(1)
تحت وطأة الرصاص المصهور تشتعل المشاعر العربية من المحيط إلى الخليج ، و لا يبدو غريباً أن تتوقف أشكال التفكير العقلاني ، فتحت النار و تحت الموت و الدمار من عسير أن تحاول موازنة مشاعرك و التفكير بعقلانية محضة ، بل قل إنها لجرأة و مغامرة أن نحتكم إلى خطاب عقلاني في مثل هذا الظرف العسير .
أمس كنت في حوار مع رجل طالما اتسم بالتفكير العقلاني الهادئ الرزين و ما أن انفتح الموضوع حتى تدفق كالحمم تحت تأثير جيشان مشاعره متمنياً دخول معركة حسم عربي صهيوني نهائية و الآن الآن مع هذا الكيان الصهيوني معركة نحن أو هم ، واسماً أي خطاب آخر بالتخاذل!
حقيقة لم أتمكن من المشاركة في ذلك الحوار و آثرت الصمت فعلى هذا النحو ليس لك أن تفكر من حيث المبدأ لأن التفكير بالضرورة تحت قعقعة السلاح و خطاب من هذا النوع يتدفق كالحمم و يحمل في ثناياه كل شيء إلا العقلانية يبدو ضرباً من العبث و الجدل البيزنطي خطاب لا يتناغم مع الرصاص و الفسفور الأبيض ، مع ذلك سنحاول أن نقدم قراءتنا هنا لعلنا نجد و لو فسحة بسيطة للتفكير تحت قعقعة السلاح.
(2)
عندما لا يرى العالم ما نراه فهناك أزمة حقيقية على مستوى وعي الحدث ؛ إما أننا نعاني من خلل ما في فهم الحدث و إما أن الآخر يعاني ذلك الخلل و إما أن كلينا بهذا القدر أو ذاك يعاني من فهم الحدث على نحو سليم ، بطبيعة الحال لا نبحث عن التطابق فكل رؤية لها منطلقاتها التكوينية لكننا نروم و لو الحد الأدنى كأرضية قراءة تميز مثلاً أن ما يحدث فيه اعتداء سافر على حقوق الإنسان.
من يتابع الصحافة العالمية عن كثب لا يملك أن يتعامى عن معطى ثابت في فهم الآخر هذا المعطى هو أن حماس تبدو في نظر العالم منظمة إرهابية دينية لأنها تتعامل مع الآخر من منطلقات تكفيرية دينية الغائية و لأنها لم تحاول أصلاً أن توجه لهذا العالم أي خطاب تتوفر فيه الحدود الدنيا من المشروعية و المعقولية و يبدو خطابها دائراً في حلقة مفرغة كأنما تخاطب نفسها ، يكفي أن نستعرض مثلاً مقاطعاً من خطاب مشعل الذي وجهه لشعب إسرائيل و أورد فيه وعيداً عنيفاً مستشهداً على صحة كلامه الذي يوجهه للصهاينة بالآيات القرآنية!
قد يكون هذا خطاباً حماسياً صالحاً للجمهور العربي من قبيل الاستنفار لكنه أبداً ليس خطاباً يوجه لشعب تقود آلته العسكرية هجوماً كاسحاً على غزة على مختلف الجبهات و بمختلف الوسائل يمهد له خطاب يقدم رؤية تبريرية لشعبه فهل سيكون الخطاب الحمساوي المضاد في هذه الحالة و على ذلك النحو تدعيمي لخطاب صهيوني يبرر الحرب على غزة أم انه يحاول نسف أرضية ذلك الخطاب؟!
يبدو لي مستحيلاً و أنا أتابع الإعلام العالمي و في ظل الخطاب الحمساوي المعلن من ناحية و تداعيات الهجمات التي نفذتها القاعدة في ربوع الغرب من ناحية أخرى ، تعديل صورة حماس في الذهن الغربي و لو قيد أنملة واحدة و لا أعتقد أن حماس هي الأخرى حريصة على ذلك إطلاقاً.
(3)
إسرائيل تستثمر التصور الغربي لحماس ببراعة تامة تدعو للتأمل ، و صواريخ القسام التي ترسلها حماس إلى عسقلان و اسديروت توظف إعلاميا على نحو متميز في هذه المعركة لتكرس صورة حماس كعدو للإنسانية و للمجتمع المدني الآمن!
