11 دقيقة " رائعة باولو أكويليو "
أطفأت جميع الأنوار , أو معظمها . جلست على السجادة , ورجته ان يفعل مثلها ويجلس قبالتها . لاحظت أن هناك مدفأة فى الغرفة .
- أشعل نارا.
- لكننا فى الصيف .
- أشعل نارآ , ارددت بنفسك أن اكون المرشدة هذا المساء وهذا ما أفعله .
حدجتخ بنظرة حازمة , آمله أن يىر من جديد " الضوء المنبعث من عينيها . يبدو أنه استطاع رؤيته , لانه خرج فى الحال الى الحديقة , وجمع بعض الأحطاب التى بللها المطر , ثم وضع فوقها بقايا جرائد قديمة . توجه نحو المطبغ لكى يحضر زجاجة ويسكى , لكن ماريا قطعت عليه طريقة .
- هل سألتنى ماذا أريد ؟
- لا
- أعلم أذن أن المرأة الواقفة أماممك موجودة أيضا . فكر بها . سلها اذا كانت ترغب فى الويسكى أو الجن أو القهوة ...سألها ماذا تريد !
- ماذا تريدين أن تشربى ؟
- الخمر . واود لو تشرب معى .
طرح الزجاجة الويسكى جانبا . ثم عاد وفى يده زجاجة خمر . فى هذه اللحظة , كانت النار تداعب حطب الموقد . أطفاءت ماريا اخر المصابيح المضاءة , وتركت لألسنة النار أن تضئ الغرفة . كانت تتصرف كما لو انها تعرف جيدا أن هذه هى الخطوة الأولى التى يجب القيام بها , الاعتراف بالأخر , ادراك وجوده .
فتحت محفظة يدها , ووجدها فيه قلما كانت قد ابتاعته من السوبر ماركت , بأمكانه أن يفى بالغرض . أى شئ يمكن أن يحدث التأثير المرجو ؟
- هذا لك , عندما اشتريته فكرت اننى ساحتاج اليه , لأدون ملاحظات عن الأدراة الزراعية استعلمته يومين وكتبت به حتى شعرت بالتعب انه يحمل قليلا من عرقى وتركيزى وأرادتى . والان اهديك أياه .
وضعت القلم فى يده برفق .
- بدل أن أشترى لك شيئا تحب امتلاكه , أعطيك شيئا كان لوقت مضى جزءا من كيانى , انه هدية , وهو يشهد على احترامى للشخص الجالس أمامى , وهو وسيلتى لأثبت له اننىى سعيدة بأن اكون الى جانبة . انه يملك ألان جزءا صغيرا من ذاتى اسلمه أياه بحرية وعفوية .
نهض رالف , اتجه الى أحد الرفوف وتناول شيئا ثم اعطاه لماريا :
- هذه حافلة من قطار كهربائى كنت ألهو به عندما كنت طفلا . لم يكن والدى يسمح لى بأن أعبث به بمفردى , لانه , كما يدعى , باهظ الثمن ومستورد من الولايات المتحدة . حينذاك , كنت مرغما على الخضوع لمزاج أبى ورغبته فى أن يوصل حافلات القطار المبعثرة لتنتظم على شكل مستقيم , ويضعه وسط الصالون لألعب به . لكنه كان يقضى أيام الأحاد عموما فى الأستماع الى الأوبرا .
صمد القطار لندرة استعماله , وانقضت طفولتى دون أن يمنحنى اى سعادة . وضعت فى العلية كل السكك والقاطرات والحافلات , لانه كان لدى قطار ليس لى , ولا يمكننى أن الهو به ساعة أشاء . ليته تحطم كالالعاب الأخرى التى أهديت لى ولا اذكرها ! هذا الشغف بالتدمير يشكل جزءآ لا يتجزأ من الطريقة التى يكتشف بها الطفل العالم من حوله . لكن هذا القطار الذى لم يمس يذكرنى دوما بمرحلة من طفولتى لم أعشها . والسبب أنه كان ثمينا جدآ او لانشغال أبى بأشياء أخرى , أو لعله كان يخشى ان يثبت اهتمامه بى , ان هو عمد الى تركيب أجزاء القطار .
أخذت ماريا تحدق الى نار المدفأة . ثمة أمر هام يحدث وهو لا يتعلق بالنبيذ ولابالديكور المريح , بل هو تبادل الهدايا .
عاد رالف يراقب النار . بقيا صامتين يسمعان الى الموسيقى التى تحدثها شرارات النار المتطايرة . احتسيا الخمر بصمت , وبات الكلام غير ذى فائدة . كان هنا معا , ينظران باتجاه واحد , ولا ينوى أى منهما على شئ .
قالت ماريا :
- ثمة قطارات كثيرة لم تعمل فى حياتى وأحدها قلبى . أنا ايضآ لم أكن ألهو به الا حين يركب الأخرون السكك , ولم يكن القوت ملائماً .
- لكنك احببت .
- نعم , احببت . أحببت كثيرا . أحببت لدرجة انه حين طلب منى حبيبى هدية , خفت وهربت .
- لم أفهم .
-ليس الامر مهما . اكتشفت شيئا كنت اجهله وها أنا بدورى أطلعك عليه , الهدية هى أن تمنح شيئا من ذاتك . أن تعطى قبل أن يسألك أحدهم هبة عظيمة . لديك كنزى , القلم الذى كتبت به بعض أحلامى . ولدى كنزك , الحافلة وهى جوء من الطفولة لم تعشه . أحمل معى الان جزءا من ماضيك وتحتفظ الان بشئ من حاضرى . هذا جيدا فعلا .
قالت ذلك دون أن يف لها جفن . كانت واثقة تمام الثقة بتصرفها وكأنها تعرف منذ وقت طويل أنها الطريقة الوحيدة المثلى للسلوك . نهضت ببطء وتناولت سترتها المعلقة على المشجب , قم طبعت قبلة على خده . كأن مأخوذا بالننار , وكأنه تحت تأثير تنويم مغناطيسى , لعله كان يفكر فى ابيه , فلم يظهر أى رغبة فى النهوض .
- لم أفهم يوما لماذا أحتفظت بهذه الحافلة . الان , بات كل شئ واضحا لى , لكى أهديها ذات مساء أوفدت فيه المدفأة . أشعر الأن أن هذه البيت أكثر فرحاً وجدلا .
قال لها أنه فى اليوم التالى سيهدى السكك والحافلات والقاطرة والكرات الصغيرة التى ترسل دخانا متموجا , الى أحد دور الاياتام .
قالت له ماريا :
- قد يكون هذا القطار اليوم شيئا نادرآ , أو قد يساوى الكثير من المال . ندمت ماريا على قولها , لان الامر لا يتعلق بالمال , بل يمس أصدق المشاعر التى تفيض بها القلوب .
ولكى تمنع نفسها من الأسترسال فى أحاديث تافهة , طبعت قبلة أخرى على خده ثم توجهت الى الباب . كان رالف لا يزال محدقآ الى النار . رجته بلطف أن ينهض ليفتح لها الباب .
عندما نهض رالف شرجت له السبب , هناك معتقد فى بلادها يقول انه يتوجب على البرازيليين , حين يذهبون لزيارة أحدهم , الا يفتحوا الباب بأنفسهم لدى المغادرة . لأنهم ان فعلوا ,فمعنى ذلك أن يجازفون بعد الرجوع الى هذا المنزل ثانية .
- أريد أن اعود .
- ثم نخلع ملابسنا , ولم أدخل فيك , ولم ألمسك حتى , ومع ذلك فقد مارسنا الحب .
