سوف أقدم لكم إن شاء الله تعالي دراسة وافية عن المذهب الماركسي علي حلقات منفصلة تتناول فشل هذا المذهب وكذب ادعاءاته واستحالة تطبيقه علي أرض الواقع.... فتابعونا.
كما يقال دائماً (التجربة خير دليل)، وقد أثبتت التجارب فشل الماركسية تماماً، كما أثبتت فشل نبوءاتها ككل، فتجارب القرن الماضي وتجارب السنوات الأخيرة كلها كانت قاطعة في الدلالة علي إبعاد العالم في اتجاهه المستمر عن مبادئ المذهب المادي للتاريخ، ولكن المرحلة الأخيرة- مرحلة السنوات القلائل منذ منتصف القرن العشرين- تشير إلي مسافة أوسع كثيراً في الإتجاة البعيد عن المذهب، سواء نظرنا إلي تطبيقاته المتعددة أو نظرنا إلي نبوءاته التي هي أهم من التطبيقات في امتحان الأسس والدعائم التي قام عليها….
فالثابت اليوم أن المذهب الماركسي يحتاج إلي تعديل كبير في مبادئه ا لأساسية قبل وضعه في مواضع التنفيذ، وأنه- مع التعديل الكثير قبل الشروع فيه- لا يزال محتاجاً إلي التعديل بعد التعديل أثناء تطبيقه، ولا يزال كل تعديل من هذه التعديلات الكثيرة يبتعد به مسافة بعد مسافة في الطريق المخالف لطريقه، فلم يبق من الماركسية بعد تلك التعديلات غير أنواع من الشيوعية الديمقراطية تناقض الماركسية في جوهرها، لأن الاشتراكية الديمقراطية بأنواعها جميعاً تقوم علي تضامن الأمة بحذافيرها، ولا تقوم علي انفراد الطبقة التي يسميها الماركسيون (بالبروليتاريا) ولا يشركون معها طبقة أخري….
أما النبوءات المحتومة فقد كذبت جميعاً، وظهر علي الدوام أن نتائج السنين بعد السنين تذهب فيها من النقيض إلي النقيض.
فمن نبوءات الماركسية المحتومة أن البلاد التي تسودها الصناعة الكبري هي أصلح البلاد لسيادة الماركسية فيها، فإذا بالنتيجة الواقعة في كل مكان أن الماركسية أفشل ما تكون في تلك البلاد، وأن هذه الماركسية تسود بمقدار خلو البلاد من الصناعة الكبري، لا بمقدار غلبة الصناعة الكبري عليها، ثم تتغير بها التجربة العلمية لا محالة بعد بضع سنوات، فتتقدم إلي الاشتراكية الديمقراطية وتبتعد عن الشيوعية الماركسية بانتظام واطراد.
ومن نبوءات الماركسية المحتومة أن الثروة تنحصر شيئاً فشيئاً حتي تجتمع كلها في أيدي قليل من أصحاب رؤوس الأموال، وتتجرد الأمم فيما عدا هذه الطائفة القليلة من كل شئ غير القيود والأغلال…
فإذا بالواقع المطرد أن رؤوس الأموال تتوزع بين حملة الأسهم من أصحاب الموارد الصغيرة أو المتوسطة أو الكبيرة بالمئات والألوف، وأن السلطان في تدبير الأموال يتوزع كذلك بين أصحاب رؤوس الأموال وبين خبراء الصناعة وخبراء الإدارة وخبراء التسويق والترويج والإعلان، فلا انحصار علي اطراد،بل توزيع وتنويع في الكفاية والصنعة علي اطراد.
ومن نبوءات الماركسية المحتومة أن العامل المنفرد ينعدم بعد استقرار الصناعة الكبري فلا يتسع له مجال الرزق ولا مجال للغني، فإذا بالعمال المنقرضين يزدادون إلي جوار كل أداة صناعية من الأدوات الضخام، وإذا بالعمال المنفردين يصبحون طوائف وأنواعاً في كل حرفه من الحرف، بحسب الاختلاف والتنويع في الماكينات والأدوات، واختلافهم وهم مجتمعون في داخل المصنع كاختلافهم وهم منفردون متفرقون للاشتغال بصناعتهم في البيوت والأسواق.
