{myadvertisements[zone_1]}
 
تقييم الموضوع:
  • 0 صوت - 0 بمعدل
  • 1
  • 2
  • 3
  • 4
  • 5
أجواء رمضانية
محمد سلوم غير متصل
عضو مشارك
**

المشاركات: 16
الانضمام: Jun 2007
مشاركة: #1
أجواء رمضانية
أجواء رمضانية
بعد أن خرجا من الكافيتريا في دمشق القديمة راحا يتسكعان فيها، لم يرغبا بالعودة إلى المنزل، لأن الأجواء كانت ساحرة في تلك البقعة من دمشق؛ المحال التجارية المتنوعة والمطاعم والناس جميعهم يشكلون لونا آخر من ألوان الشام الكثيرة الباهتة، تحتاج فقط لأن تنسلخ من نفسك قليلا وتجرد تلك الحارات من ارتباطها الزماني والمكاني بالمدينة؛ عليك فقط أن تراها لوحدها معزولة عن كل شيء هنا، وأحيانا تضطر إلى الاستغناء عن الناس أيضا لتحصل على جرعة كافية من المتعة كي تسكر وتحلق بعيدا عن همومك وارتباطاتك الآنية الملحة. تحدثا عن كل شيء تقريبا، استنفدا أغلب المواضيع التي تشغل بالهما، ولم يبقى إلا العباد والله وهذا الأخير يغلفه خط أحمر يمنعه من الخوض في هذه المسألة بالذات، لأنها لم ولن تستطيع أبدا أن تتفق معه فيها.
رمضان يفرض حضوره على الجميع، يرسم صورة أخرى للمدينة تعبث فيها الوجوه والأيدي والأجساد الميتة، نوع من الملل كذلك يلف الشوارع والأبنية ويعكس نفسه على الجميع ولا تستطيع المرور شذرا دون أن يعلَق القليل منه بك؛ حين وصلا إلى الجامع الأموي – الشمس تتوسط السماء الشاحبة، إنه ذلك الوقت من السنة عندما ينتهي الصيف ويُخلق الخريف من ثناياه وتختلط الأوراق على الجميع ويضيعون في أجواء من اللاتحديد واللااختيار، تفرض الطبيعة قانونها عليهم وتتلاعب بهم وهم لا يعرفون سوى الانصياع لتلك القوانين الجافة التي تحدهم وتقلص حركتهم وتطليها بنوع من الخمول والنعاس؛ بدايات الخريف الموشحة بحرِّ صيف يموت ويهزل وينشر موته على الكل هناك – وفي الفسحة الكبيرة التي تفصل بين السوق وبين باب الجامع العتيق راح يتقزز من الشمس والتعرق الذي يزعجه كثيرا، وهي تمتص أشعة الشمس بكل جسدها ولا تشبع منها، كان هو يستغرب كيف تعرَّف على تلك الفتاة الغريبة الأطوار والتي لا تتفق معه بكل آراءه تقريبا؛ أراد أن يجرب شيئا جديدا يضفي على حياته المهملة والحبيسة نوعا من الحراك يشعره أنه مازال حيا وأن الحياة بكل ما فيها تستحق العيش أحيانا؛ لم يكن يشعر بأنه يحيا هنا بل وصل به الأمر إلى اعتبار نفسه منشقا من عصبة الحياة، أولئك الذين يأكلون ويشربون وينامون ويمارسون الجنس ويتكلمون ويتكلمون إلى ما لانهاية، وأخيرا أعلن لنفسه الردة وأقام الحد على أفكاره وطردها قليلا ليرى الشمس والقمر والشوارع والنساء كما كان يفعل من قبل، أخذ استراحة منها ليجرب كيف يكون العيش دونها، كان يستشعر عيون المدينة المحدقة به وهي تلاحقه بنهم وإغواء شيطاني، أحس بالخوف والمرار، لأنه كان يشعر بالموت القابع في كل زاوية وكل إشارة ضوئية وكل نافذة، يتربص بسعادته ويخطط لإنهائها، لم يتعود أبدا أن تدعه وشأنه ليراها كما يريد، ليفكر بها دون عبثها بتلك الأفكار، ولأجل كل هذا ظل خائفا من شيء يقف خلف عتبات الأفكار والموت، شيء يحاصر الأشياء هنا ويعطيها ذلك اللون القاتم والمخيف، شيء لا يشبهها ولكنه موجود. قطعا السوق والتفا حول القلعة وهما يضحكان ويمرحان والعيون تلاحقهما مؤنبة، عيون رمضانية مريضة تكره الكون والحياة لوجود مثل هؤلاء الأشخاص الذين يملكون حيزا من الحرية التي يصومون عنها منذ الأزل؛ كان يدخن وسط الشارع وهو يشعر بالنشوة لمجرد التدخين وسط تلك الحشود الصائمة، يراقب العيون بنشوة غريبة، يخاطبها بوقاحة، يحبذها ولا يمل منها، وهي لا تنفك تؤنبه وترجوه أن يرمي سيجارته ويحترم هؤلاء الناس، يتجاهلها ويتابع سيره نحو شارع (الثورة) حيث سيذهب كل واحد منهما إلى بيته.