ضحكت ماريا :
عرض عليها مرافقتها من جديد , لكنها رفضت .
- ساذهب لرؤيتك غدا فى " كوباكابانا " .
- لا تفعل . انتظر أسبوعا . الانتظار هو الأصعب , وعلى أن اعتاده , أن اعرف أنك معى حتى لو لم تكن بقربى .
خرجت فى طقس بارد وقد حل الظلام , كما كانت تفعل دوما فى جنيف . كانت النزهات فيما مضر روثينية , يخيم علهيا جو الحزن , وتقتلها الوحشة . وتخخللها الرغبة فى العودة الى البرازيل . وكانت تنتابها بين الحين والأخر نوبات من الكآبة التى تثيرها فى داخلها هذه اللغة التى تعلمتها حديثآ وحساباتها المالية وضغوطها ومواعيدها .
لكنها اليوم نمشى بخطى واثقة لأنها تسعى الى لقاء نفسها , لقاء هذه المرأة التى كانت تجلس منذ أربعين دقيقة أمام النانر والى جانبها رجل , مفهم بالسحر والضوء , غنية بتجربتها , عميقة بحكمتها . استشفت ماريا وجه هذه المرأة حين كانت تنتظه على ضفاف البحيرة , وتسأءلت عما اذا كان ينبغى لها أن تكرس نفسها لحياة جديدة كليآ . رأت ماريا وجهها ثانية فوق لوحة مطوية , وشعرت بحضورها الانثوى الطاغى من جديد . لم تستقل تاكسى الا بعد انقضاء وقت طويل , عندما ادركت أن هذا الحضور السحرى تتلاشى , وعادت وحيدة , كما كانت على الدوام .
الأفضل ان تقلع أن يأخذ مكان اللحظات الجميلة التى قضتها . اذا كانت ماريا الأخرى موودة فعلا , فسترجع حتمآ .
* * * * *
وهذا مقطع مما دونته ماريا فى يومياتها ليلة أهداها رالف حافلة قطارة الكهربائى .
" أن الرغبة العميقة , الرغبة الحقيقة هى أن تقترب من أحدهم . بدءا من هذه اللحظة , نتجلى ردود الفعل تدريجيا , ويدخل الرجل والمرأة فى اللعبة , لكن الجاذبية التى جمعتها لا تفسر . انها الرغبة فى حالتها الخالصة .
وحين تكون الرغبة عند هذه المرحلة من الصفاء , يشعر الرجل والمرأة بشغف للوجود , ويعيشان كل لحظة يورع وتعبد ووعى . بانتظار اللحظة المناسبة لأحتفال بالبركة العتيدة .
لا يستعجل الناس الذين يعيشون هذه الحالة ولا يعجلون الأحداث من خلال تصرفات متهورة . يعرفون أن الحتمى سيتحقق , وان الحقيقة تجد دومآ سبيلا لتظهر وتعبر عن نفسها . لا يترددون ولا يضيعون فرصة واحدة , ويستغلون كل دقيقة سحرية متاحة , لان الثوانى تصبح ذات قيمة لا حد لها .
* * * * *
فى الأيام التالية , أكتشفت ماريا انها من جديد أسيرة الفخ الذى طالما تجنبته . ومع ذلك , لم تشعر بالحزن ولا بالقلق , بل على العكس كانت تشعر بالحرية اذ ليس لديها ما تخسره .
مهما بدا لها الوضع رومنتيكى , فقد كانت تعرف ان رالف هارت سيتفهم ذات يوم أنها فقط مجرد عاهرة فيما هو فنان محترم , وانها اتية من بلاد تتخبط فى أزمات متعددة , تقع الى الجهة الأخرى من العالم , فيما هو يعيش فى بلاد أشبه بجنة حيث ينعم الموان بكامل حقوقه منذ ولادته وحتى مماته . سيفهم انه تردد الى أفضل المدراس , وزار أعظم متاحف الكواكب , فيما هى حصلت بجهد جهيد , دروسها الثانوية , وان حلمه سرعان ما يتلاشى . خبرت ماريا الحياة بما فيه الكفاية لكى تدرك أن الواقع لا يتوافق مع الأحلام . لكن هذه فرحتها الكبرى حاليا , وان سعادتها لا ترتبط بالأحداث التى تحصل .
" يا ألهى كم أن رومنتكية "
أخذت تتساءل عما يمكن أن يجعل رالف هارت , سعيدآ . هذا الرجل الذى أعاد اليها كرامتها واستشف فيها ضوءا , وهى التى حسبت انها فقدت ذيتك الكرامة والضوء الى الابد . لكن الطريقة الوحيدة التى تبادل بها كرمه تجاهها هى ان تعيد له الاهتمام بالجنس الذى كان يعتبره " أختصاص " ماريا . لكن , بما أن الامور فى " كوباكابنا " تجرى على المنوال نفسه والرتابة نفسها دون ان يتغير فيها اى شئ , فقد قررت أن تستقى معلوماتها من مصادر اخرى .
ذهبت لرؤية بعض الأفلام الأباحية , ولم تجد فيها ما يثير الأهتمام . باستثناء بعض التنوعيات المتعلقة بعدد الشركاء . لم تقدم لها الافلام اى شئ , فصممت , ولاول مرة منذ وصولها الى جنيف الى تشترى كتبا عن الموضوع , مع انها كانت غير مطئمنة الى ان ترى رفوق مكتبتها مزدانى بالكتب التى تفقد قيمتها فور الانتهاء من قراءتها . ذهبت الى مكتبة اهتدت اليها اثناء تجولها مع رالف على طريق مار يعقوب , وهناك سالت عن عناوسن بعض الكتب التى تتناول الأمور الجنسية .
أجابت صاحبة المكتبة :
- هناك عدد هائل من الكتب , الى درجة يبدو معها وكأنهم لا يهتمون الا بعذا الموضوع . بالأضافة الى القسم المختص بهذه الأعمال , هناك فى جميع الروايات التى ترينها أمامك , مشهد عن الجنس على الأقل . واذا كانت موضوعات الكتب تدور فى الظاهر حول قصص الحب المؤثرة أو الأبحاث الجادة عن السلوك البشرى , تبقى النتيجة واحدة وهى أن الناس يولون أمور الجنس اهتمامهم الأول !
كانت ماريا تعرف , مع كل الخبرة التى تملكها , ان المرأة مخطئة . يحلو للجميع أن يفكروا أن العالم بأجمعه منشغل بقضية الجنس . يتبع الناس الحميات الغذائية . ويرتدون الشعر المستعار , ويقضون الساعات عند مزين الشعر او فى صالات الرياضة , ويرتدون الملابس المثيرة...يفعلون كل هذا لكى يخلفوا شرارة السحر والجمال المرغوبة . وماذا بعد ؟ عندما يحين الوقت لأنتقال الى الفعل , يقتصر الأمر على احدى عشرة دقيقة . هل كل شئ . لا أبداع ولا اى شئ يمكن ان يقود الى النخبة . ولا تلبث الشرارة ان تخمد فى قليل من الوقت ومعها النار باكملها .
لكن ,لا يبدو النقاش مجديا مع الفتاة الشقراء التى تعتبر ان العالم يجد تفسيره فى الكتب . طلبت ماريا أن ترى القسم المخصص للجنس . وهناك وجدت عددة كتب تتحدث عناوينها عن الشاذين جنسيا والساحقيات والراهبات . كانت هناك قصص صاخبة عن الكنيسة . وأعمال تحوى رسوما تمثل التقنيات الشرقية فى الجنس , كتاب واحد استوقفها واثار فضولها وكان بعنوان " الجنس المقدس " لعله مختلف عن الكتب الاخرى .