وقد صار بطلان هذه النبوءات أقوي الدلائل علي بطلان الأسس التي قامت عليها، وهي تلك الأسس التي أفرط دعاة المذهب في وصفها بصفات التحقيق العلمي، وهي أبعد ما تكون عن التحقيق.
ولو كانت النبوءات مما يبدو قبل مضي الزمن المقدور لها لسقطت الصفة العلمية عن هذا المذهب ولم ير فيه أحد من المحققين محلاً للدراسة الجدية والمناقشة المنطقية ولكن العلماء أعطوا هذا المذهب المتداعي فوق حقه من العناية لأنهم قد اضطروا إلي انتظار النتيجة من تحقيقاته العملية بعد حين، ولأنهم من جهة أخري قد تناولوه بالبحث العلمي عند ظهوره مجاراة لنزعة العصر في القرن التاسع عشر، وقد كان كل شئ فيه أهلاً للدراسة العلمية بعد أن حل العلماء محل الكهان في تصويب الآراء والدعوات.
علي أنهم قد أسرفوا في العناية الجدية بهذا المذهب وهو يحمل أدلة البطلان علي وجهه بغير حاجة إلي التعمق الكثير وراء العناوين…. فإن الدعوي المجردة من السند هي صبغة هذا المذهب التي لا تخفي لي ناظر إليه من النظرة الأولي لأنه يطلب التسليم بالدعوي من التعريف، ثم يجعل التعريف حلاً للقضية قبل ثبوته، وقبل ثبوت القضية من باب أولي، فهو يقرر مثلاً أن الإنسان حيوا منتج ويعتبر هذا الإنتاج هو قوام كل شئ في المجتمعات الإنسانية….
ولكن المسألة كلها لا تبتدئ بالإنتاج، بل لا بد قبلها من صفات أخري في الإنسان قبل الوصول إلي هذه الصفة، وتلك هي:
أولاً: امتيازه بمطالب أخري غير مطالب الحيوان.
ثانياً: قدرته علي تدبير هذه المطالب بالإنتاج.
ثالثاً: إنتاجه لما أراده حسب مطالبه وكفاياته، ثم يأتي الإنتاج بعد ذلك كله محكوماً بمقدماته وليس هو الحاكم لها علي الجملة أو علي التفصيل.
والماركسيون يقررون أن المادة مبنية علي التناقض (الديالكتيك)، ويعتبرون تعريفها بذلك حلاً لقضية التناقض وهو المشكلة التي تحتاج إلي الحل، وليس هو التعريف والحل في آن واحد، كما يقررون أن الطبقة هي الجماعة من الناس التي تخالف مصالحها مصالح سائر الطبقات، ثم يجعلون تنازع الطبقات سبباً لأطوار التاريخ ويطلبون التسليم بهذا التطور بعد اشتراط التنازع من الكلمة الأولي في التعريف….
ولقد ضلوا سواء السبيل عن أقرب الطبقات إلي الطبقة البرجوازية وهي طبقة الإقطاعيين واسمها باللغات الأجنبية معناه طبقة المتنازعين Feudal فكيف يصبح الإقطاعي الذي يحارب الإقطاعي مثله حرب المستميت عضوا في طبقة واحدة...؟؟.. وكيف يصبح التابعون للإقطاعي أعداء له وهم يحاربون في صفة من كان تابعاً للإقطاعيين الآخرين؟؟..!!.
وهكذا يقوم المذهب كله علي تعريفات سابقة لكل بحث وكل تحقيق، وما كان لأمثال هذه الدعاوي من حق في المناقشة الجدية باسم العلم لولا نزعة العصر كله أيام المناداة بها، ولولا أن النبوءات الباطلة التي قامت علي تلك الدعاوي كانت لا تزال في انتظار التجربة الواقعية، التي لا ننتظرها نحن أبناء العصر الحاضر، لأننا نلمس أنقاضها باليدين.
وكل ما بقي اليوم من الماركسية فهو هذه المذاهب الاشتراكية للديمقراطية التي قامت في أرجاء العالم علي غير أساس من دعاوي الماركسيين، وقد تعاد طبعة هذا الكتاب مرة أخري وهو من قبيل الكلام التاريخي المحفوظ بغير حاجة من واقع الزمن إلي برهان عليه، ذلك لأن الواقع الملموس باليدين سوف يغني عن ذلك البرهان.