علامة جديدة على الطريق

بعد أبحاث أوبارين وهالدين قام علماء آخرون بالانخراط في نفس البحث من جديد... وقد كان صاحب أهم أثر نظري في هذا المجال هو هارولد يوري (Harold Urey)... فقد أعاد طرح نظريات أوبارين وهالدين في كتابه The Planets وأعاد الحياة في اهتمام العلماء بالبحوث الرائدة فيما يتعلق بأصل الحياة... ولكن في مجال البحوث التجريبية كان ستانلي ميلر (Stanley Miller) -وهو تلميذ يوري- هو الذي استطاع أن يخطف الأضواء عام 1953.. وبحسب نظرية يوري فقد استطاع ميلر أن يخلق الجو الذي كان مشابهاً لجو الأرض في المراحل الأولية وكان هذا في جهاز من الزجاج محكم الغلق.. وقد ملأ الجهاز ببضع لترات من غاز الميثان والأمونيا والإيدروجين موافقاً بذلك الجو الذي ظن العلماء أنه الجو الذي كان سائداً على الأرض.. وأضاف إلى هذا الخليط قليلاً من الماء واستبدل أثر البرق بجهاز يطلق بعض الشرارات.. كما استعمل لولب كهربائي لتسخين الماء وإبقائه في حالة غليان.. وبعد مرور عدة أيام بدأت تترسب على الزجاج طبقة حمراء.. وعند تحليلها وجدها ميلر غنية بالأحماض الأمينية.. التي تترابط لتكوين البروتينات التي تشكل المادة اللازمة في تكوين قوالب الحياة... في ذلك الوقت كانت تجربة ميلر تعتبر أكبر دليل دامغ على أن المادة العضوية التي يلزم وجودها لبناء قوالب الحياة يمكن أن تتكون من التفاعل الطبيعي بين الجو ومياه البحر لتكوين "الحساء الهيولي"... وبعد هذا الكشف المذهل راح الكثير من العلماء المتحمسين يتنبأون بأنه لن يمضي وقت طويل حتى يتمكن العلماء من تخليق الحياة ذاتها في أنبوبة اختبار... إلا أنه وبعد مرور العديد من السنين اضطر ميلر نفسه أن يعترف قائلاً:
" لقد تبين أن مشكلة أصل الحياة أصعب كثيراً وأشد تعقيداً عما كنت أتصور أنا ومعظم الناس"

لقد تصادف أن تم بنجاح إجراء بحث علمي هام آخر في نفس العام يرتبط أيضاً بنفس الموضوع.. ولأول مرة تمكن واطسون وكريك (Watson & Crick) من فك رموز حامض DNA.. والـــ DNA مع الـــ RNA يكونان القوالب الرئيسية للحياة... وقد أدى هذا إلى تحدَ أكبر في تصور كيفية تكوين الحياة من بعض الأشكال البدائية للمواد العضوية عن طريق الصدفة المحضة حسبما تصور العلماء لتتحول إلى مواد مركبة في غاية التعقيد...

كانت المشاكل ذات جوانب متعددة.. وكان من ضمن الأسئلة التي أثيرت سؤال عن كيفية تحويل المادة غير العضوية إلى المادة العضوية الأولية اللازمة لبناء قوالب الحياة.. وبأي قدر من الصدفة... وبعد العودة إلى تجارب يوري الأولى... وبعد إعادة فحص النتائج المعملية بدقة بالغة لتجربة ميلر اكتشف العلماء وجود عيوب كثيرة الأمر الذي أزال عن التجربة الكثير من البريق الذي كان يلمع فيها...
كان أهم الاعتراضات أن تجربة ميلر تمت في دورق زجاجي بسيط وأنبوبة اختبار.. كما أن الماء الذي كان يمثل مياه البحر قد ظل في ذلك الجهاز عند درجة الغليان.. بينما في الظروف الطبيعية لم تكن المياه لتصل إلى هذه الدرجة من الحرارة.. الأمر الذي كان يستدعي إبقاء مياه البحر في درجة الغليان على مدى مليارات من السنين...

وبالعودة مرة أخرى لتجربة ميلر التاريخية والعاصفة التي أثارتها نجد أنه لم يمر وقت طويل حتى هدأ كل الغبار واستقر على الأرض.. وأثناء الهدوء الذي تلا العاصفة أعاد بعض العلماء تقييم الأمور بهدوء... وكان أحد أبرز هؤلاء هو ديكرسون (Dickerson) الذي أعاد بدقة فحص جميع النتائج والاستنتاجات المستخلصة من تجربة ميلر في مقالته (Chemical Evolution & the Origin of Life) الموضوعية الخالية من أي تحيز... وقد كان من المحتم على ديكرسون أن يقول: "رغم أن التجربة أنتجت الكثير من الأحماض الأمينية الموجودة في بروتينات الكائنات الحية.. إلا أنها أنتجت أيضاً الكثير من الجزيئات التي لا توجد في الأجسام الحية"...

وقد قام العديد من العلماء بإجراء تجارب أخرى على نمط تجربة ميلر واكتشفوا أنه من بين جميع الأحماض الأمينية التي أنتجتها هذه التجارب فإن الفالين فقط هو الذي يوجد في البروتين اليوم.. ولم يحدث أن أياً من السبعة أحماض الأمينية التي تكون بواسطة إطلاق الشرارات الكهربية في هذه التجارب قد تحددت كمُكون للبروتين حسب القانون العام للحياة على الأرض...
وقد أضاف ديكرسون: " ما هو سبب اختيار المجموعة الحالية التي تتكون من 20 حمضاً أمينياً؟؟ هل كانت هناك بدايات فاشلة لها شفرات وراثية معينة كانت تتكون من مجموعة أخرى من الأحماض الأمينية ثم انقرضت وماتت بغير أن تترك أثراً لأنها لم تستطع أن تتعايش مع مجموعات أخرى استطاعت أن تبقى على قيد الحياة؟؟؟"..

وعلى ذلك فإن مهمة تخليق بروتين على أعلى درجات التعقيد من التركيب المتتابع الدقيق وهو المادة الأساسية لتكوين لبنات الحياة مثل (DNA/RNA) من خلال الأحماض الأمينية البسيطة التي أمكن تخليقها في تجربة ميلر... كانت مهمة مستحيلة... وحتى لو قبلنا أنه نظراً لتداخل وتفاعل ما لايعد ولايحصى من الصدف فإن جزيئات (DNA/RNA) قد أمكن تخليقها أخيراً.. فإن المعضلة أبعد ما تكون عن الحل..

وقد قال العالم البريطاني (Bernal) الذي يؤكد على استحالة تكوين جزيء واحد عن طريق الصدفة: "إن تكوين بقية أنواع الحياة عن طريق الصدفة أقل معقولية عن وجود آدم وحواء في الجنة"

يتبع

تحياتي
سلام

تسجيل الدخول
اسم المستخدم:
كلمة المرور:	فقدت كلمة المرور؟
	تذكرني