اشترته ورجعت الى البيت . أدارت الراديو على محطة تبث موسيقى تلائم التفكير . تصفحت الكتاب , ولاحظت فيه وضعيات متنوعه لكن وحده بهلوان السيرك " المشهور بلى اعضائه " يمكنه القيام به . وكان النص مضجراً .
ان الخبرة التى اكتسبتها ماريا عن طريق التجربة كانت كافية لتعرف أن الأمر لا يتعلق بالوضعيات التى تمارس بها الحب , وان التنوعيات تأتى فى معظم الحالات بطريقة عفوية لا واعية كخطوات الرقص . ومع ذلك حاولت أن تركز تفكيرها على قراءة الكتاب .
وبعد ساعتين من القراءة , أدركت أمرين , اولهما ان عليها ان تتناول العشاء سريعاً لأن عليها العودة الى " كوباكابانا " . وثانيها ان مؤلف هذا الكتاب لا يعرف شيئاً أطلاقا عن الموضوع . هناك الكثير من النظريات والمراجع الشرقية والطقوس السخيفة والاقتراحات المضحكة . عرفت أن مؤلف الكتاب قد مارس التأمل فى هيمالايا ( يجب ان تستعلم عن هذا المكان ) , وتابع دروسا فى اليوغا ( سمعت عن هذه الرياضة ) , وفر كثيرآ عن الموضوع لأن الكتاب حافل بالأستشهادات , لكنه غفل عن الجوهرى . ليس الجنس مسألة نظرية وبخورآ نحرقه ونقاط تماس نستكشفها , ولا أنحناءات ووضعيات معقدة . ثم , كيف يمكن لفرد ( أو بالأحرى لأمراة , لانها عرفت لاحقا أن الكاتب امرأة ) لن يجرو على الكتابة فى مسألة لا تعرف لا تعرف ماريا نفسها عنها شيئاً , مع انها تعمل فى هذا المجال ؟ لعل الخطأ فى الكتاب , كان عائدا الى التركيز على هيمالايا بالذات او الى الرغبة فى تعقيد هذا الموضوع الذى يكمن جماله فى البساطة وفى الشغف الذى يحركه . اذا كانت هذه الكاتبة قادرة على نشر عمل بهذا الغباء , فبوسع ماراي اذن أن أن تفكر جديا فى مشورعها وتنشر كتابها الذى اعطته عنوان " أحدى عشرة دقيقة " لأنها ستكتفى فيه برواية قصتها ببساطة دون خبث ولا رياء .
لكن , ليس لديها الوقت , ولا رغبة فى القيام بذلك . عليها أن تحصر كل همها فى أسعاد رالف , وتعلم كيفية أدراة شؤؤن المزرعة .
* * * * *
ما كتبته ماريا فى يومياتها بعد فترة قليلة من الفراغ من قراءة كتابها المضجر .
" التقيت رجلا وقتئذت به . سمحت لنفسى أن اقع فى الحب لسبب بسيط وهو أدنى لا أتوقع شيئا . أعرف أننى بعد ثلاثة أشهر سأغادر بعيدآ . وان هذا الحب لن يكون الا مجرد ذكرى , لكنى لم أعد تستطيع تحفل العيش دون حب , بلغ بى الامر حدا لا يطاق .
أكتب قصة من أجل الف هارت . هذا هو اسمه . لا اعرفه اذا كان سيرجع الليلة الى الحانة التى اعمل فيها . لكنى , وللمرة الأولى فى حياتى , أشعر ان مجيئه لن يغير شيئا . يكفى أن أحبه وأن اكون معه بالفكر وان تضفى خطواته وكلماته وحنانه ألوانا على هذه المدينة الرائعة . حين أغادر هذه البلاد ,’ سيكون لها وجه واسم . وسأحمل معى ذكرى ثار فى مدفأة .
وكل ما عشته هنا من أمور مغايرة , كل المصاعب التى واجهتها ستتلاشى . أزاء هذا الشعور الغامر بالطمأنينة .
أود لو أصنع من أجله ما صنعه من أجلى . فكرت كثيرآ واكتشفت اننى لم ادخل هذا المقهى مصادفة . ذلك أن اللقاءات الأهم تتم على مستوى الأرواح حتى قبل أن تتقابل الأجساد .
هذه اللقاءات تحدث غالبا حين تشعر أنا جاوزنا الحد , حين تشعر بالحاجة الى الموت والولادة من جديد على صعيد انفعلاتنا .
اللقاءات تنتظرنا , لكننا تعمل ى معظم الأحيان على أجهاضها .
عندما نكون يائيسين , عندما لا يكون لدينا ما نخسره , أو عندما يشعلنا حماسنا للحياة . عندئذ , يعلن المجهول ظهوره المفأجى , ويغير مجرى حياتنا .
يعرف الجميع الحب . هذا أمر قطرى , يمارسه البعض بطريق نلقائية . لكن معظم ينبغى لهم أن يتعلموه من جنيف , وأن يتذكروا كيف نحب , عليهم جميعا , دون استنثناء , أن يحترقوا بنار أنفعالاتهم الماضية . وأن يعيشوا من جديد افراحآ والاما , نكسات ولحظات عافية , حتى يتمكنوا من اكتشاف الأمل المرجو الذى يمكن خلف كل لقاء جديد .
تتعلم الأجساد اذن أن تتكلم بلغة النفوس , هذا ما يدعى الجنس . هذا ما يمكن أن اعطية لأنسان الذى أرجع الى نفسى , حتى لو كان يجهل . المكانة الهائلة التى يحتلها فى حياتى . هذا ما سأله وما سأمنحه اياه , لأننى أريد أن يكو ن سعيدة .
* * * * *
أحيانا , تكون الحياة بخيلة جدآ . قد نقضى أيامآ وأسابيع وأشهرآ وسنوات دون أن نشعر بشئ . ثم , فجأة , وما أن نفتح الباب , وهذه كانت حال ماريا مع رالف هارت , حتى ينهار جبل الجليد وتنجلى أمامنا الطريق واسعة فى لحظة واحدة . نخال أننا لا نملك شيئاً , ثم لا نلبث أن نشعر اننا نمتلك ما لا طاقة لنا على أمتلاكه !
بعد ساعتين من كتابة ماريا ليومياتها , ذهبت الى " كوباكابانا " . وما رآها ميلان حتى جاء لموافاتها وسألها " هل خرجت مع هذا الرسام ؟ " .
لا شك أنه معروف فى الحانة . لاحظت ذلك من قبل , تحديدآ فى تلك الليلة عندما سدد ثمن التعرفة عن ثلاث زبائن , دون أن يضطر للأستعلام عن التسعيرة . أجابت ماريا " نعم " بحركة من رأسها , وكأنها تسعى لأضفاء جو من الغموض على اللقاء . لكن ميلان لم يعلق أهمية على الموضوع . لأنه كان أكثر منها خبرة فى شؤؤن الحياة .
- لعلك صرت جاهزة للمرحلة المقبلة . هناك بزبون غير عادى , يطلبك اليوم . قلت له أنك تفتقرين الى الخبرة وهو يثق بى . ربما كان الوقت قد حان للمحاولة .
- زبون غير عادى ؟ لكن أى علاقة للرسام بذلك ؟
- هو أيضا" زبون غير عادى " .
هل كل ما فعله اذن رالف هارت معها , سبق له أن فعله مع أحدى زميلاتها ؟ عضت ماريا على شفتها السفلى ولاذت الصمت . لقد قضت أسبوعا جميلا , ويستحيل عليها نسيان ما كتبت .
