11 دقيقة " رائعة باولو أكويليو "
وهذا ما دونته ماريا فى يومياتها بعد أربعةأسابيع من وصولها الى جنيف :
" أنا هنا منذ الأزل . لا أعرف اللغة . أقضى نهارى فى الأستماع الى الموسيقى عبر جهاز الرايو , والنظر الى جدران غرفتى والتفكير فى البرازيل , منتظرة بفارغ الصبر أن يحين وقت العمل . وعندما اعمل , أنتظر أن يحين وقت العودة الى المنزل , أى اننى اعيش فى المستقبل بدل ان اعيش فى الحاضر .
ذات يوم فى المستقبل البعيد , سأحصل على تذكرة العودة سأتمكن من العودةالى البرازيل , والاقتران بصاحب محل النسيج , والاستماع الى التعليقات الخبيثة لصديقاتى اللواتى لم يجازفن قط فى حياتهن . ولا يهمنى بالتالى الا الحديث عن فشل الأخريين .لا , لا يمكننى الرجوع . أفضل أن أرمى بنفسى من الطائرة فى المحيط .
لكن , بما أن نوافذ الطائرة مغلقة دوما ( وهذا شئ لم اكن اتوقعه ولا أستطيع لاسف أن أشتم الهوا النقى ) . أفضلالموت هنا , لكن , قبل أن أموت , اريد أن اصارع من أجل الحياة , وما دمت أستطيع ان امشى وحدى ....فساذهب الى حيث أشاء .
* * * * *
ذهبت ماريا فى صباح اليوم التالى لتتسجل فى عداد الرغبين فى تعلم اللغة الفرنسية . هناك تعرفت الى أشخاص ينتمون الى كل المعتقدات والأعمار , والى رجال يرتدون بزات فاقعة اللون وتثقل معاصمهم سلاسل ذهبية , ونساء يرتدين باستمرار أحجبة فوق رؤؤسهن , وأطفال يكتسبون اللغة بطريقة أسرع ما يكتسبها الكبار . لكن , الا ينبغى ا، يكون الامر معكوسا ما دام لدى الكبار خبرة أوسع فى الحياة ؟ كانت فخورة بانهم جميعا يعرفون بلادها والكرنفال والسامبا وكرة القدم واللاعب الاشهر فى العالم " بيليه " . أرادت فى البداية أن تكون ودودة وحاولت ان تصحح الطريق التى يلفظوت بها اسم " بيليه " . لكنها اذعنت فى نهاية الامر , لانهم كانوا يلفظون أيضا اسمها بشكل سيئ . وهذا عائد الى تلك العادة المتهجنة لدى الأجانب التى تقوم على تحريف جميع الاسماء , والأعتقاد بانهم دائمآ على حق . !
بعد الظهيرة , ذهبت ماريا تتجول لأول مرة فى هذه المدينة ذات الأسمين , وذلك بهدف اتقان اللغة الفرنسية . تذوقت شوكولاتة لذيذة وجبنة لم يسبق لها أن تذوقتها , ورأت فؤارة هائلة وسط البحيرة , والثلج الذى لم يدسه قط اى من سكان مدينتها , والبجع والمطاعم المزود بالمداخن ( لم تدخل أيا من المطاعم , لكنها كانت ترى النار عبر النافذة .وهذا كان يمنحها شعورا لذيذا بالأرتياح ) .
عجبت ايضا حين رأت الملصقات الأعلانية التى لا تظهر فقط الساعات بل ايضا المصارف . لكنها لم تستطع ان تفهم لماذا يوجد هذا العدد الكبير من المصارف قياسا على سكان قيلى العدد . ومع ذلك قررت الا تطرح الأسئلة مجددا .
استطاعت ماريا ان تكبح جماع طبيعتها الشهوانية والدجنسية وهذا امر معروف جدا عن البرازيليات . لكن غريزتها استفاقت ذات يوم ووقعت فى غرام شاب عربى كان يتابع معها دروس الفرنسية دامت العلاقة ثلاثة أسابيع . ثم قررت ذات مساء أن تترك كل شئ وتذهب الى الجبل القريب من جنيف . عندما حضرت الى عملها فى اليوم التالى , بعد الظهر , استدعاها روجيه الى مكتبة .
ما ان فتحت الباب حتى تبلغت صرفها من العمل دون مقدمات والسبب انها اعطت القدوة السيئة لزميلاتها الأخريات فى العمل . كان روجيه غاضبابشكل هستيرى . قال ان البرازيليات خيبن امله مرة أخرى, وانه لا يمكن الوثوق بهن ( اه , يا الهى , ما أفدح هذا الحكم الذى يجرى تعميمه على كل الحالات ) . عبثا أكدت له ان غيابها كان ناجما فقط عن اصابتها بحمى سببها فارق الحرارة . لم يقتنع الرجل , واسف لأنه مضطر للرجوع الى البرازيل من أجل البحث عن بديلة . ثم أضاف أنه كان أحسن صنيعا لو انه نظم حفلة موسيقية بمشاركة راقصات يوغوسلافيات , وهن أجمل من البرازيليات وأكثر أستعدادا للقيام بالأدوار الموكلة اليهن .
لم تكن ماريا بلهاء اطلاقا على الرغم من صغر سنها , لا سيما وان عشيقها العربى أوضح لها ان العمل فى سويسرا منظم بشكل صارم , وان بأمكانها ان تثبت أن المؤسسة التى تعمل فيها كانت تستغلها وتقتطع قسما كبيراً من أجرها .
رجعت لتقابل روجيه فى مكتبه . تكلمت هذه المرة لغة فرنسية صحيحة , وأدخلت فى مفردتها عبارة " محام ... خرجت مع بعض الشتائم وخمسة ألاف دولار كتعويض . وهذا مبلغ لم تحلم به . كل ذلك بفضل هذه الكلمة السحرية " محام " . بأستطاعتها الان ان تتفرغ لصديقها العربى , وتشترى بعض الهدايا , وتلتقط صورآ للمناظر الثلجية , وتعود الى المنزل فخورة بهذا النصر الذى طالما حلمت به .
كان أول ما فعلته اتصالها باحدى جارات أمها . قالت لها أنها سعيدة , وان لديها مهنة رائعة , وانه لا ينبغى ان يقلق أحد فى البيت بشأنها . كانت لا تزال أمامها مهلة لمغادرة غرفتها فى النزل . لذا , أرتأت ان كل ما عليها أن تفعله هو ان تذهب للقاء العربى لتعرب له عن حبها الصادق , وأستعدادها ان تعتنق دينه وتتزوجه , حتى لو اضطرت ان ترتدى مثل هذا الحجاب الغريب . الجميع هنا يعرفون ان العرب أثرياء جدآ , وهذا سبب وجيه لكى توطد علاقتها به .
لكن العربى غادر . والآن , بما انها تتكلم الفرنسية ببراعة , وتملك الحصول على تذكرة العودة , وبما ان لديها بطاقة عمل تصنفها بين راقصات السامبا وترخصيا بالأقامة لا يزال سارى المفعول , وبما انها تعلم ان بامكانها , اذا سدت جميع المنافذ فى وجهها , أن تقترن ببائع النسيج , فقد قررت ماريا أن تفعل ما هى قادرة عليه , ان تكسب المال بفضل جمالها .
تذكرت أنها فى البرازيل قرأت كتابا يروى قصة راع يبحث عن الكنز , وكان الحصول عليه مشروطا بان يواجه مصاعب وأخطار لا تحصى . رأت أن هذه القصة تنطبق على حالتها , أدركت فى هذا اللحظة أنها طردت من العمل لكى تذهب لموادهة مصيرها الحقيقى , وهو يتمثل فى أن تصير عارضة أزياء .
