عزيزي محب البساطة
عندما اناقش مثل هذه الامور فأني اناقشه من منظور موضوعي خارج ذاتي. ولذلك فالتوجه الى الفكرة وليس الى شخصي او شخصك.

ان القول ان القرآن من عند الله يستلزم القول ان القرآن مُعجز على كل الاصعدة والوجوه وليس بعض الوجوه. وما يقدمه لنا الزميل كميل هنا هو وجه واحد من اوجه الاعجاز الممكن ، هو الاعجاز في النظم.

ماهي النظم القرآنية:
النظم القرآنية هي قدرتها على الإدراك بالكلمة الواحدة، وهي الصورة الجديدة التي جاءت خارج الشعر والسجع والنثر.. غير ان لهذا الاسلوب القرآني مبررات ارضية. العرب لم تكن تعرف الكتاب، وكان القرآن هو الكتاب الاول. وإذا افترضنا ان القرآن كتابة محمد، فقد كان امام محمد (الامي) تحدي كبير في خلق (كتاب) يناسب ان يخرج العرب من اميتهم، ليكونوا ليس فقط من اهل الكتاب، وانما بكتاب ينافس كتب اهل الكتاب. ومحمد تربى في بيئة خديجة الدينية، وهي " اهل كتاب"، وسمع منها بالتأكيد قراءة الكتب الارامية، إضافة الى انه كان على تواصل مع الكتب التوراتية.. وإذا اضفنا الى ذلك خبرته البلاغية والسجعية والشعرية، فإن ظهور القرآن بطريقة النظم اللاهوتية هو اقرب الممكنات..

من هنا، فإن انسجام اشكال التعبير المتعددة في القرآن يتطابق والهدف من القرآن، وانعدام صورة مسبقة لدى العرب عن كتاب عربي. لقد كان محمد هو الخالق الاول للكتاب العربي..

ونرى بوضوح وجود التحدي في القرآن ردا على واقع ان اهل مكة طالبوا ببرهان، وهو امر طبيعي ومشروع. القرآن نفسه يذكر ان موسى كان يشك بالله على الرغم من انه يخاطبه مباشرة، ومع ذلك يطالبه بإحياء الموتى امام عينه حتى يطمئن قلبه. وإذا كان من حق موسى ان يشك وهو الذي يخاطب الله، فلماذا ليس من حق اهل مكة ان يطالبوا بدليل يطمئن قلوبهم؟ اليس القرآن نفسه الذي يقول: " هاتوا برهانكم ان كنتم صادقين"؟

من هنا نرى ان من " واجب" القرآن ان يقدم الدليل قبل الايمان وليس بعده. لايجوز عكس الامور ليصبح الخطاب " إذا كنت مؤمن فعليك التصديق"، إذ يعني ذلك في الجوهر انه " إذا كنت مؤمن فتوقف عن التفكير".

والقرآن نفسه كان عالما بمشروعية التساؤل والشك، ولهذا قدم مصداقيته من خلال آيات التحدي، وليس النظم او البلاغة. وفي سورة يونس : ( أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين )
ومهما كان الامر فإن إلهية اي رسالة لايمكن الا ان تنبع من " كمالها" على جميع الاصعدة، فالكامل لايخرج عنه الا الكمال وهو الدليل.