- هل على أن افعل نفس الشئ الذى فعلته مع الرسام ؟
- لا اعرف ماذا فعلت معه . لكن , اليوم اذا دعاك أحد للشرب , لا تقبلى , لأن الزبائن غير العاديين يدفعون مسبقا , ولن تندمى على التعرف اليهم .
بدأت السهرة كالعادة . جلست التايلنديات معآ , وأظهرت الكولومبيات سحنة غير مكترثة , وكأن لا شئ جديدة أو مثيرآ للأهتمام , واصطنعت البرازيليات الثلاث ( وهى بينهم ) الشرود . كانت هناك أيضاً نمساوية وألمانيتان . أما باقى المجموعة , فكانت مؤلفة من نساء جئن من أوروبا الشرقية , وجميعهن فارعات الطول وجميلات ذوات عيون فاتحة , ويعثرن على أزواج بسرعة أكثر من الأخريات .
دخل رجال روس وسويسريون وألمان ,وهم جميعاً يتولون مناصب رفيعة , وقادرون أن يمتعوا أنفسهم بالخدمات الأغلى ثمناً التى تقدمها العاهرات فى أحدى المدن الأعلى فى العالم . أئمة بعضهم الى طاولة ماريا , لكنها نظرت الى ميلان الذى أشار اليها بأن ترفض فى كل مرة . كانت سعيدة , لن تضطر الى فرج ساقيها هذا المساء , ولن نتحمل الروائح , ولن تستحم بعد الممارسة فى صالات الأستحمام الشديدة الدفء . كل ما ينبغى لها أن تفعله هو أن توفر المتعة لرجل سئم من الجنس , وتعلمة كيفية ممارسة الحب . واذا اردنا التفكير فى ذلك جيدآ , فلن تضاهيها أمرأة أبداعا فى الدور الذى تقوم به .
ومع ذلك تساءلت ماريا , " لماذا يريد هؤلاء الرجال الذين خبروا كل شئ أن يعودوا الى نقطة البداية ؟ " . على أى حال , هذه ليست مشكلتها ما دامت تجنى ىالكثيرمن علاقتها بهم , فهى رهن أشارتهم .
دخل رجل الى الحانة يبدو أصغر سنا من رالف جميل , أسود الشعر وذو أسنان رائعة . كان يرتدى بذلة على الطراز الصينى بلا ربطة عنق مع قبة بسيطة وتحتها قميص ناصعة البياض . اتجه الى البار . اقترب من ميلان وحولا نظريهما تجاه ماريا . ثم اقترب الزبون منها وقال " هل ترغبين بشرب شئ ما ؟ " .
أوما ميلان برأسه ودعت ماريا الرجل لكى يجلس الى طاولتها . طلبت عصير فواكه , وانتظرت دعوته الى الرقص . عرف الرجل عن نفسه , قائلا " ادعى تيرنس , أعمل فى مؤسسة للأسطوانات فى أنكلترا . أعرف أننى موجود فى مكان حيث يمكن أن أثق بالناس . واريد أن يظل ذلك سرآ بيننا .
كانت ماريا تستعد لتحدثه عن البرازيل عندما قاطعها قائلا :
- قال لى ميلان أنك تعرفين ماذا أريد .
- لا أعرف ماذا تريد . لكن أعرف ماذا أفعل .
سدد الحساب قبل أن تنجز الطقوس , وامسكها من ذراعها , ثم صعدا فى تاكسى واعطاها ألف فرنك . اصابها الذهول , تذكرت العربى الذى اصطحبها الى ذاك المطعم المزين باللوحات الشهيرة . انها المرة الثانية التى تتلقى فيها مثل هذا المبلغ , وبدل أن يرضيها ذلك فقد جلعها تشعر بالتوتر .
توقفت سيارة التاكسى أمام أحد الفنادق فى المدينة . حيا الرجل الحارس تحية بدا معها أن المكان كان أليفا لديه . صعدا مباشرة الى الغرفة وهى تشرف على النهر . فتح ديرنس قنينة نبيذ فاخر لا نظير له كما يبد , وسكب له كأسا .
راقبته ماريا , فيما كانت تحتسى النبيذ , ترى ماذا ينتظر رجل مثله . ثرى وجميل , من عاهرة ؟ لم يكن كثير الكلام أطلاقا . لذا بقيت صامته تتساءل عما يمكن أن يرضى " زبونا غير عادى " شعرت انه لا يجدر بها أن تتخذ المبادرة أولا . لكن , ما أن تبدا اللعبة . فأنها ستشارك فيها كما يجب , لأن المبلغ كبير ولا يدفع لها ألف فرنك كل مساء .
قال تيرنس :
- لدينا الوقت , كل الوقت الى ترغب فيه . يمكنك النوم هنا اذا شئت .
عادت تشعر بالأستياء . لم يكن الرجل خائفا على ما يبدو , وكان يتكلم بصوت هادئ , مختلف عن الزبائن الأخرين , ويعرف ماذا يريد . اختار موسيقى رائعة ومناسبة من حيث قوة الصوت وتتلاءم مع أجواء , الغرفة الرائعة التى تطل على بحيرة مدينة فائقة الروعة . كانت بذلته أنيقة وحقيبته الموضوعة فى الزاوية صغيرة الحجم . وكأنه لا يحتاج الى المتاع الثقيل الوزن فى أسفاره , أو كأنه جاء الى جنيف ليقضى فيها ليلة واحدة فقط .
قالت ماريا :
- لا , أعود لأنام فى بيتى .
تغيرت سحنة الرجل الذى كان أمامها , وألتمح فى نظرته المهذبة بريق جليدى .
قال , وهو يشير الى كرسى قرب المكتب :
- أجلسى هناك .
كان هذا أمرأ , أمرا فعلا , وماريا أطاعت وهذا أثارها بطريقة غريبة .
- أجلسى مستقيمة . هيا , ليكن ظهرك مستقيماً مثل نساء خاصة الناس , وألا فسوف أعاقبك .
يعاقبنى ! هذا هو " الزبون غير العادى " ! .
وبلحظة خاطفة , فهمت ماريا كل شئ . أخرجت الألف فرنك من حقيبتها ووضعتها على المكتب .
قالت وهى تحدق فى عينيه الزرقاوين الجليديتين .
- أعرف ماذا تريد , ولست مستعدة .
بدا الرجل وكأنه يعود الى طبيعته , مدركاً أن ما تقوله صحيح .
قال :
- احتسى نبيذك . لن أتحدث معك فى شئ . تستطيعين البقاء قليلا أو الذهاب اذا شئت .
شعرت أن الأطمئنان يعود اليها .
- لدى وظيفة ورب عمل يحمينى ويثق بى . أرجوك لا تقل له شيئاً .
تلفظت بهذه الكلمات بنبرة تخلو من التوسل , كانت ببساطة تقول الحقيقة , ليس الا .
عاد تيرنس الى ما كان عليه . لا لطيفآ ولا قاسيا , فقط رجلآ يعطى انطباعا , بخلاف الزبائن الأخرين , بأنه يعرف ماذا يريد . بدا وكأنه خارج من رعدة أو من مسرحية لم تبدأ بعد .
لكن , هل عليها أن تغادر بهذه البساطة دون أن تكتشف فعلا ما تعنيه عبارة " زبون غير عادى " ؟
- ماذا تريد تحديدآ ؟
- الألم , كما لاحظت , العذاب وايضا الكثير من اللذة .
فكرت ماريا أن الألم والعذاب لا يتعايشان كثيرآ مع اللذة , مع انها رغبت حتى فى اليأس أن تعتقد العكس , أنه يمكن أن نجنى ثمارآ طيبة من التجارب السلبية الكثيرة فى هذه الحياة .
