تردَّد السؤال على آلاف الشّفاه و صار هاجـِـسًا يَشغلُ بَالَ كلّ النّاس

بالأمْس ، كانتْ تـُحَلـِّق في سَماء المدينة ، تحُومُ بين المَقاهي و أعْمِدَة الإضاءة و الأشجار و تملأ الفضاءَ بسَقسَقـَاتها العذبَة ، و لا تهْدَأ . و لمّا يَجيءُ الشّتاءُ و تهجمُ قوافل الغَـيْم و تعصِفُ الرّيحُ في الأزقـَّة و المَـمَرَّات و المَعَابر المُظلمَة ، كانت تفرّ إلى المقاهي في صَمْت و تظلّ تحْلمُ بمُدُن لا يقتل البَرْدُ فيها الفقراء و لا تـُغرِقُ فيها الأمطارُ بُيُوتَ المُعْدَمين . و تتعلـَّق أنظارُها بالسّماء فتهيمُ خلفَ ضَبَابِ الأفق

في يوم من الأيّام بَدَتْ كأنّها تَعِبَتْ من كثرَة الحُلم و عِصْيَانِهِ مُتـَمَنـِّعًا خلف جِدَار الرّفض و العَجْز ، فجَمَدَ في عُرُوقها ذلك التـَّوْقُ القديمُ إلى الفرَار و مُتاخَمَة المناخات السّخيَّة ، و بَاتَتْ كسيحَة صَمَّاءَ ، تـُحَمْلقُ في الفرَاغ ، خاوِيَة بلا إرَادَة ، كالمُحْتضرَة ، تعُدُّ أيَّامَها في صَمْت ، و في القلب كراهيَة بحَجْمِ الجبال . و سَكتَتْ

في الأيَّام الأولى ، لم يَهتمَّ أحَدٌ بأمْرها . حاولَ بعضُها الانعتاق في يأس فارْتطَمَ بالمَوْج العَاتِي فعَادَ مهْزومًا أوْ جُثـَّة لا حَيَاة فيها ، كانت بعض الجُثث الرّماديَّة الصّغيرَة مُلقاة و النّاسُ يَعْبُرُون بينها و لا يَرونها . قدْ يَنحَني أحدُهُم على جثّة زرْزُور يَبَّسَهُ صَقيعُ الموْت ، يرْفعُه بأطراف أصابعه ، يتأمّلُ ريشَهُ الأسْوَدَ المُرَقـَّط . لكنّه سرعان ما يُلقي به إلى سَلّة النـِّفايات ، ثمّ يبصُقُ على الأرض و يمضِي في سبيله غيرَ عابِئ . لكنّ الأمْرَ لمْ يتوَقّف عند هذا الحدّ ، ففي مُدَّة قصيرة بلغَ عددُ العصافير المَيِّتة رَقمًا مَهُولا أدْخلَ الفزَعَ في كلّ القلوب ، و المدينة التي كانت بالأمس القريب سِجْنا كبيرًا للعصافير صَارَتْ مَقبَرَة شاسِعَة للـسُّنونوَات و الحَمائم البيض و الشّحَارير ، حتّى النـَّوَارسُ لفظتْ أنفاسَها بين القوَاربِ و المَوانِئ البَائسَة . كانت كلّها كثِمَار نضَجَتْ و فَاتَ وقتُ قِطافِها فتعَفّنَت و ثقلت على أغصانها فتَسَاقطتْ على الأرْض الواحدة تلوَ الأخرَى و تَهَافتَتْ على المَوْت في سِبَاق جَنائِزِيٍّ
رَحَلتْ العصَافيرُ إلى غير رِجْعَة ، و ظلَّ يَنبُضُ داخلَ الأهَالي إحساسٌ مُوجِعٌ بالفَقد يأخذ في أحلامهم رُؤًى أسْطوريَّة مُرْعبَة ، و يَجعلهم من حيث لا يَدرُون يَرْفعون رؤوسَهم بين الحين و الحين و يَنظرُون بَعيدًا خلفَ الأفق ، و خلف الغيُوم و خلف النّجوم كأنّهم يَنتظرون انفجَارًا عنيفا يَندَلعُ بين الأرض و السّماء ، يُـقـَـوِّضُ البلاد على من فيها . هَـــوَانٌ ... هَــــوَانْ