أستأجرت غرفة صغيرة ( دون تلفزيون , لان عليها أن تحد من الانفاق ما دامت لا تجنى مالا ) فى اليوم التالى , عزمت على القيام بجولة على الوكالات التى تستخدم العارضات . أبلغوها فى كل مكان أن عليها ان تحضر صورا لها ملتقطة لدى مصور محترف . وهذا , فى اى حال , عنصر من العناصر الأساسية للمهنة , لان كل الأحلام باهظة الثمن . انفقت قسمآ كبيرآ من مالها عند مصور يمارسه مهنته بأمتياز , قليل الكلام ومتشدد فى شروطه الى أبعد الحدود , وكانت لديه خزانة ملابس هائلة فى الأستوديو .
اخذت لماريا لقطات شتى , مرتدية الملابس المحتشمة أو الغريبة أو البيكينى ( لو رأى الشخص الوحيد الذى تعرفه فى ريوم دى جانيرو اى مايلسون الحارس والمترجم ومدير الأعمال السابق , هذا البيكينى , لكان فخورآ بها حتى الموت ) . طلبت نسخآ اضافية من الصور وارسلت بعضها الى عائلتها ضمن رسالة تقول فيها انها كانت سعيدة فى سويسرا . سيعتقد اهلها أنها ثرية وأنها تمتلك خزانة ملابس تحلم بها كل امراة ثرية , وانها اصبحت الفتاة الأشهر فى مدينتها . واذا سارت الأمور كما تشتهى ( قرأت كتبا عدة عن التفكير الأيجابى , ولا يمكنها ان تشكك فى انتصارها ) , فستكون هناك فرقة موسيقية فى استقبالها لدى رجوعها الى المدينة , وسيقوم رئيس البلدية بتدشين ساحة تحمل اسمها .
اشترت هاتفا خلويا وانتظرت طوال الأيام التالية ان يتصل بها أحدهم ليعرض عليها عملا . كانت تنتاول الطعام فى مطاعم ضينية ( وهى الأقل كلفة ) وتدرس مثل المجنونة لتزجية الوقت .
لكن الوقت لا يمر والهاتف لا يرن . تعجبت من أن لا أحد يقترب منها حين تذهب للتنزه على ضفاف البحيرة , بأستثناء تجار المخدرات الذين يظلون فى المكان نفسه , تحت أحد الجسور التى تؤدى الى المنتزه القديم بالمدينة الجديدة . أخذت تشكك فى جمالها وجاذبيتها , الى ان صادفت فى أحد المقاهى أحدى زميلاتها السابقات فى العمل . قالت لها ان الخطأ ليس فيها بل فى السويسريين الذين لا يحبون أزعاج الأخرين , وفى الأجانب الذى يخشون ان يتم توقيفهم بتهمة " التحرش الجنسى " . وهذا مفهوم تم استنباطه لكى تشعر نساء العالم قاطبة أنهن مكروهات .
وفى أحدى الأمسيات حين فقدت ماريا الشجاعة على الخروج من المنزل وعاشت املة بتلقى مخابرة هاتفية لا تحدث , كتبت فى يومياتها هذه العبارات :
" اليوم , مررت بالقرب من مدينة الألعاب , بما اننى لا أٍستطيع تجاوز الحد من انفاق المال , ففضلت أن اراقب . بقيت طويلا أمام الجبال الروسية ( * ) .
رأيت ان معظم الناس يدخلون هذه المركبة سعيا وراء الانفعالات . لكن ما ان تسير الآلات حتى يصابوا بالهلع ويتوسلوا كى تتوقف .
فما الذى يريدونه ؟ اذا كانوا قد اختاروا المغامرة أفلا يجدر بهم أن يكونوا مستعدين للذهاب حتى النهاية ؟ ام انهم يعتقدون ان من الحكمة الا يمروا بمرتفعات ومنحدات , وان من الأفضل البقاء فى مركبة تدور مكانها بشكل ثابت ؟
فى هذا اللحظة بالذات , اشعر بوحدة فظيعة , ولا يمكننى حيالها أن افكر فى الحب . لكن على الأقتناع بان هذه المحنة لن تستمر , وأننى سأجد الوظيفة التى تناسبنى , واننى هنا لأننى اخترت ان اواجه قدرى بنفسى . الجبال الروسية صورة عن حياتى , لأن الحياة لعبة عنيفة هاذية . الحياة هى أن ترمى بنفسك من مظلة وأن تجازف , ان تسقط وتنهض من كبوتك الحياة . الحياة هى هى أن تتسلق الجبال لتحاكى الرغبة فى تسلق قمة النفس , وان لم تتوصل الى ذلك , فعليك أن تعيش قانعا ذليلا .
ليس أمرى سهلا أن أكون بعيدة عن عائلتى , أن أتخلى عن اللغة التى يمكننى أن اعبر فيها عن جميع انفعلاتى ومشاعرى . الا اننى ابتداء من اليوم , سأتذكر مدينة الألعاب كلما شعرت بالأحباط لكن , ماذا لو نمت وأفقت فوجدت نفسى فجأة فى " الجبال الروسية " ماذا سيكون شعورى عندئذ؟
عندئذ سأشعر اننى سجينة ,فأخاف من المنحدرات وارغب فى التقيؤ والنزول من المركبة . لكنك , اذا كنت مقتنعة بأن السكك هى قدرى وأن الله يدير الآلة , عندئذ سيتحول الكابوس الى حالة من الأثارة , عندئذ لا تعود " الجبال الروسية " الا ما هى عليه , اى مجرد تسلية أمنة ويمكن الوثوق بها . وما دامت الرحلة مستمرة , يجدر بى أن أشاهد المنظر المحيطبى وأنا أزعق من شدة الحماس .
* * * * *
كانت ماريا قادرة فعلا على تصور البدائل الممكنة والتعبير عنها بلغة الحكيم العاقل , لكن هذا لا يعنى انها تستطيع تطبيقها فى الواقع . أخذت لحظات الأحباط بالأزدياد وبقى الهاتف صامتا . وأخذت ماريا تقضى أوقات فراغها فى قراءة المجلات الشعبية لتزيد من قدرتها على أستخدام اللغة الفرنسية فى ساعات الفراغ . ثم أدركت أنها تنفق الكثيرمن المال , فقررت الذهاب الى المكتبة الاقرب . أوضحت لها أمينة المكتبة انهم لا يعيرون المجلات , لكن بأمكانها ان تقترح عليها عناوين كتب تساعدها على التمرس باللغة الفرنسية بشكل أفضل .
- ليس لدى الوقت لقراءة الكتب .
- ليس لديك الوقت ؟ ماذا تفعلين ؟
- أشياء كثيرة , أتعلم الفرنسية وأكتب يومياتى و...
- وماذا ؟
كانت ستقول " أنتظر أن يرن الهاتف , لكنها أثرت الصمت " .
- يا بنيتى , أنت شابة , والحياة أمامك . أقراى , انسى كل ما يقال لك عن الكتب وأقرأى .
- قرأت كثيرا .
وفجأة , تذكرت ماريا ما قاله لها مايلسون يوما عن " الطاقات الكامنة " وبدت لها أمينة المكتبة شخصا حساسا ولطيفا وقادرا على مساعدتها فى حال أخفقت مساعيها . أنبأها حدسها أنها تستطيع ان تتخذها صديقة لها , وان عليها العمل لكسب صداقتها .
