاء إلى كل عضو قسطه بالقوة الماسكة و هضمت مايرد عليها من الغذاء بالقوة الهاضمة و دفعت فضل الأغذية بالقوة الدافعة و أنمت كل عضو بالقوة المنمية , صورت كل عضو صورته التي تليق به بالقوة المصورة و غذت كل عضو بما يصلح له من الغذاء بالقوة الغاذية فهذه قوى النفس و فعلها في الجسم و اتصالها به عند وقوع النطفة في الأرحام , ويضاف إلى كل ذلك بأنه عن النفس الكلية يصدر الملائكة الموكلون بعالم الطبيعة و وعن الملائكة و عالم الطبيعة و عن الملائكة و عالم الطبيعة يصدر الإنسان بالنفس و الجسم وعن الهيولى و الصورة يصدر عالم الطبيعة بأفلاكها و كواكبها فترجع الناس إلى ماعنه وجدت وهو الملائكة و يرجع الجسم إلى ماعنه وجد وهو الهيولى و الصورة , و النفس جوهر لطيف يقبل نور العقل وقد وجد بعد العقل وهي القوة الثانية الجامعة للأنوار و قد أودعت صورة الأشياء جميعها من ميت و ناطق وحي و وقد شبه " الكرماني " النفس الكلية بأنها مستعدة للإحاطة بالعلم و قبول الصور كالشمعة التي تنال من الحرارة فتصبح قابلة للنقش و وأما "الفارابي " فقال بأنها ذات شبيهة بمادة تحصل فيها صورة , إذن فهذا النقش و تلك الصورة احتوت على المادة بأسرها و صارت المادة بجملتها كما هي بأسرها تلك الصورة .
كما أن النفس قبل تعلقها بالجسم تحركت حركة طويلة غير متوهمة كتوهم الحركات المحسوسة الكائنة في الزمان الفلكي وكانت في عالمها الروحاني و محلها النوراني ومركزها إلى جانب العقل الفعال تقبل منه الفيض و الفضائل و الخير و تتراءى فيه المثلات العقلية الرانية وكانت معه ملتذة مسرورة فلما أقامت على تلك الحركة الفاضلة و النعمة الكاملة و البركة الشاملة مالا يصل إلى تصوره الوهم الجزئي و التخيل الحسي , امتلأت من تلك الفضائل والخيرات و أرادت التشبه بعلتها وأن تكون مفيدة وأن تكون ذاتاً تامة وجوداً , فلما رأى الباري سبحانه ذلك منها مكنها من الجسم وهيأه لها وخلق من ذلك الجسم عالم الأفلاك و أطباق السموات من لدن فلك المحيط إلى منتهى مركز الأرض , وركب الأفلاك بعضها في جوف بعض فتحركت النفس فيها حركة اختيارية وقد وجدت في الأشياء المخلوقة منها قوة القبول لآثارها فصورت فيها صورة مافي ذاتها و جعلتها و نقشتها و صنعتها و أكسبتها الحركة و وان الباري جل جلاله و تقدست أسمائه لما أبدع الموجودات في المبدع الأول وهو العقل اخترع المخترعات بوساطة النفس وجعلها مقدرة في الكائنات مكونة بحسب الأمهات و المواليد و ونظمها كمراتب الأعداد عن الواحد الذي قبل الاثنين و الاثنين الذي قبل الثلاثة و كذلك مابعده و جعل لكل جنس منها حداً مخصوصاً ونهاية معلومة متطابقة بعضها لبعض فاعلة و منفعلة هيولى و صورة نوعاً و جنساً , إذ أنه رأى أن ذلك أحكم و أتقن و أكمل و أحسن و أهدى إليه و أبين , و النفس منها عاقلة مميزة ناطقة معبرة و نامية وحيواني وهي دراكة بالقوة فعالة بالطبع ذات سبع قوى : عاقلة , وحافظة و ذاكرة و ومتخيلة و مفكرة , و ناطقة , وعلامة .
أما الهيولى فهو جوهر بسيط قابل للصور ومهيأ لقبول ما يتحد به كقبول الشمس اثر النقش و التصوير إذا ألصق به و وهو جوهر له طول وعرض وعمق و الهيولى على أربعة أنواع ك هيولى الصناعة , و هيولى الطبيعة و هيولى الكل و الهيولى الأولى , فهيولى الصناعة هي كل جسم يعمل منه وفيه الصانع صنعته كالخشب للنجارين و الحديد للحدادين , وعلى هذا القياس وأما هيولى الطبيعة فهي الأركان الأربعة وذلك أن ماتحت فلك القمر من الكائنات أعني به النبات و الحيوان و المعادن , فمنها تتكون وإليها تستحيل عند الفساد , أما الطبيعة الفاعلة لهذا فهي قوة من قوى النفس الكلية الفلكية و وأما هيولى الكل فهي الجسم المطلق الذي منه جملة العالم وأعني به الأفلاك و الكواكب و الأركان و الكائنات أجمع لأنها كلها أجسام , وإنما اختلافها فمن أجل صورها و أما الهيولى الأولى فهي جوهر بسيط معقول لايدركه الحس وذلك لأنه صورة الوجود أو الهوية الكبرى وعندما قبلت الهوية الكمية صارت جسماً مطلقاً مشاراً إليه بالأبعاد الثلاثة .