أخذها من يدها واقتادها الى النافذة , كان يرى فى الجهة الأخرى للبحيرة برج الكاتدرائية . تذكرت ماريا انها مرت بصحبة رالف هارت باتجاه طريق مار يعقوب .
- هل ترين هذا النهر , هذه البيوت , هذه الكنيسة ؟ منذ أكثر من خمسائمة سنة لا يزال للنظر نفسه تقريبا باستثناء أن المدينة حينذاك كانت مقفرة تماما , لان مرضا مجهولا أنتشر فى جميع أنحاء أوروبا . لم يكن أحد يعرف لماذا يمت هذا الكم الهائل من البشر . كان هذا المرض يدعى الطاعون الأسود , وهو عقاب أنزله الله بالبشر بسبب خطاياهم . عندئذ , قرر جماعة من الناس ان يفتدوا بأنفسهم البشرية جمعاء , وقاموا بما كانوا يخشونه أكثر من اآ شئ اخر وهو تعذيب أنفسهم . أخذوا يذرعون الطرقات وهم يجلدون أنفسهم بالسياط أو بالسلاسل . كانوا يتألمون بأسم الله وحيتلفون بألمهم , مكتشفين حينئذاك أنهم أكثر سعادة من هؤلاء الذين يصنعون الخبر ويحرثون الارض ويطمعون الحيوانات . لم يعد الألم عقابا بل لذة يكفرون بها عن خطايا البشر . أصبح الألم فرحآ ومعنى للحياة ولذة .
رجع البريق البارد الى عينيه . أخذ المال الذى وضعته ماريا على المكتب , اقتطع منه مئة وخمسين فرنكا ووضعها فى جزداتها .
- لا تهتمى لصاحب العمل . هذه هى حصته . وأعدم بألا اقول شيئا . بأمكانك الرحيل ..
- لا !
قال ماريا ذلك وهى تستعيد من جديد المبلغ بكامله .
لعل ما دفعها الى التصرف كان هذا النبيذ , العربى فى المطعم , المرأة ذات الأبتسامة الحزينة , الفكرة بأنها لن ترجع أبدآ الى هذا المكان اللعين , الخوف من الحب الذى كان يتخذ ملامح رجل , الرسائل التى بعثتها لأمها تخبرها فيها عن حياتها الغنية بفرص العمل , الصبى الذى طلب منها قلمآ فى طفولتها , معاركها مع نفسها والذنب والفضول والمال , السعى لأيجاد حدود لتصرفاتها بالذات , الفرص الضائعة التى أفلتت من يدها ....كل ذلك أستعرضته فى ذاكرتها ...وهناك ماريا اخرى موجودة فى هذا المكان , لم تعد تقدم الهدايا بل تقدم نفسها ذبيحة .
- لقد زال خوفى ويمكننا الذهاب بعيدآ فى اللعبة . اذا كان الأمر ضروريا عاقبنى لأننى امرأة عاصية . كذبت خنت وتصرفت بالسوء مع هؤلاء الذين أحبونى وعملوا على حمايتى .
دخلت ماريا فى اللعبة . قالت ما ينبعى أن تقوله .
امرها تيرنس بصوت عال ومثير للدهشة والقلق .
- أركعى !
استجابت ماريا لطلبه . لم يعاملها أحد , قط بهذه الطريقة , ولا تعرف ان كل ما تفعله جيدا أم سيئا . أرادت فقط أن تذهب بعيدآ , وفكرت أنها تستحق هذه المعاملة بسبب كل ما فعلته فى حياتها . أضحت أمرأة مختلفة وكان أمراة خرى قد تقمصت جسدها .
- ستعاقبين لأنك عديمة الفائدة ولأنك لا تعرفين القواعد وتجهلين كل شئ عن الجنس والحياة والحب .
بدا تيرنس وهو يتكلم وكأنه شخصان , رجل يشرح لها بهدؤء قواعد السلوك البشرى , ورجل أخرها يشعرها أنها أتعس شخص فى العالم .
- هل تعرفين لماذا أفعل ذلك , لانه ليس من لذة فى الدنيا أكبر من أن نقود أحدآ الى ولوج عالم مجهول , وان نفقده عذريته , ليس عذرية الجسد بل عذرية الروح . هل فهمت ؟
- فهمت .
- اليوم بأمكانك أن تطرحى الأسئلة , لكن , فى المرة المقبلة , ما أن ينزع الستار عن المسرح حتى تبدأ المسرحية ولا أحد يمكنه أيقافها . واذا توقفت فهذا لأن روحينا لم يتقفا . تذكرى , أنها مسرحية . يجب أن تكونى الشخص الذى لم تجرؤى يوما أن تكونيه . وستكتشفين شيئا فشيئا أن هذا الشخص هو ذاتك الحقيقة . بانتظار ذلك , حاولى أن تتظاهرى باحتمال المعاناة كونى خلاقة .
- واذا لم أستطع تحمل الألم ؟
- ليس هناك ألم . انه فقط شهور يتحول الى لذة , الى سر . قولى لى " لا تعاملنى هكذا , أنا أتالم , لان هذا يشكل أيضا جزءى من المسرحية أناء ولكى تتحاشى الخطر ....اخفضى رأسك ولا تنظرى الى .
جثت ماريا على ركبتيها , وخفضت رأسها وهى تنظر الى الأرض .
- لكى تتجنب أن تسبب هذه العلاقة أذية جسدية خطيرة , سنستعمل أصطلاحين . اذ قال أحدنا " أصفر " فهذا يعنى أنه يجب الحد من العنف , واذا قال " أحم " فهذا يعنى أن عليه التوقف فى الحال .
- قلت " أحدنا ؟
- نعم لأننا سنتبادل الأدوار , لا وجود لأحد دون الاخر , ولا أحد بامكانه أن يدل الاخر , الا اذا سمح للأخر بأذلاله .
كانت هذه الكلمات مرعبة , أتية من عالم لا تعرفه , عالم خافل بالظلمة والوحل والعفن . ومع ذلك كانت تحدوها رغبة الذهاب بعيدآ , كان جسدها يرتجف خوفآ وأثارة .
لامست يد تيرنس راسها بحنان غير متوقع .
قال :
- انتهت اللعبة .
توسل اليها أن تنهض بنبرة لا تخلو من بعض الحنان , وان حلت من العدائية الجافة التى أظهرها من قبل . ليست ماريا سترتها وهى لا تزال ترتجف . لاحظت تيرنس الحالة التى كانت فيها .
- دخنى سيجارة قبل أن ترحلى .
- لم يحدث شئ .
-ليس هذا ضروريأ . لكن هذا اللقاء سيتابع مساره فى روحك . وفى المرة المقبلة عندما نلتقى , ستكونين أكثر استجابة .
- هل تساوى هذه السهرة ألف فرنك ؟
لم يجب أشعل هو أيضا سيجارة , وكانا قد فرغا من احتماء النبيذ . استمعا الى الموسيقى , وقد خيم عليهما صمت طويل ممتع .
ثم جاء وقت الكلام , وتفأجات ماريا من كلماتها بالذات :
- لا اعرف لماذا كانت لدى رغبة المشى فى الوحل .
- بسبب الالف فرنك .
- ليس الأمر كذلك .
بدا تيرنس سعيدى بجوابها .
- أنا ايضا طرحت على نفسى هذا السوال . كان الماركيز دو ساد يقول أن التجارب الأهم التى يختبرها فى حياته هى تلك التى يبلغ فيها المرء أخر المطاف . وهى التى تعلمنا لأنها تستنفذ منا كامل طاقتنا . ان رب العمل الذى يهين موظفا , او الرجل الذى يهين زوجته , هما على درجة عالية من الجبن , أو يسعيان للأنتقام من الحياة . أن مثل هؤلاء الناس لم يجرؤؤا يوما على النظر الى أعماق أنفسهم .