أضافت ماريا :
- لكنى اريد أن أقرا بعد , ساعدينى لو سمحت فى اختيار الكتب المناسبة .
أحضرت لها المرأة كتاب " الامير الصغير " . تصفحته ماريا فى المساء , تأملت فى البداية الرسوم التى تمثل قبعة . كان الكاتب يقول ان هذه القبعة يرى فيها الأطفال أفعى ألتهمت فيلا . فكرت ماريا " لم اكن يوما طفلة . ارى ان هذا الرسم يشبه فعلا قبعة " . بما أنها لا تملك جهاز تلفزيون فى غرفتها , فقد كانت ترافق الامير الصغير فى تجوله , لكنها تشعر بالحزن كلما تطرق الكتاب الى موضوع الحب . كانت قد حظرت على نفسها التفكير فى الحب , لئلا تعرض نفسها للأنتحار . ما خلا المشاهد الرومنطيقية الأليمة بين الامير والثعلب والوردة , كان الكتاب أهاذا وأستطاعت ان تشغل نفسها عن مراقبة شاحن الهاتف الخلوى التى كانت من خلالها شديدة الحرص ألا تضيع فرصة سانحة بسبب أهمالها .
أخذت ماريا تتردد الى المكتبة , وتحددث الى أمينة المكتبة التى بدت لها وحيدة جدا . كانت تلتمس رأيها وتتناقش معها فى أمور الحياة والأدب . وجاء اليوم الذى بدا فيه التعويض المالى الذى كسبته ينفذ , بعد أسبوعين لن يكون لديها المال لتشترى تذكرة العودة .
لكن , بما أن الحياة تنتظر دوما تأزم الأوضاع لكى تظهر براعتها , فقد رن الهاتف أخيرا .
مرت ثلاثةأشهر على اكتشافها كلمة " محام " وشهران على انفاقها من التعويض الذى تلقته مقابل طردها من العمل . بعد انقضاء هذه المدة ها هى تتلقى اتصالا من الوكالة التى تستخدم العارضات . شئلت اذا كانت لأنسة ماريا لا تزال موجودة على هذا الرقم . وكان جوابها " نعم " باردة , سبق أن تمرنت عليها لئلا يلمس السائل فى صوتها اى لهفة . علمت ان مسؤؤلا عربيا كبيرى عن الأزياء والموضة فى بلاده , قد أحب صورها كثيرآ , ويرغب فى دعوتها للمشاركة فى عرض ينوى القيام به . تذكرت ماريا حيبتها الحديثة العهد مع الفتى العربى الاخر , لكنها فكرت أيضا بالمال الذى كانت بأمس الحاجة اليه . وجرى تحديد الموعد فى أحد المطاعم الفاخرة . وجدت ماريا رجلا انيقا بأنتظاهرا , أكثر جاذبية ونضجا من رفيقها السابق .
سألها : : : هل تعرفين من رسم هذه اللوحة ؟ أنه خوان ميرو . هل تعرفين من هو خوان ميرو ؟
بقيت ماريا صامتة , وكأنها تركز أهتمامها فقط على الطعام الذى تنتاوله وكان مختلفا تماما عما تتناوله فى المطاعم الصينية . لكنها سجلت الملاحظة فى ذهنها , فى الزيارة المقبلة للمكتبة , عليها ان تستعلم عن خوان ميرو .
ثم قال العربى بأصرار " هذه الطاولة هناك , هى المفضلة لدى فيديريكو فيللينى ...ما رايك بأفلام فيللينى ؟ "
أجابت انها تعبد افلامه . اراد العربى الدخول فى التفاصيل . واذ أدركت ماريا ان ثقافتها السينمائية لن تيسر لها الفوز فى الامتحان , فقررت الذهاب الى صلب الموضوع , وقالت " لا اريد أن اغش . كل ما اعرفه هو الفرق بين الكوكا كولا والبيبسى . والآن ألا تريد ان تتكلم عن عرض الازياء ؟ " .
ولَدت صراحة الفتاة انطباعا جيدا لديه :
- نتحدث فى الموضوع حين نذهب , بعد انتهاء العشاء , لتناول كاس .
توقفا عن الكلام , وطفقا يتبادلان النظرات , ويحاول كل منهما ان يستكشف افكار الأخر .
كرر العربى قائلا " انت جميلة جدآ . اذا وافقت على احتساء كأسا معى فى الفندق الذى أنزل فيه , فسأعطيك الف فرانك "
فهمت على الفور ما يجرى . هل كانت هذه غلطة الوكالة التى تستخدم العارضات ؟ هل كانت غلطتها هى وكان يجدر بها ان تستعلم أكثر عن موضوع العشاء ؟ لا , لم تكن هذه غلطة الوكالة ولا غلطتها ولا غلطة العربى , هكذا تسير الأمور , بكل بساطة . وفجأة أحست انها بحاجة الى " السرتا " والبرازيل وذراعى والدتها . تذكرت مايلون على الشاطئ وهو يحدد لها التسعيرة التى تبلغ ثلاثمئة دولار . حينذاك وجدت المبلغ مغريا , لا بل أكبر بكثير ممما كانت تتوقعه مقابل قضاء ليلة مع رجل – لكنها أدركت فى هذه اللحظة انها لا تملك أحد فى العالم يمكنها التحدث اليه . كانت وحيدة فى مدينة غريبة وخلفها اثنتان وعشرون سنة عاشتها كما يحلو لها , لكنها مع ذلك لم تكن لتعينها على اختيار الجواب الأفضل .
- اسكب لى مزيدا من الخمر لو سمحت .
صبَّ لى العربى الخمر فيما كانت أفكارها تنتقل بسرعة تفوق الأمير الصغير بين الكواكب . تذكرت انها اتت الى هنا بحثا عن المغامرة والمال وعن زوج . كانت تعرف انها ستتلقى عروضا مماثلة . لم تكن برية , لا بل كانت معتادة تصرفات الرجال . لكن الوكالات التى تستخدم العارضات والنجاح والزوج الثرى والعائلة والأولاد والاحفاد والملابس والعودة الظافرة الى بلادها الام ... كل ذلك , كانت لا تزال مؤمنة به , ولا تزال تحلم بتخطى كل المصاعب بفضل ذكائها وسحرها وقوة ارادتها .
واجهها الواقع الأليم لينهال على رأسها كالطود . اجهشت بالبكاء ودهش العربى لذلك . لم يعرف ماذا عليه ان يفعل لانه كان خائفا من الفضحية ومدفوعا بغريزة ذكورية لحمايتها فى ان . أشار الى الخادم كى يحضر الحساب بسرعة . لكن ماريا منعته قائلة " لا تفعل . اسكب لى الخمر بعد , ودعنى ابكى قليلا " .
فكرت ماريا بالصبى الذى سألها قلما , وبالفتى الذى قبلها دون ان تفتح فمها وبفرحة اكتشافها لريو دى جانيرو , وبالرجال الذين استغلوها دون ان يعطوا شيئا بالمقابل , وبالشغف والحب اللذين فقدتهما أثناء مسيرتها . وبالرغم من الحرية الظاهرة , فانها رات ان ايام حياتها تتوالى الى ما لا نهاية فى انتظار المعجزة وبلوغ الحب الحقيقى والمغامرة التى تنتهى بشكل رومنطيقى كتلك التى شاهدت مثلها فى السينما او قرأت عنها فى الكتب . تذكرت ما قاله أحد الأدباء عن ان الوقت لا يغير الانسان ولا الحكمة أيضا , بل ان الشئ الوحيد الذى يمكن ان يدفع الكائن لينغير هو الحب . يا للبلاهة , يبدو ان هذا الكاتب لا يكشف الا وجها واحدا من الميدالية .
