الدجاجة التي أنجبت فرخاً

بالعودة إلى المعضلة الكبرى التي واجهت العلماء وهي أن الحمض النووي لا يمكن أن يكرر نفسه بغير وجود الأنزيمات.. وأن الأنزيمات لا يمكن أن تتركب بغير الحمض النووي.. وبحسب رأي كل من واطسون وكريك فإن الــ DNA لا يستطيع أن يقوم بعمله بما في ذلك تكوين المزيد من الــ DNA بغير عوامل مساعدة من الأنزيمات أو البروتينات.. والبروتينات لا يمكن أن تتكون بغير الــ DNA الذي لا يمكن أن يتكون بغير البروتينات... وهكذا فإن العلماء عليهم أن يواجهوا مجدداً معضلة الدجاجة والبيضة وأيهما بدأ أولاً.. البروتينات أم الــ DNA ؟؟؟

وللخروج من هذه المعضلة اقترح البعض أن كلاً من البروتينات والــ DNA قد تكونت في معزل عن الآخر وبشكل متوازٍ.. إلى أن حدث بشكل ما أن بدأ كل منهما مرحلة جديدة في الاعتماد على الآخر..
قد يبدو للبعض أن هذا الحل هو ضربة فائقة من العبقرية !!! ولكن حين ننظر في الأمر بتمعن أكثر فإننا لانجد فيه أي أثر للعبقرية.. فقد أغمض أصحاب هذا الرأي أعينهم تماماً عن سؤال هام.. وهو كيف أمكن لكل من البروتينات والــ DNA أن يتكونا ويعملا بشكل متواز في معزل عن الآخر؟؟؟ رغم أن كل منهما في كل مرحلة من مراحل وجوده لا يقوم إلا على وجود الآخر...

هل كانت للصدفة المحضة دور في تضافر كافة العوامل اللازمة لتحقيق نتيجة تبدو أنها غير ممكنة الحدوث؟؟؟ عجيب حقاً.. فإنه بالنسبة للعلماء أصبحت هذه النتيجة ممكنة الحدوث وبغير إشراف منهم على الرغم من براعتهم وعلمهم وخبرتهم..

من الممكن أن يكون قد غاب عن بال هؤلاء العلماء أنه لكي يستطيعوا أن يحققوا نجاحاً في هذا الأمر فإنهم يحتاجون إلى أكثر المختبرات تقدماً وأكثرها حداثة.. وإلى أكثر الأجهزة تطوراً.. بينما من المفروض أن المعضلة المذكورة آنفاً قد حدثت خارج الظروف المحكومة داخل المختبرات.. وهؤلاء العلماء الذين أجروا التجارب المذكورة فعلوا ذلك بالنسبة لمعضلة مماثلة تتعلق بتكرار الوجود الذاتي لمركب RNA من غير وجود البروتينات والأنزيمات التي يجب أن ينتجها الــ RNA بنفسه.. إلا أنهم اضطروا إلى الاعتراف بأن نجاحهم هذا لم يكن نجاحاً على الإطلاق.. ويعترف هورجان (Horgan) بأن هذه التجارب العلمية شديدة التعقيد بحيث لم يكن من المستطاع تقديم تصور معقول عن مشهد واقعي لأصل الحياة..

ويقول أورجل (Orgel)الذي يتفق مع هورجان: " لابد لك من القيام بأمور لا حصر لها بشكل صحيح وأن لا تخطئ ولا في أمر واحد "
ويُعبر هارولد كلاين (Harold Klein) عن شكوكه في إمكانية التعرف على كيفية نشوء الحياة بالكلمات التالية: " إن تصور كيفية حدوثها يكاد يكون مستحيلاً "
ونحن نتفق معه في الرأي .. لكننا نعترض على كلمة "يكاد".. فقد كان عليه أن يعترف صراحة فيقول أنه من المسحتيل تماماً حدوثها بغير وجود الله...

ويرى ديكرسون بأنه وبعد القيام بالكثير من المحاولات للعثور على عملية تكميلية بين تواتر البروتين وتواتر الحمض النووي لم تكن هناك من محاولة واحدة ناجحة... وفي ذكر التعقيدات المتعلقة بتزامن عمليتين متوافقتين تتسبب كل منهما في وجود الآخر.. راح ديكرسون يربط بين هذا الوضع المستحيل وبين معضلة الدجاجة والبيضة.. ولكن الحل الذي قدمه لم يكن حلاً على الإطلاق.. فقد اقترح أن كلاً من البيضة والدجاجة قد نشأ بمعزل عن الآخر وتكوّن بغير الاعتماد على الآخر..