ينتظران أن يفرغ الشارع من السيارات حتى يتمكنا من الوصول إلى الجهة المقابلة حيث يستقلان الباص من هناك – أراد هو أن يتابعا سيرهما إلى جسر المشاة ويعبران الشارع من هناك، ولكنها رفضت وأصرت على عبوره بأسهل الطرق وأقربها لأنها كانت متعبة من المشي والتجوال، ومن أجل ذلك رضخ لطلبها رغم امتعاضه من إهمالها ولا مبالاتها، ولكنه أيضا أشفق عليها وتغاضى هذه المرة عن مبادئه – كان جمع من الناس يتكتلون هناك يريدون أن يقطعوا الشارع أيضا ، وقف بينهم متوجسا وقرِفا يعد الثواني حتى يخلص من تجمعهم ذاك وتدافعهم، أثناء ذلك اندفعت سيارة (أوبل ستيشن) باتجاه أولئك الناس الذين تفرقوا بأسرع ما يمكن حتى لا تدهس أحدهم. توقفت أمامهم بشكل مائل وفتح باب السائق وخرج منها رجل يرتدي زي شرطي، كان الرجل غاضبا يسب ويشتم- يقف متوجسا من هذا المشهد الغريب- يندفع الشرطي باتجاه الباب الخلفي للسيارة ويفتحه، وإذ ذاك يظهر رجل مقيد متقوقع على نفسه داخل صندوق السيارة الضيق والخوف يتلبسه والرعب من ذاك المهتاج المتوحش، ينهال الشرطي عليه باللكمات والصفعات، أثناءها يخرج رجلان من السيارة، يحملان البنادق ويحاولان تهدئة زميلهما الغاضب وينظران إلى الناس بعيون متوعدة ومهددة. تقترب فتاته منه أكثر وتلتصق به، يحاول الرجل المقيد أن يدافع عن نفسه فاستخدم قدميه لهذا الغرض وعندها أمسك ذلك الشرطي قطعة حديدية تستعمل لفك إطارات السيارة وانهال بها على الرجل الذي راح يتقوقع حول نفسه أكثر وأخذ يصرخ من الألم والرجل مازال يضربه، وكأنه يضرب وحشا أو حيوانا شرسا، اقترب الآخران منه وقد صرخ به أحدهما: ( يكفيه هذا، لقد كسّرت عظامه، أرجع إلى الوراء....) كان الرجل يزبد ويرغي من الغضب، والشتائم تنهال من فمه، وعيونه الجاحظة تنظر إلى ذاك الإنسان المتكور في السيارة تريد التهامه. فجأةً، يوجه رفسة إلى رأسه الذي ارتطم بأرضية السيارة وارتفع قليلا إلى الأعلى ثم ارتخى الجسد كله بعد أن أغمي عليه، أغلق الباب الخلفي وتوجه إلى مقعد القيادة، أدار المحرك وانطلق مسرعا وقد أصدرت الإطارات زعيقا مرعبا نتيجة دورانها السريع على الإسفلت واختفت السيارة بين السيارات المتوافدة من كل مكان قبل وقت الإفطار.
بقي واقفا مكانه لا يتحرك، أراد البكاء ولكنه خجل من الدموع والأحزان، إلى متى؟... نطق جسده مرتعشاً، ولم ينبس بكلمة واحدة، وبقيت فتاته بجانبه تتأبط ذراعه المسدلة نحو الأسفل، تفرق الناس بسرعة ولم يبقى غيرهما للحظات قليلة أحسها آلاف الساعات، أحسها عمرا بكامله؛ يشعل سيجارة ويقطع الشارع.

تأكد وقتها أنها لن تدعه وشأنه، زاد إحساسه عمقا من ذاك الشيء المختبئ خلفها، أحس بقوته وهيمنته.. إنه قواد المدينة العاهرة.
10-12-2008, 12:22 PM
عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}


الردود في هذا الموضوع
أجواء رمضانية - بواسطة محمد سلوم - 10-12-2008, 12:22 PM

الانتقال السريع للمنتدى:


يتصفح هذا الموضوع من الأعضاء الان: بالاضافة الى ( 1 ) زائر
{myadvertisements[zone_2]}
إتصل بنا | نادي الفكر العربي | العودة للأعلى | | الوضع البسيط (الأرشيف) | خلاصات التغذية RSS