لا شك أن الحب قادر على تغيير كل شئ فى حياة الانسان خلال فترة زمنية قصيرة . لكن , وهذا هو الوجه الاخر للميدالية , هناك شعور أخر يمكن ان يقوم الكائن البشرى الى معارج مختلفة تماما عن تلك التى كان يسعى اليها , وهى الياس . أجل ربما كان الحب قادرأ على تغيير حياة الأنسان , لكن الياس قادر أيضاً على فعل ذلك وبسرعة اكبر . هل عليها ان تغادر مهرولة من المطعم وترجع الى البرازيل لتصبح أستاذة تعلم اللغة الفرنسية وتقترن برب عملها السابق ؟ أم علها الذهاب أبعد قليلا فى مساعيها , لا شئ يذكر , مجرد ليلة فى مدينة لا تعرف فيها احدا ولا احد يعرفها . هل ستدفعها ليلة واحدة , ومال يسهل الحصول عليه , للذهاب أبعد ما تصورت , الى نقطة اللاعودة ؟ ما الذى كان يدور فى هذه اللحظة ؟ هل أمامها فرصة غير منتظرة أم اختبار تخضعها له العذراء مريم ؟
جال العربى بنظره متفحصا لوحة خوان ميرو , والمقعد حيث تناول فيللينى العشاء , والموظفة المسؤؤلة عن حجرة الثياب , والزبائن الذين يدخلون ويخرجون .
- ألم تكونى على علم بالموضوع ؟
- أسكب لى الخمر بعد , لو سمحت . كانت هذه هى الأجابة الوحيدة لماريا الدامعة .
كانت تصلى لئلا يقترب الخادم ويعرف ماذا يجرى . وكان الخادم الذى يراقب المشهد بطرف عينيه , يود لو يسدد الرجل حسابه بسرعة , لان المطعم مزدحم والزبائن ينتظرون .
واخيرا , وبعد مضى وقت بدا لها دهرا تكلمت ماريا :
- قلت انها ستدفع ألف فرنك لقاء كأس ؟
تعجبت هى من نفسها عندما سمعت صوتها .
اجاب العربى :
- نعم .
كان نادما على تقديمه هذا الأقتراح . ثم أضاف " لكنى لا اريد بأى شكل من الأشكال أن ... "
- سدد الحساب بسرعة , ولنذهب لتناول تلك الكاس فى الفندق الذى تنزل فيه .
من جديد , شعرت ان تصرفها غريب عنها . حتى هذه اللحظة , كانت فتاة شابة , لطيفة , مهذبة , سعيدة , ولم يسبق لها أن استخدمت هذه اللهجة . يبدو أن هذه االفتاة الشابة قد ماتت الى الأبد , وان حياة جديدة تشرع امامها , يبلغ ثمن الكؤؤس فيها الف فرنك للكأس الواحدة , اى ما يعادل 600 دولار , اذا أردنا تحويلها الى العملة الأكثر تداولا فى العالم .
حصل كل شئ كما كان موقعا , ذهبت ماريا الى الفندق برفقة العربى . احتست الشمبانيا حتى بلغت مرحلة السكر الكامل . افرجت ساقيها منتظرة ان يحصل على نشوته الجنسية ( لم تفكر فى ان تصطنع نشوتها هى أيضا ) , ثم اغتسلت فى غرفة رخامية , تقاضت أجرها وسرت لنفسها العودة الى غرفتها بسيارة التاكسى .
ارتمت على سريرها واسترسلت فى نوم لا حلم فيه .
* * * * *
وهذا ما دونته ماريا فى يومياتها فى اليوم التالى :
" اذكر كل شئ إلا اللحظة التى اتخذت فيها قرارى . الغريب فى الموضوع هو انه لم يساورنى اى شعوربالذنب . كنت , فيما مضى , أنظر الى الفتيات اللواتى يضاجعن الرجال مقابل مبلغ يتقاضينه , وكانهم كائنات لم تترك لهم الحياة اى خيار اخر . اما الان فادرك ان هذا ليس صحيحا , كان بأمكانى ان اقول " نعم " أو " لا " . ولم يجبرنى أحد على القيام بما كنت لا اغرب فيه .
أجتاز الشوارع وحيدة , أنظر الى العابرين وافكر , هل اختاروا حياتهم بأنفسهم ام ان القدر هو الذى اختارها لهم . أرى عاملة التنظيف التى كانت تحلم بأن تصير عارضة , وموظف المصرف الذى حلم بأن يصبح موسيقيا , وطبيب الأسنان الذى ود لو يكرس حياته للأدب , والفتاة التى كانت تهيم بالعمل فى التلفزيون لكنها لم تستطع ان تحصل الا على ظيفة محاسبة فى أحد المخازن الكبرى .
لا أشفق على نفسى ولا اعتبر نفسى ضحية . كان بامكانى الخروج من المطعم دون أن تمس كرامتى , وبمحفظة نقود فارغة . كان بإمكانى أن ألّقن هذا الرجل درسا فى الأخلاق , وأن أسعى لأبرهن له أنه فى حضرة أميرة , وأنه يجدر به أن يأسر قلبها بدل أن يشتريها . كان بأمكانى أن أتصرف بأشكال لا تحصى . لكنى , كمعظم الكائنات البشرية , تركت للقدر أن يختار لى الطريق التى ينبغى لى ان اسلكها .
لا شك فى أن قدرى يمكن ان يبدو لا شرعيا وهامشيا أكثر من أقدار الأخرين . لكن لكنا متساوون فى سعينا وراء السعادة : الموظف \ الموسيقى , طبيب الأسنان \ الأديب, المحاسبة \ الممثلة , عاملة التنظيف \ العارضة ......كلنا متساوون لأن ليس احد منا سعيداً .
* * * * *
هل هذا كل شئ ؟ هل تجرى الأمور بهذه السهولة ؟ كانت ماريا فى مدينة غريبة لا تعرف فيها أحدآ . ما بدا لها بالأمس عذابا منحها اليوم شعورآ عارما بالحرية , ليست بحاجة لأن تعطى تفسيرات لأى يكن .
قررت , وللمرة الاولى منذ سنوات , أن تكرس يوما كاملا للمثول أمام ذاتها . حتى هذه اللحظة , كانت على الدوام تهتم بالأخرين , بأمها ورفاق المدرسة وأبيها والموظفين فى الوكالة التى تستخدم العارضات وأستاذ اللغة الفرنسية وخادم المطعم وأمينة المكتبة , وبما يفكر فيه المجهولون العابرون فى الشارع . والواقع ان لا احد كان يهتم بها هى الغريبة المسكينة . حتى الشرطة لن تلاحظ غيابها فيما لو أختفت غدا .
هذا يكفى . خرجت فى وقت مبكر . تناولت فطورها فى المكان المعتاد , وتنزهت قليلا حول البحيرة , لتجد نفسها فى مواجهة تظاهرة ينظمها ناس فى المنفى القسرى . قالت لها امرأة تجركلبا أن المتظاهرين أكراد . فسألتها ماريا , ولم تكن تريد أن تدّعى ذكاء وثقافة لم تكن تملكهما " من هم الأكراد ؟ " .