ربما تبدو لنا هذه الصواريخ نوع من التحدي أو اضعف الإيمان في التعبير عن الرفض و نعلم أنها في حقيقتها لا تتجاوز كونها أشياء تشبه الألعاب النارية التي تطلق في الأعراس للبهجة بلونها و صوتها و أثرها النفسي أكثر من كونها أداة فاعلة لإيلام العدو ، لكنها على الجانب الآخر و بفعالية و حرفية عالية تصور عالمياً كأداة رهيبة للقتل! يتم إطلاقها بشكل عشوائي على أهداف مدنية بحتة لتنتج صورة تعمق الترابط بين حماس و الإرهاب بصفته عنفاً ضد المدنيين و ترويعاً للآمنين.
(4)
تحرص إسرائيل منذ أوسلو على إعادة صياغة الصراع ، لا شك أنها استفادت فائدة لا حدود لها من بزوغ صورة الإرهاب الديني تحت لواء القاعدة ، و كذلك من وجود قيادة يمينية النزعة في الإدارة الأمريكية تتسم بتصورات جورج دبليو بوش الدينية المغرقة في الهوس بلا شك خلف هذه القشرة التي ما كان لها أن تترك أثراً ذا بال لولا غزوات القاعدة تختفي بالضرورة مصالح شركات ضخمة هي الأخرى استفادت من هذه الأحداث و هذا الوضع الجديد.
لم تكن لحظة ضرب برجي التجارة في نيويورك لحظة حسم في إنتاج اليمين الديني الأمريكي أبداً فهذا الأخير له تاريخ عريق عانى منه الأمريكيون على سبيل المثال لا الحصر على يد الحركة الماكارثية في النصف الأول من القرن العشرين إلا أن هذه اللحظة مكنته من التقدم خطوات في منظومة تصوراته الهستيرية للعالم و لا بأس أن يحلم جورج دبليو بوش كما روى عنه شيراك - مستهجناً - بالمسيح ينصبه مخلصاً لهذا العالم و جندياً للرب في معركته ضد الإرهاب!
رغم أن الخارطة السياسية الأمريكية لا تقرأ باللحظات التاريخية الفارقة استراتيجياً فهناك بعد مؤسسي عميق و متجذر إلا أن مثل هذه اللحظات تتيح الفرصة لركوب الموجة العاتية و الوصول على رأسها إلى مناطق ربما تبدو محظورة في الفكر السياسي الكلاسيكي كما هو الحال مع التصورات الدينية العبثية و المتسمة بالهوس إلا أن واحدة من مثل هذه الأمواج ركبها بوش كما ركب غيرها اوباما أول اسود يعتلي سدة المكتب البيضاوي فلولا لحظته التاريخية الفارقة التي أنتجت أسوأ أزمة مالية في التاريخ لما كان من الممكن أن يجلس اوباما اليوم على سدة الهرم ، إنها لحظات تاريخية هامة تنتج أمواجا عاتية يمكن استغلالها جيداً لمن يحسن الركمجة.
على الضفة الشرقية للمتوسط كانت هناك إدارة صهيونية أحسنت توظيف الحدث العالمي و هذه الفورة الأمريكية من الغضب في إعادة صياغة سيناريو الصراع ، مستفيدة على نحو استثنائي من التحول الجذري الذي أنتجته حماس لفهم جوهر الصراع في فلسطين عندما حولته من صراع يخوض فيه الشعب الفلسطيني معركة تحرر وطني مشروعة إلى نزاع على ملكية دينية بين اليهود و المسلمين لا يمكن إطلاقا أن يبدو في نظر العالم مشروعاً و إن كان من سيتقبل النظر إليه على هذا النحو فسيفعل كمسيحي فهو إذن لن يؤيد فيه المسلمين ما دامت المسألة صراع ديني فاليهودية أقرب له بلا شك!
في ذات الوقت و تحت رغبة ملحة لمعاقبة فتح على فساد أجهزتها من قبل الشعب الفلسطيني خسرت فتح الانتخابات و ربحتها حماس و لم تعطي إسرائيل طوال عام عباس أي شيء يربح به الانتخابات بإقناع شعبه بجدوى تصوراته فخسرها مع شيء من التقصير أيضا في ضبط مرشحي الحركة الذين اسقط بعضهم بعضا.