لم يسعوا ليعرفوا من أين تأتى الرغبة فى التحرز من الوحش الكامن فى داخلهم , ولا ليدركوا أن الجنس والألم والحب تمثل للأنسان تجارب قصوى . وحده الذى يعرف أقامة الحدود يعرف معنى الحياة . ليست البقية الا مضيعة للوقت وتكرارآ للمسار نفسه , نشيخ ونموت دون أن نعرف ماذا كنا نفعل على هذه البسيطة .
* * * * *
من جديد الطريق , من جديد البرد , ومن جديد الرغبة فى المشى .
كان هذا الرجل مخطئا . ليس ضرورياً أن نعرف شياطيننا لكى نلقى الله .
صادفت فى طريقها جماعة من التامذة الخارجين من أحدى الحانات . كانت السعادة تخيم عليهم , على الرغم من أثار السُكر البادية على وجوههم الجميلة المفعهمة بالحيوية والنشاط.
عما قريب سينهون دروسهم , ويبدأ ما يرون أنه " الحياة الحقيقية " العمل , الزواج , الأطفال , الرتابة , المرارة , الشيخوخة , الشعور الهائل بالخسارة , الحرمان , المرض , العجز , التبعية , الوحدة , وأخيرآ الموت .
لكن , ما بالها ؟ هى ايضا كانت تنشد الطمأنينة لكى تحيا حياتها الحقيقية , والوقت الذى كان قضته فى سويسرا لتمارس مهنة لم تفكر يوما فى اختيارها , كان مرحلة صعبة من تلك المراحل التى يواجهها الجميع عاجلا أم أجلا.
ذهبت الى " كوباكابانا " وخرجت برفقة الرجال من أجل المال , وأنت أدوار الفتاة البرئية الساذجة أو المرأة المغوية أو الأم المتفهمة , وفقآ لأمزجة الزبائن .
لم يكن ما فعلته الا جورآ أدته على أعلى درجة من الأحتراف طمعاً بالعلاوة , وعلى أدنى درجة من الاهتمام خشية ان تعتاده .
قضت تسعة أشهر فى مراقبة العالم من حولها .
وقبيل عودتها الى ديارها , اكتشفت أنها قادرة على احب دون أن تطلب أى شئ بالمقابل , وعلى العذاب دون سبب .
كما لو أن القدر رماها فى لجة حياة قذرة , غريبة الأطوار , لكى تكتشف أسرارها المضيئة والمظلمة .
* * * * *
وهذا ما كتبته ماريا فى يومياتها ليلة لقائها بتيرنس :
" أستئهد بالماركيز دوساد الذى لم أقرأ له سطر واحد , لكنى سمعت بعض التعليقات التقليدية عن السادية , والتى تقول أننا لا نعرف أنفسنا حقاً الا حين نتجاوز حدودنا بالذات .
هذا أكيد .
لكن ذلك الأمر يحتاد الى مراجعة , لانه ليس ضروريا أن نعرف كل شئ عن ذواتنا .
لم يخلق الكائن البشرى فقط لكى يفتش عن المعرفة , بل لكى يحرث الأرض أيضاً , وينتظر المطر , ويزرع القمح , ويجنى الغلال , ويعجن الخبر .
فى داخلى أمرأتان , أحداهما تسعى الى بلوغ السعادة والشغف والمغامرات التى يستطيع الوجود أن يوفرها لها , والثانية عبُدة الرتابة والحياة العائلية والأفعال الصغيرة التى يمكن التخطيط لها وتنفيذها .
انا أحنل فى حنايا جسدى على السواء ربة المنزل والعاهرة , وكل منهما تصارع الأخرى .
ان لقاء المرأة بذاتها لعبة تنطوى على الكثير من المخاطر . عندما ألتقى بذاتى نصير طاقتين , عالمين يتصادمان . أما اذا كان اللقاء يفتقر الى الأنسجام المتوازن , فانه يتحول الى انفجار مدمر للذات البشرية الواحدة .
* * * * *
من جديد صالون رالف هارت والنار فى المدفأة والخمر , وكلاهما جالسان على الأرض . كل ما أحست به ماريا البارحة أثناء لقائها بذاك الأنكليزى , مدير مؤسسة الأسطوانات , كان بمجرد حلم , أو كابوس . وهذا يتعلق بحالتها النفسية .
كانت تبحث فى هذه اللحظة عن سبب وجودها , أو بالأحرى عن هذه التضحية المجنونة بالنفس التى تمنح من خلالها قلوبنا دون أن نطلب شيئا بالمقابل .
أينعت ماريا , وهى فى انتظار هذه اللحظة . أكتشفت أخيرا أن الحب الحقيقى لا علاقة له بما نتصوره عادة , اى بسلسلة الأحداث التى تثيرها طاقة الحب , بداية الحب , الألتزام , الزواج , الأطفال , نهاية الأنتظار , الشيخوخة معآ , نهاية الأنتظار , تقاعد الزوج فى حينه , الأمراض والشعور بأن الأوان قد فات وأن الزوجين تخليا عن تحقيق أحلامهما المشتركة , وباتا ينتظران قدرهما المحتوم .
نظرت ماريا الى الرجل الذى قررت أن تهبه ذاتها دون أن تبوح له بما كانت تشعر تجاه , لانها لم تكتشف الأسلوب الملائم للتعبير عن مشاعرها وانفعالاتها .
بدا رالف مرتاحآ , وكأنه يعيش فترة ساحرة فى حياته . كان يبتسم وهو يحدث ماريا عن الرحلة التى قام بها مؤخرا الى ميونيخ , ليقابل مدير أحد المتاحف الكبرى .
- سالنى المدير اذا كانت اللوحة عن وجوه جنيف قد أنجزت . قلت له أنننى تعرفت الى أحد الأشخاص الذين أرغب فى أن أرسمهم , أمرأة مليئة بالضوء ...لكن , لا أريد التحدث عن نفسى . أريد أن أقبلك , أشتهيك , أرغب فيك .
الرغبة , الرغبة ؟ الرغبة ! أنها النقطة المحورية فى هذه السهرة . وكان هذا امرا تعرفه ماريا تمام المعرفة !
توقظ الرغبة مثلا حسن لا تستجيب لدواعى الرغبة فى الحال , حين نرجئ هذه الأستجابة .
- اشتهينى اذن . هذا ما نفعله الأن . انت على بعد متر منى , سعيت الى حانة ليلية وأنفقت ما فيه الكفاية لتحصل على مبتغاك , وتعرف ان لديك الحق أن تلمسنى لكنك لا تجرؤ . أنظر الى . أنظر الى . تخيل أننى لا اريد أن تنظر الى . تخيل ماذا أخفى تحت ملابسى .
كانت ترتدى فستانا أسود بسيطاً , ولا تفهم السبب الذى يدفع الفتيات الأخريات فى حانة " كوباكابانا " لأن يبذلن كل ما فى وسعهن ليبدون مثيرات من خلال أرتداء الألبسة المثيرة والألوان الغامقة .
كان الأمر فى نظرها مختلفاً , أن تثير رجلا يعنى أن ترتدى ملابس تبدو فيها مشابها لأى أمرأة يلتقيها فى المكتب أو القطار او عند صديقة زوجته .
نظر اليها رالف . أحست ماريا أن نظراته تعريها , وراق لها أن يشتيهيها بهذه الطريقة , دون أن يلمسها ,كأنهما فى مطعم أو فى رتل من المنتظرين أمام قاعة السينما .