ذهشت المرأة لسؤالها ولم تعرف بماذا تجيب . يا للعجب , يتكلم الناس كما لو أنهم يعرفون كل شئ . لكن اذا تجرأت وسالتهم , فانك تدرك أنهم لا يعرفون شيئا . دخلت ماريا مقهى يوفر لرواده كافة الاتصالات , وعرفت عبر الإنترنت أن الأكراد شعب لا يملك دولة , وان بلادهم كردستان تتقاسمها اليوم ( العراق وتركيا ) . رجعت الى مكان التظاهرة لعلها تجد المرأة صاحبة الكلب الصغير , لكنها غادرت المكان .
" هذا ما انا عليه " أو بالأحرى هذا ما كنته . شخصا يتظاهر بأنه يعرف كل شئ , محتبس داخل صمته , ثم أتى هذا العربى الذى أغاظنى لدرجة أننى أمتلكت الشجاعة للقول أن كل ما اعرفه هو الفرق بين الكوكا كولا والبيبسى . فهل صدم بجوابى ؟ هل جعله هذا يغير رأيه حيالى ؟ أطلاقا . ربما كانت عفويتى قد أعجبته . كنت دائما خاسرة حين أردت أن ابدو أدهى أو اذكى مما انا عليه يكفى اذا " .
تذكرت المخابرة التى أجرتها معها الوكالة التى تستخدم العارضات . هل كانوا على علم بما يريده العربى ؟ - اذا كان الأمر صحيحا ففى هذه الحالة تكون ( ماريا ) قد أدت دور المرأة البريئة المغفلة – أم أنهم كانوا يظنون فعلا ان العربى يستطيع أن يدعوها للمشاركة فى أحد العروض التى ستقام فى الجزيرة العربية ؟
أيا يكن الأمر , فقد شعرت ماريا انها اقل وحدة فى هذه الصبيحة الرمادية فى جنيف . كانت الحرارة قريبة من درجة الصفر , والأكراد يتظاهرون وحافلات الترام تصل فى الوقت المحدد والمجوهرات يعاد رصفها فى الواجهات , والمصارف تفتح أبوابها , والمتسولون ينامون , والسويسريون يذهبون الى أعمالهم . كانت تشعر انها اقل وحدة , لان أمرأة غيرمرئية من قبل العابرين... كانت تقف قربها , لم تنتبه ماريا قط الى وجودها لكنها كانت هنا .
ابتسمت لها ماريا . كانت المرأة تشبه العذراء مريم أم يسوع , بادلتها المرأة الأبتسامة وتوصلت اليها ان تظل متيقظة لان الأمور ليست بالسهولة التى تظنها . لم تزل ماريا اهمية لهذه النصحية , وأجابتها بأنها امراة ناضجة وتتحمل مسؤللية خياراتها , وبأنها لا تؤمن أن هناك مؤامرة كونية تحاك ضدها . تعلمت أن هناك ناسا مستعدين لدفع الف فرنك سويسرة مقابل سهرة معها أو نصف ساعة بين ساقيها , وان عليها ببساطة ان تقرر اذا كانت تريد فى الأيام المقبلة أن تشترى بها المبلغ تذكرة طائرة وتعود الى ديارها ام انها تنوى البقاء فى جنيف لوقت أطول , يتيح لها ان تجنى ما تستطيع ان تشترى به مسكنا لأهلها وملابس جميلة وتذاكر للسفر الى الأماكن التى حلمت بزيارتها فى العالم .
قالت لها المراة غير المرئية باصرار ان الأشياء ليست بالسهولة التى نتصورها . لكن ماريا كانت مسرورة بهذه الصحبة غير المتوقعة , ورجت المرأة الا تقطع عليها حبل أفكارها لأنها كانت على وشك أتخاذ قرارت مهمة .
أخذت ماريا تتفحص المسائل من جديد , وهذه المرة بانتباه أكبر , ولاسيما مسألة رجوعها الى البرازيل . فكرت أن صديقات المدرسة اللواتى لم يخرجن قط من البرازيل لن يتوانين عن القول انها طردت من سويسرا لأنها لا تملك الموهبة الضروية التى تجعل منها نجمة عالمية . أما أمها , فستكون حزينة لأنها لم تحصل على الايراد الذى وعدت به , حتى لو أكدت لها ماريا فى الرسائل أن الموظفين فى البريد يختلسن الأموال التى ترسلها . وسينظر اليها والدها طوال الوقت بهذه السحنة التى تقول " كنت عارفا " , وستعود لتعمل فى محل النسيج وتقترن برب العمل ....كل ذلك بعد أن سافرت فى الطائرة وتناولت الجبنة فى سويسرا وتعلمت الفرنسية ومشت على الثلج .
هذا من جهة .
من جهة أخرى , هناك الكؤؤس التى يساوى كل منها الف فرنك . صحيح أن هذا لن يدوم طويلا , لأن الجمال يتبدل بسرعة كما تذبل الورود . ولكن , فى ظرف سنة , ستكسب من المال ما يمكنها من التحكم بقوانين اللعبة . بيد أن المشكلة الحقيقة التى تواجهها هى انها لا تعرف ماذا عليها أن تفعل , ولا من اين تبدا . ثم تذكرت , اثناء عملها كراقصة سامبا , أن إحدى الفتيات أشارت الى مكان يدعى شارع برن .
ذهبت ماريا لاستشارة أحدى صحائف الأعلانات التى تحفل بها جنيف , وتتضمن اعلانات من جهة وخرائط المدينة من جهة أخرى .
سالت أحد الرجال الواقفين هناك أن كان يعرف اين يوجد شارع برن . نظر اليها مرتبكا , واراد ان يعرف اذا كانت تسأل عن شارع برن أم عن الطريق التى تؤدى الى برن عاصمة سويسرا . أجابت ماريا " لا " ابحث عن شارع موجود هناك . تفحصها الرجل من رأسها حتى اخمص قدميها , وابتعد دون ان يقول شيئا , وهو على اقتناع بأن هناك كاميرا خفية تلتقط صورة له لحساب أحد البرامج التلفزيونية التى تتعمد أثارة المقالب المضحكة . مثلث ماريا أمام الخريطة مدة ربع ساعة , لم تكن المدينة كبيرة , وعثرت أخيرا على المكان .
احتفظت صديقتها غير المرئية بالصمت طوال الوقت الذى استغرقته ماريا , لتحصر تركيزها وتجد الشارع على خارطة المدينة . حاولت المرأة أن تدخل معها فى جدال . قالت لها أن المسألة لا تتعلق بالأخلاق , وبأنها تزج نفسها فى طريق لا منفذ لها . أجابت ماريا انها اذا كانت قادرة على ايجاد المال لتغادر سويسرا , فسيكون بمقدورها اذن أن تتخلص من جميع الورطات , وتجد المخرج الملائم . ثم ان أيا من هؤلاء الذين صادفتهم فى حياتها لم يحقق ما كان يصبو اليه . هذه هى الحقيقة .
ثم أضافت قائلة الى الصديقة اللامرئية " نحن فى واد من الدموع . يمكننا أن نحلم باشياء عديدة . لكن الحياة قاسية لا ترحم , وهى مخزية . هل تريدين أن تقولى لى أننى سأدان ؟ لا أحد يعرف , وهذا لن يدوم الا وقتا قصيرا .
ااختفت المرأة , وعلى شفتيها ابتسامة عذبة لكن حزينة .