(5)
حماس نفسها لم تكن لتصدق أنها فازت، قالها مشعل و غيره لكنها و كما قال مشعل أيضا رغم أنها لم تسعى للفوز وجدت نفسها أمام استحقاق و ستتصدى له.
لم تكن حماس تريد أكثر من الوجود السياسي الرسمي و رغم أن المشاركة هنا هي اعتراف ضمني بأوسلو ذلك أن أوسلو هي من جاء بالسلطة و الانتخابات إلا أن حماس لم تكن تريد دخول هذه اللعبة و لكنها من ناحية أخرى تريد الاستفادة من نتائجها ، انه نفس النهج التقليدي للإخوان كحركة فطالما أنهم يعرفون جيداً أن ما يقولونه بعيد تماماً عن أرض الواقع فلا يحاولون فرضه لأنه "اللامعقول" و لهذا نجدهم دوماً في الدول العربية و رغم قدراتهم الجماهيرية و المادية لا يحاولون دفع الأمور إلى ذروة التصادم أبدا لكنهم أيضاً لا يملكون التراجع عن سقوف خطابهم الإعلامي الديني السياسي و إلا فقدوا ميزات بريقهم الجماهيري فلا تراجع عن هذا الخطاب فهذا بالنسبة لهم هو " اللامقبول".
بين اللامعقول و اللامقبول حرصت حركة إخوان البنا تاريخياً على أن ترسم موطئ قدمها لتقف عليه ، في حالة ذراعها الفلسطينية تحطمت المعادلة و وجدت حماس نفسها في السلطة باعتبارها فازت بالأغلبية و صار عليها أن تتعامل مباشرة مع القضية و تشكل الحكومة.
حاولت الحركة أن تعيد توازنها و تطبق معادلتها و حاولت أن تتملص عبر حكومة وحدة وطنية و ترك عباس يفاوض لوحده لتحافظ على صيغة وجودها الاخواني بين اللامعقول و اللامقبول ، إلا أن عباس رفض أن يكون ممسحة زفر للحركة فوجدت نفسها بين فكي الكماشة و عندها اختارت إما كل شيء أو لا شيء.
(6)
بدأ العالم يخنق حكومة حماس و من لم يشارك في خنقها على الأقل لم يبدي رغبة في التعاون معها ، فليس من المنطقي التعاون معها بالنسبة للنظام الرسمي العربي في ظل الهيجان العالمي على ما يسمى بالإرهاب الديني الإسلامي من ناحية و من ناحية ثانية باعتبارها جزء من حركة إخوان البنا التي تمثل نقيضاً لهذه النظم في الساحة الداخلية لها.
حماس أيضا لم يكن ينقصها التخبط فهناك استحقاقات يومية في الهم الحياتي الفلسطيني لا يمكن لخطيب الجمعة و ضارب صواريخ القسام و معد الأحزمة الناسفة و القنابل البشرية أن يتحول هكذا بطرفة عين إلى رجل دولة ، و لم توفر إسرائيل بعض الرؤوس الحمساوية الناضجة و لو بالحد الأدنى سياسياً لتحرم الحركة حتى من بعض الأصوات التي تبدي شيء من الحنكة السياسية.
من جانبها بدأت فتح معركتها السياسية معها من اللحظة الأولى و لم توفر فرصة دون أن تستغلها للضغط على حماس سياسياً فهي تريد أن تسترد كرامتها التي جرحت في الانتخابات بأسرع وقت ممكن ، أصبحت حماس أكثر عدائية و خشونة و بغض النظر عن مدى صحة مخطط دايتون لإسقاطها أو تصفيتها سياسياً فإن انقلابها على الباقي من سلطة فتح أو صلاحيات الرئاسة لم يبدو سياسياً على شيء من الحصافة و الموضوعية فقد كان من الممكن و هي تواجه تناقضها الخاص داخل صيغة اللامعقول و اللامقبول التي أشرنا إليها أن تستثمر هذا المخطط إن صح للتخلص من ورطتها و عندها تترك لعباس سلطة مدانة شعبياً تفاوض و تلعب ادوار سياسية لا تسمح لها صيغتها الخاصة بلعبها من ناحية و تخرج في المخيال الجمعي بصفة شهيد النضال أو الجهاد المقدس متذرعة بنظرية المؤامرة و تعود لصيغة نضالية مسلحة و سرية ، هذا لو أن حسابات حماس السياسية بقيت كما هي لكن تحولات مهمة غيرت حساباتها جذرياً.