وإن اختلاف الموجودات إنما هو بالصورة لا بالهيولى , وذلك أننا نجد أشياء كثيرة جوهرها واحد وصورها مختلفة مثال ذلك السكين و السيف و الفأس و المنشار وكل مايعمل من الحديد من الآلات و الأدوات و الأواني فإن اختلاف أسماءها من أجل اختلاف صورها و ليس من أجل اختلاف جوهرها لأنها جميعها من معدن واحد هو الحديد و كذلك الباب و الكرسي و السفينة وكل ما يعمل من الخشب , فإنما اختلاف أسمائها إنما هو بحسب اختلاف صورها , وأما هيولاها فواحدة , ومهما يكن من أمر فلابد لكل مصنوع من هيولى وصورة يركب بها , كما أن الهيولى و الصورة لا تنفصلان , فلا صورة من غير هيولى , ولا هيولى من غير صورة وكل موجود في الخارج يكون منهما , و الصورة ليس معناها الشكل و إنما يعنى بها جميع الصفات العائدة للشيء من لون و خفة وثقل و جمال وقبح و لمعان و انطفاء وما إلى ذلك ويعنى بها كذلك العلاقة بين أجزاء الشيء بعضها ببعض وعلاقة كل جزء بالكل . أما الهيولى فإنها في ذاتها لا صورة لها ولا مظهر و لاتحد و لاتوصف و وإنما الذي يحد الهيولى ويجعلها توصف وتظهر فهو الصورة ونتج من ذلك أن ليس هناك من فرق بين الهيولى و بعضها وبعض . فالشيء إنما يختلف عن الشيء بصفاته وبذلك نعلم أن الهيولى ليست المادة أو العنصر و لكنها أعمق من ذلك , فليس الذهب بمختلف عن الفضة في الهيولى ولكن في الصورة . هذا وإن كل واحد من الصورة و الصورة قوام الطبيعة فأحدهما منزلته منزلة خشب السرير و الآخر منزلته منزلة خلقة السرير , فما منزلته الخشب فهو المادة أو الهيولى , وما منزلته خلقته فهو الصورة و الهيئة . فالمادة موضوعة ليكون بها قوام الصورة و الصورة لايمكن أن يكون لها قوام ووجود بغير المادة فالمادة وجودها لأجل الصورة ولو لم تكن صورة ما موجودة لما كانت المادة و والصورة وجودها لا لكي توجد بها المادة بل ليحصل الجوهر المتجسم ظاهراً بالفعل فإن كل نوع إنما يحصل موجوداً بالفعل وبأكمل وجوديته إذا حصلت صورته , ومادامت مادته موجودة دون صورته فإنما ذلك النوع بالقوة , فإن خشب السرير مادام بلا صورة السرير فهو سرير بالقوة وإنما يصير سريراً بالفعل ا حصلت صورته في مادته وإن النفس الكلية بتوسط العقل الفعال قد حركت الهيولى طولاً و عرضاً و عمقاً فكان منها الجسم المطلق ثم ركب من الجسم عالم الأفلاك و الكواكب و الأركان الأربعة جميعا ثم دارت الأفلاك حول الأركان و اختلطت ببعضها البعض فكانت منها المولدات الكائنات من المعادن و النبات و الحيوان . ويضاف غلى هذا أن العالم الكبير قد تشبه بجسم , فالعقل المقبل المشرق بأنوار التأييد , و النفس الكلية صورة صادرة عنه بأمره و بنهيه وهي القابلة منه بالجود و الفيض و والأفلاك السبعة جوفه و الكواكب السبعة جواهره و البروج الاثنا عشر حواسه و القوى النفسانية السارية فيه روحه و أنفاسه وأجناس مواليده و غرائب ما في جسمه من فنون أشكاله و عجائب أوصاله وعالم الكون والفساد يداه الباسطة و القابضة , فالشمس و القمر عيناه ذوات الأنوار الساطعة ومركز الأرض و الطبيعة رجلاه , وأمر الله عز وجل حائط به وهو سابح في فلك القدرة وحجاب المشيئة و المبدع مطلع عليه محيط به إحاطة تقدير و تدبير سبحانه و تعالى وهو العلي الكبير .
وقبل أن أقف في النهاية لا بد من القول:
بأن المقصود بالجسم الكلي هو جسم العالم بأسره و وأن النفس الكلية هي نفس العالم بأسرها أيضاً وإن العقل الكلي هو القوة الإلهية المؤيدة للنفس الكلية و أن الطبيعة هي قوة النفس الكلية السارية في جميع الأجسام المحركة المدبرة لها , وإن الأجسام البسيطة هي الكواكب و الأفلاك و الأركان الأربعة التي هي النهار و الهواء و الماء و التراب , وإن الأنفس البسيطة هي قوى النفس الكلية المحركة و المدبرة لهذه الأجسام السارية في جميع الأجسام المحركة المدبرة لهذه الأجسام السارية فيها وإن الأجسام المولدة هي الحيوان و النبات و المعادن , ثم أنه قد أتى على ذكر العالم العلوي ودور الكشف و بعده انتقل إلى قصص الأنبياء . ومن الرجوع غلى شرح القصيدة يتبين أنه لم تبق شاردة أو واردة إلا و جلوناها و قربنا فهمها إلى الأذهان . إذن لا أرى من الفائدة تكراراها و إعادة شرحها هنا . ولكن لابد من القول بأن هذا التراث الثمين جدير بأن ينال من اهتمام العلماء و الأدباء و الباحثين , فهو يمثل وجه فلسفتنا العربية اصدق تمثيل , ويعبر عن كل مافي هذه الفلسفة من روعة وعمق و خلود .
عارف تامر
يتبع...................