مشت ماريا الى مدينة الألعاب , واشترت بطاقة لتدخل مركبة الجبال الروسية , وتزعق كما يفعل الجميع , مع انها تدرك تماما أن ليس هناك مخاطر , وأن الأمر مجرد تسلية . ثم تناولت الغذاء فى مطعم يابانى دون أن تعرف ما كانت تتناوله . عرفت فقط أن الفاتورة كانت مرتفعة , وانها مستعدة من الأن فصاعدا أن تتيح لنفسها كل أنواع الترف . شعرت أنها سعيدة ولا تحتاج الى مخابرة هاتفية , ولا الى اتباع أسلوب التقشف فى انفاق المال .
عند انتهاء النهار , خابرت الوكالة , وقالت ان اللقاء جرى بشكل جيد للغاية , وأنهت المخابرة بتوجيه عبارات الشكر . لو كانوا ناسا جيدين لسالوها بخصوص العرض. واذا كانوا يصطادون النساء , فسيدبرون من أجلها لقاءات جديدة .
اتخذت قرارا بالأ تشترى تلفزيونا مطلقا , ولو كانت تملك المال اللازم لذلك , لأن عليها أن تفكر وتستغل كل وقتها فى التفكير .
* * * * *
وهذا ما دونته ماريا فى يومياتها ذلك المساء ( مع ملاحظة دونتها فى الهامش " لست مقتنعة تماما " .
" أكتشفت السبب الذى يجعل الرجل يدفع مبلغا من المال لكى يكون برفقة أمراة , يريد أن يكون سعيدا .
لا يدفع الرجل الف فرنك ليحصل فقط على النشوة الجنسية , بل لأنه يريد أن يكون سعيدا . أنا أيضا أريد أن اكون سعيدة , والجميع يريدون ذلك , لكن لا أحد يبلغ السعادة .
ماذا سأخسر اذا قررت أن أتحول لبعض الوقت الى .... يصعب التفكير فى هذه الكلمة وكتابتها أيضا ....لكن هيا ...ماذا سأخسر اذا قررت يوما أن أصير عاهرة لبعض الوقت ؟
ما الذى يمنعنى " الشرف , الكرامة أم احترام الذات ؟ لو فكرت فى هذه الفضائل جيدا لوجدت اننى لم أمتلكها قط فى حياتى . لم أشا أن اولد , ولم اوفق فى ان أجعل نفسى محبوبة , واتخذت دوما القرارات السيئة . أترك الأن للأقدار أن تقرر مصيرى .
* * * * *
فى اليوم التالى , اتصل بها أحدهم من الوكالة مجددا وسألها بخصوص الصورة ثم تحرى عن موعد العرس , لأن هناك مبلغا يجب أقتطاعه للوكالة مقابل كل عرض . أجابت ماريا : أنه يفترض بالعربى ان يتصل بهم . أستنتجت فورآ انهم يكونوا على علم بما جرى .
ذهبت الى المكتبة وطلبت كتبا عن الجنس . اذا كانت عازمة جديا على العمل , لسنة فقط كما تعهدت لنفسها , فى ميدان تجهله , فينبغى لها أ، تعرف أن أول شئ يجب تعلمه هو كيفية التصرف , كيف يمكنها أن تمنح اللذة لتحصل على المال مقابل ذلك .
كانت خيبتها كبيرة عندما قالت لها أمينة المكتبة أن الكتب التنقية التى تعالج هذا الموضوع نادرة , لأن المكتبة مؤسسة عامة . أخذت ماريا أحد الكتب , قرأت ملخصا عنه , ثم أعادته فورآ , كان الكتاب يتحدث فقط عن الأنتصاب والأيلاج والعجز ووسائل منع الحمل وجميع الأشياء التى تنم عن ذوق سيئ . ثم اختارت كتابا لتستعيره " تأملات سيكيولوجية فى برودة المرأة الحنسية " .
وسبب أختيارها أنه لم تكن تستطيع الوصول الى النشوة الجنسية الا عبر الأستمناء , رغم انها كانت تجد لذة كبرى فى ان يمتلكها رجل ويلجها .
بيد أنها لم تكن تبحث عن اللذة , بل عن العمل . أستأذنت أمينة المكتبة بالأنصراف , ودخلت محلا لبيع الملابس الداخلية .
استثمرت أول مبلغ لها فى المهنة التى تلوح أمامها فى الأفق , واشترت ملابس اعتبرتها مثيرة بما فيه الكفاية لتوقظ جميع أنواع الرغبات . ثم ذهبت الى المكان الذى عينته على الخارطة . يبدأ شارع برن بالقرب من الكنيسة ( لم يكن بعيدا , يا للمصادفة , عن المطعم اليابانى الذى تناولت فيه الغداء البارحة ) . وهو , من جهة , ملاصق للواجهات التى تعرض ساعات بأسعار متدنية , ومن جهة أخرى , ملاصق للحانات الليلية , وجمعيها مغلقة فى هذا الوقت من النهار .
رجعت لتتنزه حول البحيرة , وأشترت , بلا أى انزعاج , خمس مجلات بورنو غرافية , لكى تزيد معلوماتها . وانتظرت أن يهبط الليل للتوجه من جديد الى شارع برن . وهناك نزلت مصادفة فى حانة اختارت لنفسها اسما برازيليا موحيا " كوباكابانا " .
فكرت فى أنها لم تتخذ قرارها بعد . كان الامر فقط امتحانا . لكن لم يسبق لها أن شعرت بأنها حرة ومرتاحة كما تشعر الان , منذ وصولها الى سويسرا .
قال لها صاحب الحانة الذى كان يغسل الأكواب وراء طاولة الشرب دون أن يستعمل أى نبرة تساؤلية فى جملته " تبحثين عن عمل " كان المكان عبارة عن سلسلة من الطاولات المتتابعة وحلبة رقص وبعض المقاعد المريحة المسندة الى الجدران . " ليس الأمر سهلا . نحن نحترم القانون . ولكى تقيمى هنا , يجب الحصول على بطاقة على الأقل " .
أظهرت ماريا بطاقة عملها .
قال صاحب الحانة وقد تحسن مزاجه بوضوح :
- لديك خبرة ؟
لم تعرف بماذا تجيب . لو قالت " نعم " لسألها أين أكتسبتها , ولو قالت " لا " لرفض أن يدبر لها عملا .
- أعمل على كتاب .
خرجت الفكرة من العدم , وكأن صوتا لا مرئيا أتى لنجدتها . لاحظت أن الرجل تظاهر بتصديقها , مع انه كان يعلم أنها تكذب .
- قبل أن تتخذى أى قرار , أستخبرى عن الموضوع لدى الفتيات . لدينا على الأقل ست برازيليات , وبامكانهن أن يوضحن لك ما ينتظرك .
أرادت ماريا ان تقول انها لا تحتاج الى نصائح أحد , وانها لم تتخذ اى قرار . لكن الرجل كان قد انتقل الى الجهة الأخرى من الملهى , وتركها وحيدة دون أن يقدم اليها حتى كوب ماء .