(7)
تعطل المشروع الأمريكي في العراق بشكل خطير أعطى نفساً قوياً لقيادة ما أسمته أمريكا بمحور الشر و على رأسه إيران ، و بدا محور إيران سوريا و حزب الله مستعد لخطوات جديدة إلى الأمام ، عندما تمت تصفية الحريري لبنانياً كتبنا نقول أنه لا يمكن تسوية الأمر دون إعادة ترتيب الساحة بما يكفل مصالح سوريا في لبنان ، و استهجن البعض قراءتنا هذه ، فالبعض كان يرى في تلك اللحظة الفارقة أن ما سمي بثورة الأرز هو نهاية سيناريوهات سوريا اللبنانية و أن عهد الدولة اللبنانية قد بدأ لكن الحقيقة كانت خسارة هذا الرهان و لو مرحلياً و حلم لبنان الدولة المستقلة و المنفصلة عن النظام السوري بدا حطاماً تتم إزالته تماماً مع حطام انفجار موكب الحريري نفسه الرجل الذي كان يجمع و يعد أوراق القوة اللبنانية من أجل مشروع لبنان المستقل هذا فباغتياله و بعودة عون التي سبقت ذلك بكثير أعيد ترتيب رقعة الشطرنج اللبنانية الطائفية و توزيع القوى السياسية عليها.
اضطرت الولايات المتحدة لدفع إسرائيل في مغامرة تموز- يوليو 2006 التي لم تكن إسرائيل متحمسة لها أصلاً ، و رغم أن حزب الله خسر المعركة بحسابات الأرباح و الخسائر على كل المستويات فقبوله القرار 1701 معناه انسحابه التام إلى المناطق خلف نهر الليطاني و القبول بقوات اليونيفيل في الجنوب و الالتزام التام بعدم إطلاق النار إلا أن معركة حزب الله الحقيقية كانت داخل لبنان لا خارجه ، إنها معركة تصفية مشروع الدولة اللبنانية المستقلة و المنفصلة عن الإرادة السورية الإيرانية من ناحية و تجميد موضوع المحكمة الدولية الخاصة باغتيال رفيق الحريري.
عندها وجه نصر الله السلاح الذي طالما تعهد بأنه لن يستخدم لبنانياً أبداً ضد أي خصيم سياسي ليحتل بيروت و بضربة واحدة يحاصر خصومه السياسيين في بيوتهم و يفرض عليهم إرادته السياسية ، فيدخل الدولة اللبنانية المستقلة و غير التابعة لأحد و المحكمة الدولية الخاصة باغتيال الحرير في ثلاجة يعلم الله وحده متى تخرجان منها.
(8)
تدفق المال الشريف العفيف النظيف .......الخ في الجيوب الحمساوية أيضاً و لا بأس في أن يقبِّل مشعل يد آية الله خامنئي و يشعر بدفء فراشه الدمشقي الوثير ، فيخطب و يتحرك من دمشق حيث يجوز هذا لكل إخوان الدول العربية بطبيعة الحال المعارضين لنظمهم إلا الإخوان السوريين فكما نعلم يعاقب كل من ينتمي في سوريا لجماعة الإخوان المسلمين بالإعدام!
(9)
انقشع الضباب الأولي لفوز حماس إذن ، و بدت ملامح المشهد للجماعة بشكل أفضل الآن بعد أن ألقت بثقلها في الحضن الإيراني السوري و شعرت بشيء من القوة و الوزن هنا تماماً و أمام برهنت إيران على قدرتها في تحدي الإرادة الأمريكية في ساحات العراق و لبنان تجلى لحماس مشروع دولتها الخاصة بها في غزة فالمسألة ليست هنا مسألة وطن فالوطن لم يكن يوماً من أدبيات الحركة و على مر تاريخها فليس عجيباً أن المرشد العام للجماعة صرح في يوم غير بعيد من القاهرة قائلاً "طز في مصر" ، و نفذت حماس إذن انقلابها الغزي على صلاحيات سلطة عباس المتبقية و استولت أيضا على الجانب الفلسطيني من معبر رفح و طردت سلطة عباس منه و حزم المراقبون الدوليون حقائبهم و أخلو المعبر فلم يعد من الممكن بحال تطبيق اتفاقية المعابر تحت هذه الظروف التي أنتجتها صراعات الفلسطينيين بين حماس و فتح.