قالت ماريا :
- تخيل أننا فى محطة . أنتظر القطار قربك , وانت لا تعرفنى . لكنى عينى تلتقيان عينيك مصادفة , وأنا لا أشيح بهما عنك , لا تعرف ما احاول قوله لك لانك رغم ذكائك , رغم أنك قادر على رؤية " الضوء " الكامن فى الأخريين , لست حساسا بما فيه الكفاية لترى ما يمكن أن ينجلى عن هذا الضوء .
لم تنس المسرح . أرادت أن تمحو بأقصى سرعة ممكنة وجه المدير الفنى الأنكليزى , لكنه كان هنا , يرصد تخيلاتها .
- أنظر اليك فى عينيك مباشرة وأتساءل , هل رأيته من قبل فى مكان ما؟ أو لعلنى شاردة الذهن أو اخشى أن أبدو سمجة . تعرفنى من قبل , لكنى أود أن تتجاهلنى لثوان معدودات , وستكتشف أننا تعارفنا منذ زمن أو هناك سوء فهم يعترى علاقتنا .
لعلنى ذهبت الى المحطة فقط لأن لدى رغبة هى الأبسط فى العالم , الألتقاء برجل , أو لاننى هاربة من حب يعذبنى , أو أسعى الى الانتقام من خيانى حديثة العهد , وذهبت الى هناك بحثا عن رجل مجهول . لعلنى ذهبت لأننى ارغب فى أن أكون عارهتك لليلة فقط , لأقطع معك رتابة حياتى , ولاننى عاهرة تبحث عن عمل .
خيم عليها صمت عميق . كانت ماريا تبدو شاردة تستعيد فى ذهنها ذكرى الرجل الأنكليزى فى الفندق , والاهانة . رت فى رأسها كلمات " الأصفر , " الاحمر " , " الألم " وكثير من اللذة . كل ذلك أثر فى روحها بشكل ملحوظ .
لاحظ رالف شرودها , وحاول أن يعيدها من جديد الى المحطة :
- فى هذا اللقاء , هل ترغبين فى أنت أيضاً ؟
- لا أعرف , لا تتكلم , وأنت لا تعرف .
عادت ماريا الى شرودها قليلا . فى أى حال , ساعدتها فكرة " المسرح " هذه كثيرا , لان الشخصية الحقيقة تظهر جلية , وتغيب كل الشخيات المزيفة التى تسكننا .
- لا أشيح بنظرى عنك , ولا تعرف ماذا عليك أن تفعل . هل الأقتراب ؟ هل سأصدك ؟ هل سأدعو شرطياً , ام أدعوك لتناول فنجان من القهوة ؟
قال رالف , وكانت نبرة صوته مختلفة , وكأنهما التقيا فعلا للمرة الأولى :
- رجعت لتوى من ميونيخ ...
ثم أضاف :
- وأنوى أن ارسم سلسلة من اللوحات عن الجنس , عن الأقنعة العديدة التى يختبئ خلفها الناس كلى يتجنبوا القيام بتجربة لقاء حقيقى .
لابد أنه يعرف " المسرح " . قال ميلان أنه كان هو أيضا " زبوناً غير عادى " . دوت صفارة الخطر , لكن ماريا كانت بحاجة الى الوقت لكى تفكر .
- قال لى مدير المتحف " علام تعتمد فى أعداد عملك الفنى ؟. وأجبته " على نساء يشعرن بأن لديهن الحرية بأن يمارسن الجنس من اجل المال . فأجاب : ليس هذا ممكنا , فهؤلاء النسوة عاهرات . وأجبته " أجل هن عاهرات واريد أن أعرف ما هى قصتهن . أقوم بأعداد لوحات فنية تنسجم كليآ مع ذوق العائلات التى تتردد الى متحفك .
المسألة مسألة ثقافة كما تعرف , وتقوم على أن نعرض بشكل ممتع ما يشق علينا تقبله .
فقال المدير باصرار " لكن الجنس لم يعد محزمآ . فالجنس مسألة مطروحة على الدوام , بحيث يصعب علينا أن نقوم بعمل ذى قيمة عن هذا الموضوع . فأجبته , " هل تعرف من أين تأتى الرغبة الجنسية ؟ " .
فقال المدير " من الغريزة " .
فقلت له " أجل , من الغريزة , وجميع الناس يعرفون هذا . لكن كيف بالأمكان أن نقيم عرضآ جميلا وناجحا اذا استندنا فقط الى العلم ؟ أريد فى معرضى أن أصور الطريقة التى نفسر فيها هذا الأنجذاب الجسدى , كما يفعل الفيلسوف مثلا .
طلب منى المدير أن اعطيه مثلا عن ذلك . قلت له " افرض أننى صعدت فى القطار عائدآ الى المنزل وان أمرأة رمقتنى بنظرة أعجاب . عندئذ سأتحدث اليها وأقول لها اننى لا اعرفها وأننا احرا فى ان نفعل كل ما حلمنا به , وأن يعيش كل منا " فانتا سماته " . ونفترق , من ثم , ويذهب كل منا فى طريقه , أنا الى زوجتى , وهى الى زوجها , ولن يحصل لقاء أخر .
سألقك اذن فى هذه المحطة ...
- قصتك مثيرة جدا لأهتمام . لدرجة أنها تلغى كل دوافع الرغبة لدى .
ضحك رالف موافقا على ما قالته . لم يعد هناك نبيذ , فذهب الى المطبخ ليحضر زجاجةأخرى . نظرت ماريا الى النار , وهى تعرف مسبقاً ماذا ستكون الخطوة المقبلة , مستمتعة بالحفاوة التى تلقاها , ناسية أمر الأنكليزى , ومستسلمة من جديد للحظة التى تحياها .
سكب رالف كأسين من النبيذ .
- أريد فقط أن أسالك بدافع الفضول , كيف ستنتهى قصتك مع مدير المتحف ؟
- أستشهد بفيلسوف أغريقى , لانى سأكون فى حضرة أنسان مثقف . يعتبر أفلاطون أن الرجال والنساء فى بداية الخليقة , كانوا مختلفين عما هو اليوم . كانت هناك فقط كائنات خدئوية ذات جسد وعنق ورأس بوجهين وكل وجه ينظر فى اتجاه مختلف , وكأنهما مخلوقان ملتصقان أحدهما بالآخر . كانت هذه المخلوقات تملك عضوين جنسيين مختلفين وأربع أرجال وأربع أذرع .
لكن الآلهة الأغريق بدأت تشتغل فى نفوسهم الغيرة حين رأوا أن مخلوقا بأربع أذرع أعظم قدرة على العمل . وأن وجهين متقابلين كانا دائما متيقظين , وأن الآلهة لا يستطيعون بالتالى مهاجمته والقضاء عليه غدرآ , وأن أربعة أرجل لا تلزم صاحبها ببذل الكثير من الجهد فى الوقوف أو المشى الطويل . والأخطر من ذلك كله , أن هذا المخلوق لديه عضوان جنسيان ولا يحتاج الى أحد من أجل التناسل . عندئذ قال زوس وهو الزعيم الأعلى لأولمب , لدىّ خطة لأنتزاع القوة من هذه الكائنات الفانية . فما كان منه الا أن أنزل الصاعقة فانشقت المخلوقات شطرين رجلا وأمرأة . مما جعل نسل الأرض يزداد كثيرآ , لكن هذا الأنشطار بين ذكر وأنثى أضعف ساكنى الأرض , وأثار فيهم البلبلة والضلال . صارا لزاما عليهم أن يبحثوا عن نصفهم المفقود ويعانقوه من جديد ليستعيدوا بهذا العناق قوتهم السابقة ومهاراتهم المفقودة , ليصبحوا أقدر على مواجهة المتاعب والمشقات وأتقاء سهام الغادرين . هذا العناق الذى يستطيع من خلاله الجسدان أن يجتمعا من جديد لكى يصير واحدآ , هو ما ندعوه الجنس .