وصلت الفتيات . نادى صاحب الحانة على البرازيليات , وطلب اليهن ان يتحدثن الى الوافدة الجديدة . لم تبد واحدة منهن استعدادها للطاعة , وأدركت ماريا أنهن يخشين المنافسة . بدأت الموسيقى تعزف فى الحانة مرددة بعض الأغانى البرازيلية ( هذا أمر طبيعى , لان المكان يدعى كوباكابانا ) . ثم دخلت فتيات ذوات ملامح أسيوية , وآخريات بدون وكأنهن نازلات من الجبال المثلجة المحيطة بجنيف . وأخيرآ , وبعد ساعتين من الأنتظار والعطش الشديد وتراكم أعقاب السجائر أمامها , أدركت ماريا أنها قامت بالاختيار السيئ , فكان السؤال " ماذا أفعل هنا ؟ يتردد وكأنه لازمة . بعد أن أغتاظت ماريا من عدم الاكتراث الذى أظهره حيالها رب العمل والفتيات , رأت أحد البرازيليات تقترب منها وتسألها " لماذا أخترت هذا المكان ؟
كانت تستطيع أن تتذرع من جديد بالكتاب الذى تعمل عليه , لكنها أثرت أن تقول الحقيقة , كما فعلت عندما سئلت عن الأكراد وخوان ميرو .
- بسبب اسمه , لاأعرف أين أبدأ , ولا اعرف ان كنت راغبة فى أن أبدأ .
عجبت الفتاة لهذا الكلام الصريح والمباشر . احتست جرعة ويسكى متظاهرة بالأستماع الى الأغنية البرازيلية التى كانت تبث فى الحانة . ثم قامت ببعض التعليقات عن سأم العيش فى هذه البلاد , وتنبأت أن الحركة ستكون خفيفة هذا المساء , لانه تم الغاء مؤتمر عالمى كان سيقام فى جنيف . وعندما لاحظت أخيرأ أن ماريا لا ترغب فى الرحيل قالت لها " الأمر بسيط جدا وعليك أن تحترمى ثلاث قواعد : القاعدة الأولى : لا تقعى فى غرام أحد الزبائن , القاعدة الثانية : لا تصدقى الوعود واطلبى سلفا المبلغ المتوجب دفعه . القاعدة الثالثة , لا تشربى المخدرات . ثم أضافت " ابدأي العمل فورا . اذا رجعت هذا المساء الى المنزل دون أن تتدبرى امرك بالحصول على رجل , فلن تكون لديك الشجاعة للرجوع الى هنا " .
كان ماريا قد أعدت النفس لأستشارة بسيطة بخصوص عمل مؤقت ومحتمل , ليس أكثر . لكنها تدرك الان ان هناك شعورا يدفعها لاتخاذ قرار فجائى وحاسم , وهو اليأس .
- حسنا , أباشر اليوم العمل .
لم تعترف أنها بدأت البارحة . ذهبت الفتاة لتحدث صاحب الحانة بما جرى مع الزائرة الجديدة .
سال صاحب العمل ماريا :
- هل لديك ثياب داخلية جميلة ؟
لم يسبق لأحد أن وجه اليها هذا السؤال , لا عشاقها ولا العربى ولا صديقاتها ولا حتى أى أجنبى . لكن يبدو أن الأمور تجرى فى هذا المكان على هذا النحو , ويتم الدخول مباشرة فى صلب الموضوع .
أجابت على سبيل التحدى :
- لدى سروال لونه أزرق سماوى وليس لدى صدارة .
فرد عليها بلهجة يشوبها اللوم والعتاب :
- أرتدى غدا سروالا أسود وصدارة وجوارب . استغلى سحر الثياب الداخلية الى أقصى درجة . هذا يشكل جزءا من طقوس المهنة .
لم يشأ ميلان تضييع الوقت , وأراد أن يعلم الموظفة المبتدئة باقى الطقوس ايضا . يجب أن تكون " كوباكابانا " مكانا مسليا وليس ماجورا . يدخل الرجال الى هنا لأعتقادهم أنهم سيلتقون امرأة ليست فى صحبة رجل . اذا اقترب أحد من طاولتها ولم يعترضه أحد ى الطريق ( لأنه هنا أيضا يوجد مفهوم " الزبون الحضرى " لبعض الفتيات ) فانه سيدعوها , ولا شك , مرددا العبارة التالية : هل تريدين أن تشربى معى كأسا ؟
عندئذ يمكن لماريا ان تقابلى بالرفض أو بالأيجاب , لأنها حرة فى أن تستجيب لمن تريد , مع انها لا تنصح بأن تقول : لا , أكثر من مرة فى السهرة . اذا وافقت , فبأمكانها ان تطلب كوكتيل فواكه . يجب أن تحتسى الكحول والا تدع ازبون يقرر بدلا منها , ثم يدعوها الى الرقص فتوافق . معظم الزبائن معتادون الأمر بأستثناء الزبائن الحصريين , الذين لم يتوسع ميلان فى حديثه عنهم . ليس هناك أى خطر .
الشرطة ووزارة الصحة تطلبان فحوصا شهرية للدم وبشكل دورى للتأكد من أن الفتيات لا يحملن أمراضا جنسية معدية . كما ان استعمال الواقى الذكرى أجبارى , رغم عدم وجود وسيلة للتأكد اذا كانت هذه القاعدة متبعة أم لا . يجب على الفتيات ألا يثرن الفضائح . لقد كان ميلان متزوجا ورب عائلة وحريصا على سمعته وسمعة " كوباكابانا " .
ثم تابع يشرح لها بعض الطقوس المتبعة , بعد الرقص , يذهبان للجلوس ويدعوها الزبون , وكان اقتراحه مفأجى , للذهاب معه الى أحد الفنادق . التعرفة العادية تبلغ 250 فرنكا , ويحتسب منها ميلان 50 فرنكا لنفسه ثمن أجرة الطاولة ( وهذه الخدعة يستخدمها ميلان أحتيالا على القانون ليتحاشى المسؤؤلية المباشرة عن التعقيدات القانونية ولكى لا يتهم بأستغلال الجنس بهدف الربح ) . حاولت ماريا الأعتراض قائلة : لكننى كسبت ألف فرنك مقابل ...! أشار اليها ميلان بالأبتعاد وانهاء الحديث عند هذا الحد . تدخلت البرازيلية التى كانت تتابع الحوار قائلة " أنها تمزح " .
ثم أتجهت ناحية ماريا واضافت بصوت عالم وبلهجة برتغالية طليقة, هذا المكان هو الأغلى جنيف ( هنا المدينة تدعى جنيف وليس جنبرا ) . لا تكرر هذا الكلام . هو يعرف سعر السوق ويعرف أن أحدلا لا يضاجع مقابل الف فرنك , الا اذا كان لديك الحظ والجدراة وقابلت " زبائن غير عاديين ".
لم تترك نظرة ميلان أى مكان للشك ( عرفت ماريا لاحقا انه يوغلاسفى ويعيش فى سويسرا منذ 20 عاما ).
- التعرفة هى 250 فرنكا .
كررت ماريا وقد شعرت بالأهانة .
- أجل , هذه هى التعرفة .
فى بادئ الأمر , سألها عن لون ملابسها الداخلية . والآن يساومها على ثمن جسدها .
لكنها لا تملك الوقت الكافى للتفكير . تابع الرجل عندئذ اصدار تعليماته : لا يجدر بها الذهاب الى أملاك خاصة أو الى فنادق أقل من خمس نجوم .
أما اذا كان الزبون لا يعرف مكانا يصطحبها اليه , فعليها هى أن تختار والحالة هذه فندقا بعيدآ عن الحانات المجاورة للمكان , وأن تستقل التاكسى لكى تتجنب مخالطة نساء أخريات يعملن فى مؤسسات اخرى فى شارع برن . لم تصدق ماريا حرفى مما قاله . أدركت أن السبب الحقيقى لمحاولته أبعادها عن مخالطة نساء الحانات الأخرى هو أن يفوت عليها فرصة عمل فى ظروف أفضل . لكنها أحتفظت لنفسها بأفكارها , لان النقاش بخصوص التعرفة كان كافيا بالنسبة لها .