(10)
لم يجد الحماسيون أي غضاضة في التمهيد المعلن لمشروعهم ، كانت المشكلة أنهم يعون جيداً وضعهم الشعبي فأمام النتائج السياسية التي حصدوها و إعادة تنظيم فتح لأوراقها و الحصار على غزة و الاستنكار العام الفلسطيني و العربي لانقلابها لا يمكن لها بحال أن تربح الانتخابات القادمة ، فهي في المرة الماضية و في ظل الظروف السياسية التي كانت وقتها تفوقت بشيء بسيط على فتح في الاقتراع النسبي على أسس حزبية و استفادت بشكل اكبر من المستقلين حيث تبعثرت أصوات الفتحاويين بين مرشحيهم فعززت حماس الفارق لصالحها بشكل جلي ، فإذا كان الحال كذلك في أفضل فرصهم الانتخابية كيف سيكون إذن و الحال هي ما هي عليه الآن؟!
لذا لم و لن تقبل حماس أبدا بالتخلي عن السلطة و لا حتى بإجراء انتخابات تعرف سلفاً أنها ستخسرها مهما حاول عباس إحراجها بالدعوة إلى انتخابات رئاسة و تشريعي معاً.
(11)
أعلنت حماس رسمياً على لسان متحدثها أن مشروعها هو بكل وضوح :"الدولة على أي جزء محرر من فلسطين"
و بطبيعة الحال تعني حماس في أدبياتها بالجزء المحرر غزة بل و تعتبر أنها هي من حرر غزة خلافاً للرأي القائل أن انسحاب إسرائيل منها جاء نتيجة اتفاق سياسي معروف و أن إسرائيل طالما تمنت التخلص من القطاع لأسباب ديموغرافية بحتة.
هكذا نظرت حماس إلى إمكانية تنفيذ مشروعها هذا فهي بعد انقلابها سيطرت كلياً على غزة بل حتى تعقبت خصومها الفتحاويين بكل الوسائل الممكنة لاستئصال شأفتهم فألقت من ألقته منهم من النوافذ و داست على صور الرئيس عرفات بالأحذية و تعقبت من بقي بالسجن و المضايقة الأمنية ، بل حتى منعت الفتحاويين من أي مظهر تعبوي سياسي و لو كان صلاة في مكان عام رغم أن هذا تقليد سياسي تعبوي ديني للإخوان حق ابتكاره عالمياً لكن طالما أن فتح ستفعِّل هذه الأداة فقد اختارت حماس ما اختارته أغلب الدول العربية لمكافحة هذا الأسلوب التعبوي و منعت الصلاة في الأماكن العامة بل و أطلقت النار على ذاك التجمع!
إذن حماس لا تلعب و المشروع المخطط لا مجال فيه لأي نوع من التسويات الفلسطينية الفلسطينية ، بعد ترسيخ هدنتها مع إسرائيل ، و اختارت فتح أن تعالج حماس بالصبر و انتظار الاستحقاق الانتخابي الذي لم يعد بعيداً بل و صار محرجاً و ملحاً لتسوية الانقسام الفلسطيني .
تحت الحصار اختارت حماس أن تتخلص من المشكلة جذرياً بأن تنشق نهائياً بغزة و تقيم عليها دولتها ، و هذه ليست تهمة على أي حال بل هي مشروعها الذي أعلنته بنفسها فهو ليس سراً ، هكذا فإنها غزة أولاً و أخيراً أو حماس ستان كما سماها بعض خصومها السياسيين.
لم تبقى مع الهدنة إلا مشكلة الحصار ، في الذهن الحمساوي تقليدياً ترسيخ هدنة لسنوات طويلة تتيح لحماس فرصة الاستعداد و لا بأس أن تكون هذه الهدنة مع تعديلات ضرورية لتكتمل عناصر الدولة أن تفتح حماس معبر رفح مع مصر بأي ثمن و بشرط واحد وحيد أن لا تشارك في إدارته سلطة فتح و بهذا تكتمل عرى دولتها الخاصة في غزة .