- هل هذه القصة حقيقة ؟
- أجل , بحسب أفلاطون .
نظرت اليه ماريا مسحورة , وامحت من ذهنها تجربة البارحة نهائيا , فتنت به عندما كان يروى هذه القصة الغريبة بحماس وبعينين تلتمعان ليس فقط رغبة بل فرحاً . رأت أمامها رجلا يشع وجهه بذاك الضوء الذى كان قد استشفه فيها .
- هل أستطيع أن أطلب منك أيضاحاً ؟
أجابها رالف أنها تستطيع ان تستوضح عما يشاء .
- لماذا , عندما شقت الآلهة هذه المخلوقات ذات الأرجل الأربع شطرين , أعتبر البعض أن العناق ليس الا أمرآ كالأمور الأخرى , وانه بدلا من ان يزيد طاقة البشر , فانه ينتزعها , هل بامكانك أن تقول لى السبب ؟
- أتقصدين الكلام عن الدعارة ؟
- هذا بالضبط ما قصدته . هل تستطيع أن تقول لى متى لم يعد الجنس مقدساً .
- سأحاول معرفة ذلك أن شئت . لم أفكر فىالموضوع من قبل , وأعتقد أن أحدآ لم يفكر فيه .
سألت ماريا بألحاح بالغ :
- هل فكرت مرة أن النساء العاهرات قادرات على الحب ؟
- نعم . فكرت فى الأمر عندما كنا جالسين أمام الطاولة فى المقهى , فرأيت ذاك الضوء المنبعث من وجهك . وحين دعوتك الى شرب كأس , اخترت أن أصدق كل شئ , بما فيه أمكانية أن تعيدينى الى العالم الذى فارقته منذ وقت طويل .
أحس أن العودة الى الوراء باتت متعذرة . انها العشيقة , وعليها أن تهرع للنجدة حالا , فتقبله وتضمه بين ذراعيها , وترجوه ألا يذهب .
لكنها قالت :
- لنعد الى قصة المحطة أو بالأحرى لنعد الى اليوم الذى جئنا فيه للمرة الأولى الى هذا الصالون , حين أعترفت بوجودى وقدمت لى هدية . كانت هذه محاولتك الأولى لدخول كيانى , ولم تكن تعرف المكانة التى تحتلها فى نفسى . لكن , وكما تروى قصتك , فان الكائنات البشرية مشطورة نصفين , وهى تسعى دومآ خلف العناق الذى يجمعها . هذه غريزتنا , لكن هذا أيضاً السبب الذى نحتمل لأجله كل الصعوبات التى تعترض طريقنا خلال هذا السعى .
وأردفت ماريا قائلة :
- أريد أن تنظر الى , واريد فى الوقت نفسه ألا تجعلنى ألاحظ ذلك . الرغبة الأولى مهمة لأنها محتجبة ومحزمة ولا تدخل فى الحسبان . لا تعرف ان كنت موجودآ أمام نصفك المفقود , ولا هو أيضا يعرف ذلك . لكن شيئا ما يجذب أحدكما الى الأخر ويجب الاعتراف به .
ثم قالت ماريا فى نفسها , من أين أتى بكل هذه الأفكار ؟ امن أعماق قلبى , لا،نى رغبت دومآ فى أن يكون الأمر كذلك ؟ أم من أحلامى , من حلمى بالذات كامرأة ؟
أخفضت قليلا حمالة فستانها لكى تكشف عن جزء , جزء صغير من أحد نهديها , الرغبة ليست ما تراه بل ما تتخيله " .
رأى رالف أمامه امرأة سمراء ترتدى فستانا غامق اللون كشعرها , جالسة على أرض الصالون , مفعمة بالرغبات الغريبة , كالرغبة مثلا التى حدته الى اشعال النار فى المدفأة صيفا . أجل , أراد أن يتخيل ما يخفيه هذا الثوب , أن يتخيل حجم نهديها . كان يعرف أن الصدارة التى ترتديها ليست ضرورية , لكنها من مستلزمات المهنة . لم يكن نهداها كبيرين ولا صغيرين , بل كان فتيين , ونظرتها لم تكن لتبوح بشئ . ماذا كانت تفعل هنا ؟ لماذا يقيم هذه العلاقة الخطرة الغريبة ما دام لا يجد أى صعوبة فى العثور على المرأة التى يشتهيها ؟
كان ثريا وفتياً وشهيراً وحسن المظهر وشغوفا بعمله . أحب المراتين اللتين تزوج بهما وأحبناه . كان لديه كل ما يمكن لأنسان أن يتمناه . كان حريا به أن يهتف عالياً ويقول " كم أنا سعيد " .
لكنه لم يكن سعيداً . رأى من حوله الكثير من الناس يتهافتون من أجل كسرة خبز وسقف ووظيفة تسمح لهم بالعيش الكريم , فيما هو يملك كل شئ , وهذا يزيده تعاسة . ألا أنه , من فترة ليست بعيدة , استيقظ لمرتين أو ثلاثة أو ثلاث ونظر الى الشمس , أو الى المطر , وشعر أنه سعيد , فقط لكونه حيآ يرزق , سعيد بكل بساطة , دون أن يطلب شيئا بالمقابل . ما خلا هذه الأيام النادرة , فقط استهلك نفسه فى الأحلام والحرمان والعمل والرغبة فى تخطى الذات والأسفار , أكثر مما يقوى على احتماله . كان متأكدآ من انه قضى حياته وهو يحاول اثبات شئ ما , لمن تحديدآ ؟ وما هو هذا الشئ ؟ لا يعرف .
ظل ينظر الى المرأة الجميلة الواقفة أمامه , والتى ترتدى الأسود الخفر , المرأة التى التقاها مصادفة مع أنه رآها من قبل فى حانة ليلية , فأدرك أنها صعبة المراس . كانت تسأله أن كان يرغب فيها , وهو يرغب فيها كثيرآ , اكثر مما تستطيع أن تتصور . لكنه لا يرغب فى نهديها أو جسدها , بل فى رفقتها . كان يكفيه أن يضمها بين ذراعيه , وهو يتأمل النار بصمت , او يشرب النبيذ , او يدخن سيجارة او اثنتين .
هذه الحياة سلسلة من الأمور البسيطة , وقد تعب من كل هذه السنوات التى سلخها وهو يبحث عن شئ لا يعرف كنهه .
بيد أنه , أن لمسها ضاع كل شئ . رغم " الضوء" المنبعث منها , لم يكن متأكدآ من رغبتها الفعلية فى قربه . هل عليه أن يدفع لها , أن يشترى رغبتها ؟ اجل , وسيستمر فى الانفاق عليها الى أن يتمكن من غزو قلبها والجلوس معها على حافة البحيرة والكلام عن الحب , الى ان يسمع منها الشئ نفسه بالمقابل .
الأفضل اذن عدم المجازفة , وعدم استعجال الأمور , والصمت .
توقف رالف هارت عن تعذيب نفسه , وعاد ليركز من جديد على اللعبة التى اخترعاها لتوهما . كانت المرأة الجالسة فى مواجهته على صواب . النبيذ والنار والسيجارة والرفقة لا تكفى , وينبغى البحث عن نوع أخر من ال
|