في الواقع فإن جميع من يكنون احتراماً لديكرسون على أعماله الرائدة والتي لا تقدر بثمن في محاولة الكشف عن أصل الحياة.. لابد وأنهم قد دهشوا لمدى سذاجة هذه العبارة... ولعل العذر الوحيد الذي يمكن التماسه لديكرسون أنه قد أعياه التعب وبلغ به الفشل مبلغ اليأس بعد كل محاولاته الطويلة وتجاربه الشاقة للخروج من هذه المعضلة بغير الاعتراف بوجود الله.. ولكن لامخرج لأحد بدون الله تعالى.. فبوجوده تبارك ةتعالى على رأس كل أمر تختفي كل معضلة من الوجود..

إن مشكلة ديكرسون والعلماء الآخرين الذين يتباهون بموقفهم العلماني الرافض لوجود الله تتلخص ببساطة في تصميمهم العنيد على إزاحة الله تعالى من القيام بأي دور خلاق في نظام الكون.. وبالطبع لا توجد في الطبيعة أية معضلة.. لكن المعضلة تبدأ في الظهور لحظة إزاحة الله تعالى خارج نطاق خطة الخلق.. والمثال على مدى الغيظ واليأس الذي ينتاب العلماء نجده في الحل الذي قدمه ديكرسون لمشكلة البيضة والدجاجة.. فهو حقاً إعتراف بالإحباط الشامل والفشل الكامل..

بالإضافة لذلك فهناك معضلة أخرى من معضلات البيضة والدجاجة.. فمن المعروف أن جزيئات الــ RNA تعمل كرسل تحمل المعلومات والتعليمات التي يصدرها الــ DNA فتنتقل إلى أماكن معينة.. حيث تصل هذه التعليمات وتنفذ بدقة متناهية.. وحين حاول العلماء الكشف عن النمط التي اتبعته الطبيعة في تنفيذ هذا العمل لم يندهش العلماء فحسب لمدى التعقيدات التي تمت بها هذه العملية.. بل واجهوا معضلة جديدة.. إذ يلزم أنزيم شاحن ليلحم حمض أميني معين مع جزيء من RNA الناقل الذي لابد أن يُستقبل في الجهة المستهدفة بواسطة Anticodon.. لكن المشكلة هي أن الأنزيم الشاحن الذي ينشط عملية النقل هو نفسه يتخلق بواسطة العملية التي يقوم بها.. وهذا مثال آخر على معضلة الدجاجة والبيضة..

وهكذا كانت كل طريق للبحث والاستقصاء يطرقها العلماء تؤدي بهم إلى نفس المعضلة الأزلية.. ويبدو كأن جداراً سميكاً من الصخر الأصم قد اعترض سبيل البحث عند نقطة معينة.. فلا يمكن تحقيق أي تقدم بعدها..

لقد حاول ديكرسون أن يُخلص نفسه من حصار ذلك الركن الضيق بادعاء أن كلاً منهما قد وُجد وتطور في معزل عن الآخر.. وإذا كان الأمر كذلك فعلينا أن نتصور مشهد البيض وهو يبيض بيضاً.. والدجاج وهو يلد أفراخاً.. كلٌ في معزل عن الآخر وفي خطين متوازيين.. وقد استمرا على هذا المنوال على مدى الملايين من السنين.. وهكذا عاش كلٌ منهما مستقلاً دون الاعتماد على الآخر إلى أن حدث ذات مرة أن أشرق يوم دافئ جميل فكرت فيه الدجاجة أن تضع بيضة بدلاً من ولادة الفرخ الصغير.. وفكر البيض أن يفقس أفراخاً بدل من أن يفقس بيضاً آخر.. وبهذا وصلت القصة إلى نهايتها السعيدة التي كانت في مصلحة كل من الطرفين...

لابد لنا من احترام ديكرسون احتراماً شديداً لخدماته العظيمة التي قام بها في سبيل الكشف عن أصل الخلق.. كما أنه من الضروري تقدير أسلوبه المتوازن غير المتعصب في محاولاته لإيجاد حلول للمشكلات العلمية.. ولكن أن يطرح ديكرسون هذا الحل لمعضلة الدجاجة والبيضة فهو أمر يترك المرء في دهشة محيرة.. ولعله لم يكن رأياً محسوباً يمكن أن يؤخذ على عالم قدير مثل ديكرسون.. بل لعلها كانت مجرد زفرة إحباط وحيرة لنفس قلقة.. أصابها اليأس وغلبها القنوط بسبب استحالة العثور على حل للموقف الذي لا يمكن أن يجد حلاً إلا بتنكيس الرأس خشوعاً وإجلالاً وتقديراً لوجود الخالق عز وجل.

نهاية القسم الأول

يتبع

تحياتي
سلام

تسجيل الدخول
اسم المستخدم:
كلمة المرور:	فقدت كلمة المرور؟
	تذكرني