أي أن المطلوب حلحلت الهدنة قليلاً و إعادة صياغة هذه الهدنة بما يترك لها معبر مفتوح مع مصر بأي إدارة تستثني فتح فقط ، لهذا لم تمهل حماس مصر في محاولات تمديد الهدنة و استبقت زيارة ليفني بعشرات صواريخ القسام في محاولة للضغط انه لا هدنة إلا بفتح المعبر و كان مشعل قد أكد هذا من دمشق قبل أيام أيضاً من انه لا تمديد للهدنة مع استمرار إغلاق معبر رفح ، و كانت حماس من قبل قد حاولت الضغط المطلق على مصر و إحراجها عندما اجتاحت المعبر إلا أن مصر تمكنت من احتواء الموقف و فشلت المحاولة ، اللافت للنظر هو توقف إسرائيل متفرجة على المسألة هذه فهل حقاً إسرائيل لا تريد فتح معبر رفح؟!
(12)
اقترحت إسرائيل من قبل أن تعطي مصر وضع إداري خاص في غزة و تصنع تداخلاً كاملاً بينها و بين مصر من خلال توسع سكان القطاع داخل رفح المصرية و العريش ، انه حلم إسرائيلي خاص أن تلقى غزة كلياً و نهائياً في الحضن المصري و بالتالي تلقي إسرائيل تبعات امن حدودها على عاتق مصر ، و هو مخطط معروف و ليس سراً هو الآخر و طالما حاول ساسة إسرائيليون فرضه على العرب و هو تسوية القضية الفلسطينية جذرياً بإتباع غزة لمصر و باقي الضفة للأردن ، لا شك أن الانقسام الفلسطيني الفلسطيني بين فتح و حماس و غزة و ضفة يعمق الشرخ و يسهم بقوة في تكريس انفصال يخدم هذا التوجه الصهيوني ، لا ادري ألا ينتبه أحد إلى إغفال حماس التام للحديث عن الممر الآمن بين غزة و الضفة؟!
ليست خطورة مشروع فصل غزة عن الضفة و إلحاق الأولى بمصر و الثانية بالأردن كامن في نقل الإشكال الفلسطيني إلى مصر و الأردن فقط بل و ذلك هو الأهم أن حل المسألة على هذا النحو معناه تصفية القضية الفلسطينية و إنهاء الهوية الوطنية الفلسطينية، و شعور الإنسان الفلسطيني بذلك سيفجر خاصة في الأردن أزمة هوية حادة بالغة الأثر و سيجد النظام السياسي المصري و بدرجة أعمق و أخطر الأردني نفسه يمارس دور الشرطي القامع للفلسطيني.
بلا شك لا يوجد وطني عربي أردني أو فلسطيني لا يطمح إلى خلق نوع من التعاون الوحدوي الطابع بين الضفتين إلا أن أي منهم لا يمكن أن يتقبله على قاعدة تسوية الهوية الفلسطينية أي انه لا يتقبله من منطلق إلغائي فهو مشروع يبدو مشروعاً فقط عندما ينسق بين دولتين مستقلتين أي بعيد أن تصبح فلسطين دولة عربية مستقلة ذات سيادة و عضو في الأمم المتحدة بهذه الصفة.
(13)
واجه النظام المصري ضغطاً كبيراً و تعرض لاتهامات وطنية فوصف بالتآمر و بالخيانة ، و بغض النظر عن الرأي في أداء النظام المصري مصرياً بل و حتى عربياً فإنه يتصرف برؤية واضحة جداً فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية و يحصن موقفه بإعلان إدراكه لخطورة ما يطلب منه بشأن معبر رفح ، و ليست مهمتنا على أي حال فحص مدى صدقية النوايا إلا أن قبول مصر بالعرض الإسرائيلي المتمثل باستيعاب غزة سواء باتفاق رسمي أو من خلال فتح المعبر بعيداً عن الاتفاقات الأمنية الدولية الرسمية يعد خيانة للقضية الفلسطينية و ليس العكس.
لذا فإن إعادة فتح المعبر لا يمكن اعتباره مصلحة وطنية فلسطينية إلا بالصيغة التي كانت من خلال اتفاقية المعابر بحيث يكون الوجود الدولي طرفاً فيها و باعتبار غزة منطقة فلسطينية محتلة ، كما انه ليس من المقبول بحال تحميل مصر مسؤولية أمن إسرائيل فيما يتعلق بغزة و هي بتمسكها بهذه الصيغة تفرض على إسرائيل أن تتصور حلولاً أمنية لوضع غزة من خلال التفاوض الرضائي مع الفلسطينيين و ليس مع مصر ، فلا يقبل من مصر و لا من الأردن دخول هكذا سيناريوهات و وحده الشعب الفلسطيني صاحب الحق بتقديم هذه الضمانات و بالضرورة هو في المقابل لن يقدمها بشكل نهائي إلا في إطار اتفاق يضمن قيام الدولة الفلسطينية المستقلة و عاصمتها القدس الشريف.