" أود واكرر : يجب أن تتصرفى كما يفعل رجال الشرطة فى الأفلام , لا تحتسى الكحول أثناء الخدمة . أتركك الان فى المكان , سيضج بالرواد بعد قليل .
قالت لها البرازيلية باللغة البرتغالية :
- أشكريه .
شكرته مارا , ابتسم الرجل , لكنه لم يكن قد انتهى بعد من توصياته :
- هناك نقطة اخرى : يجب ألا تتعدة المهلة بين طلب الشراب واللحظة التى ستخرجين فيها الخمس والأربعين دقيقة . سويسرا بلد الساعات والجميع يتعلمون أحترام المواعيد , بمن فيهم اليوغسلافين والبرازيليون . تذكرى أننى أوفر القوت لأطفالى بفضل السمسرة التى أحصل عليها منك .
ستتذكر ذلك .
قدَم لها كوباً من المياه المعدنية الغازية المعطرة بالحامض , ليبدو الامر وكأنها تحتسى جنى تونك , ورجاها أن تتحلى بالصبر .
بدأ الرواد يتوافدون الى الحانة . يدخل الرجال وينظرون حولهم ثم يجلسون منفردين . كلما وجد رجل رفيقة له , تتنهد ماريا بأرتياح . شعرت انها أفضل حالا مما كانت عليه فى بداية السهرة .
وقد عزت ذلك الى أنها كانت فى سويسرا , أو الى أنها كانت عاجلا أم أجلا ستحيا المغامرة وتحظى بالثروة أو الزوج كما حلمت على الدوام , أو , وهذا ما تنبهت اليهمن فورها , الى أن هذه المرة كانت الأولى التى تخرج فيها منذ اسابيع مساء , وتذهب الى مكان تعزف فيهالموسيقى ويمكنها سماع اللغة البرتغالية . كانت تتمتع برفقة الفتيات اللواتى يحطن بها ويضحكن ويشربن عصير الفواكه ويثرثرن بسعادة .
لم تأت واحدة منهن لتهنئتها , أو لتتمنى لها حظا سعيدا , لكن الأمر طبيعى . ألم تكن بمثابة غريم وخصم لهن ؟ جميعهن يسعين الى الفوز بتلك الكأس . بدل أن تشعر ماريا بالأحباط , شعرت بالفخر . وبدل أن تنتابها الحيرة , كانت تصارع وتناضل لتثبت وجودها . شعرت أن لديها الحرية الكاملة لتفعل ما تريد , تستطيع أن شاءت ان تفتح الباب وتذهب الى غير رجعة . لكنها لم تنسى أبدا انها كانت تملك الشجاعة لتأتى الى هذا المكان وتفاوض وتتطرق الى موضوعات لم تجرؤ على التفكير بها . كانت تقول فى نفسها , كل دقيقة , انها ليست ضحية القدر بل هى تجازف وتتخطى نفسها , وتعيش أحداثا ستتذكرها غدا فى صمت قلبها , حين تلوح أيام الشيخوخة الرمادية . ستتذكرها بحنين جارف مهما يبد الأمر منافيا للمعقول .
كانت متيقنة من أن أحدا لن يقترب منها , وأنه فى نهار الغد سيسدل الستار على هذه المغامرة المثيرة التى تجرؤ على تكرارها لاحقا , ها قد عرفت للتو ان مبلغ ألف فرنك فى الليلة الواحدة أمر لن يتكرر مرة ثانية . لذا قد يكون أكثر تعقلا أن تشترى تذكرة العودة الى البرازيل . طفقت تحتسب فى ذهنها , بغية تزجية الوقت , ما يمكن ان تكسبه كل من الفتيات . اذا استطعن أن يفزن بثلاثة زبائن فى الليلة , فسوف يكسبن ما يعادل أجر شهرين من معاشها القديم فى محل النسيج .
ترى هل يبلغ الأمر هذا الحد ؟ لقد كسبت ماريا ألف فرنك فى ليلة . لكن ربما كان الأمر ضربة حظ لمبتدئة فى المهنة . فى أى حال فان عائدات العاهرات أكبر مما تستطيع أن تكسبه من أعطاء دروس باللغة الفرنسية فى بلادها . الجهد الوحيد الذى تبذله فى المقابل يقوم على البقاء فى الحانة لبعض الوقت والرقص وفتح ساقيها ونقطة على السطر . ليس ضرويا ان تدخل فى حوار مباشر مع الزبون .
فكرت ايضاًً أن المال حافز جيد . لكن هل هو الحافز الوحيد؟ أم أن الناس الموجودين فى هذا المكان من زبائن ونساء يستعمعون بوقتهم ؟ هل العالم مختلف اذن عما يصورنه فى المدرسة ؟ المكان امن والمهنة كذلك . اذا استعملت واقيا ذكريا , فلن تعرض نفسها لأى خطر . ثم أنها لا تعرف احد هنا . لا احد ممن تعرفهم يزور جنيف . لا أحد – وهذا تعلمته أثناء درس اللغة الفرنسية – الا رجال الأعمال الذين يحبون التردد الى المصارف . أما البرازيلون , فيفضلون ارتياد المخازن الموجودة فى ميامى أو فى باريس .
900 فرنك سويسرى فى اليوم على مدى خمسة أيام فى الأسبوع , تشكل ثروة بالفعل ! والسؤال الذى يطرح نفسه :
ماذا تفعل الفتيات هنا ما دمن فى يستطعن فى شهر واحد أن يجنين من المال ما يمكنهن من ان تشترى كل منهن منزلا لامها ! لكن , هل يعملن منذ وقت قصيرا ؟ أم أن هذا الأمر – وهنا خافت ماريا من السؤال نفسه – يروق لهن ؟
- هل توافقين على شرب كأس ؟
نظرت الى السائل فوجدت أمامها رجلا ثلاثينيا يرتدى بزة طيار .
رات ماريا المشهد أمامها بكاميرا بطئية وكأنها خرجت من جسدها لتراقب نفسها من الخارج . شعرت أنهاه ستموت خجلا لكنها تماسكت وسيطرت على احمرار وجهها مشيرة بحركة موافقة برأسها . ثم أبتسمت وأدركت أن حياتها تغيرت الى الابد , بدءا من هذه اللحظة .
عصير الفواكه , المحادثة , ماذا تفعلين هنا , الطقس بارد , أليس كذلك ؟ أحب هذه الموسيقى لكنى أفضل فريق أبا , السويسريون أناس باردون , هل أنت برازيلية ؟ حدثينى عن بلادك , عن الكرنفال . البرازيليات جميلات , ألسن كذلك ؟
تبتسم ماريا وهى تستمع بارتياح الى كلمات الأطراء , ثم تتظاهر بالخجل وتجهد نفسها لتبدو غامضة غريبة الأطوار . ترقص من جديد لكنها تنتبه الى نظرات ميلان الذى يحك رأسه أحيانا مشيرآ الى الساعة فى معصمه . تشتم عطر الرجل . تدرك حالا أن عليها أعتياد الروائح . هذا الرجل رائحته عطرة على الأقل . يرقصان وقد ألتصق أحدهما بالأخر بشكل حميم . أيضا كوب من عصير الفواكه .
الوقت يمر . ألم يقل ميلان أن اللقاء فى الحانة يجب أن يقتصر فقط على خمسة واربعين دقيقة ؟ نظرت الى ساعتها , سألها عما اذا كانت تنتظر أحدآ فتجيبه أن أصدقاءها سيصلو
|