وللاسف، ينقل لنا التاريخ ان اهل مكة تمكنوا من الرد على آيات التحدي:
ففي الإتقان قال: وأخرج مسلم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أن يهودياً لقي عمر بن الخطاب فقال له : إن جبريل الذي يذكره صاحبكم عدو بنا , فقال عمر : ( من كان عدواً لله وملائكته وميكال فإن الله عدو للكافرين ) (2) , قال : فنزلت هذه الآية بعد ذلك كما قالها عمر (3) /909/ قال : وأخرج سنيد في تفسيره عن سعيد بن جبير أن سعد بن معاذ لما سمع ما قيل في أمر عائشة ( أي في الإفك) قال: ( سبحانك هذا بهتان عظيم ) (4) , فنزلت كذلك 0 قال: وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: لما أبطأ على النساء الخبر في احد , خرجن يستخبرن , فإذا رجلان مقبلان على بعير, فقالت امرأة : ما فعل رسول الله ؟ قال: حي , قالت : فلا أبالي يتخذ الله من عباده شهداء ( تعني قتلى أحد ) , فنزل القرآن على ما قالت : ( ويتخذ منكم شهداء ) (5) 0 وفي الإتقان أيضاً : قال ابن سعد في الطبقات : أخبرنا الواقدي : حدثني إبراهيم بن محمد شرحبيل العبدري , عن أبيه قال: حمل مصعب بن عمير اللواء يوم أحد فقطعت يده اليمنى , فأخذ اللواء بيده اليسرى وهو يقول : ( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ) (6) , فقطعت يده اليسرى , فحنى على اللواء وضمه بعضديه إلى صدره وهو يقول وما محمد إلا رسول إلخ 00 ثم قتل فسقط اللواء 0 قال: وما كانت هذه الآية نازلة يومئذ ثم نزلت بعد ذلك (7)

وكما ترى فإن بشر قالوا جملا فصارت قرآنا...

ونتذكر قول الصحابي الفاضل عبد الله بن ابي سرح الذي قال: إن كان محمد يوحى إليه فأنا يوحى إليّ , فارتد عن الإسلام ولحق بمكة وصار يقول لقريش : إني كنت أصرف محمد كيف شئت , كان يملي علي عزيز حكيم , فأقول : أو عليم حكيم , فيقول : نعم كل صواب , وكل ما أقوله يقول ك اكتب هكذا نزلت (7).

وهذا النجاح قدرة البشر على الاتيان بالسور هو الذي جعل محمد يرفع مستوى مطاليبه الى حدود القرآن بكامله وليس مجرد سورة او سورتين، عندما انزل الاية التي تقول: سورة الإسراء : ( قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً ) (4)

ونحن نعلم، انه لااحد بقادر على الاتيان " بمؤلف كامل" مثل مؤلف اخر ولو كان قصة لنجيب الريحاني، ولو كان الجن والانس ظهيرا لبعضهم البعض..

من هنا فإن مجرد تحدي من هذا النوع غير كافي لحسم مصدر القرآن..

ان كتاب الله يفترض به ان يحقق العديد من المؤشرات واهمها:
1- ان يكون مفهوما من الفئة التي يتوجه اليها، في حالتنا الراهنة الانسان (الفرد) المكلف، منذ بزوغ الاسلام وحتى يوم القيامة.
2- ان لايملك تناقضات منطقية او تشريعية او معرفية.
3- ان تكون صياغته سلسلة، خالية من الاخطاء التواصلية.
4- خاضع لقوانين دماغ الانسان في التواصل وتفادي سوء الفهم التعبيري
5- خالي من الكلمات الغير مفهومة والمثيرة للبلبلة
6- لايحتاج الى تتدخلات بشرية لتفسيره، تسبب دخول فهم مختلف عليه.
7- لايثير اختلاف في فهم تعابيره وتشريعاته، تؤدي الى خلق صراعات عوضا عن ان يكون اداة وحدة
8- قابل للتحقيق، وواضح الرسالة إذا كانت موجهة للفرد ام للجماعة ام للجميع تحت وصاية المجتمع ودرجة هذه الوصاية

وبالتأكيد يمكن ايجاد العديد من النقاط الاخرى، غير ان هذه النقاط كافية كمثال لتوضيح القضايا التي " يجب" ان يحققها قرآن إلهي، يهدف الى خلق الانسجام وليس تأجيج الصراعات واسالة الدم، ليس فقط مع الاخر وانما حتى بين المؤمنين انفسهم..ز

فهل إعجاز القرآن يدل على انتسابه الى الله ام مصدر اخر؟