(14)
تحاول قطر أن تمارس أدوارا ضاغطة لدفع الموقف العربي عموماً و المصري الأردني خصوصاً إلى مواقف سياسية تكمن المشكلة فيها أنها تأتي بطريقة الإحراج، و هو أمر بالضرورة يزعج مصر و السعودية علناً كما يزعج الأردن ضمناً.
الواضح من خلال الشعارات التي راحت تطلقها قطر أنها تريد مواقف سياسية يتحملها محور مصر السعودية الأردن على نحو خاص ، فصيغة تفرض مواقف تتعلق باتفاقيات السلام العربية الإسرائيلية و السفارات الإسرائيلية و المبادرة العربية لتسوية النزاع كلها تتطلب موقف من دول بعينها هي مصر و السعودية و الأردن بينما لا نجد أن قطر أو غيرها يشارك في دفع أثمان هذا الموقف المطلوب ، هذا إذا افترضنا جدلاً أن هذا الموقف من حيث المبدأ صحيح و يخدم القضية العربية في هذا الصراع.
التنسيق العربي مطلوب و صناعة مواقف عربية تتسم بشيء من الحدة أيضاً مطلوب إلا أن هذا لا يتم على طريقة دولة الجزيرة بالتهويش و الإحراج الإعلامي و لغة المظاهرات و الشعارات، بل بالتنسيق المشترك و رسم الاستراتيجيات و توزيع الأدوار بشكل صحيح و عملي.
علينا أن نعي أن السلام كان خيار استراتيجي فلسطيني و عربي و إسرائيلي لا يستثنى منه أحد سواء كان مؤمن بهذا الخيار عملياً أو مرغم عليه ، و أنه حتى إسرائيل و هي تستعمل لغة الحرب أو حماس و هي تطلق صواريخها لا تخرجان من صيغة التسوية السياسية و ليس من طرف في هذا النزاع له مصلحة بقطع الخيوط مع الأطراف الأخرى ، لهذا و في هذا المستوى من العنف الإسرائيلي لا تملك لا مصر و لا الأردن أن تغلق سفارات و لا أن تلغي اتفاقيات فهذا سلوك لا يتسم بالعقلانية و النفعية السياسية و سيضر بالقضية العربية و الفلسطينية و لن ينفعها.
أما إذا كان هناك إرادة منسقة عربياً لخيارات غير السلام فالأمر مختلف على ذلك النحو و هو أمر مستبعد و لا يبدو عملياً ، لا نقول إسقاط خيارات المقاومة بل نقول توظيفها و تنسيقها على نحو ايجابي لا كرنفالي و مؤذي لمسيرة الشعب الفلسطيني من اجل الحرية و الاستقلال ، إن التضحيات مطلوبة دائماً في سبيل الحرية لكنها تضحيات في نسق سياسي واضح المعالم يتجاوز التفتت و يأتي في إطار مشروع وطني تحرري حقيقي يتسم بالممكنية أولا و قبل كل شيء ، و إذا كان هو خيار مقاوم فلا تقيموا دولة في غزة و استعدوا عملياً على الأقل بدل أن تبنوا قوات لتنفذ انقلاباتكم تعلموا كيف تحمون الناس بإنشاء الملاجئ لهم و كيف تخفون أنفسكم فليس معقول أن الرجل الثاني في التنظيم سعيد صيام الذي قاد الانقلاب الأسود على سلطة عباس بقواته المنظمة يذهب ليختبئ في بيت أخيه فيكون هدفاً معلناً لطائرات العدو! إن المقاومة في النهاية ليست مشروع انتحار لا فردي و لا جماعي بل مشروع حياة و تغيير خارطة سياسية لتدعيم الموقف السياسي للشعب في مسيرته لتحقيق أهدافه.
و بعد فإن مهرجان الدوحة و ما تبعه من تصريحات لوزير خارجية قطر و حضور المحور الإيراني بوضوح عبر نجاد و الأسد و معه شلة منظمات مكاتب دمشق للخطابة الثورية و المزاودة يأتي كما لو كان محاولة لإعادة صياغة المنطقة كلها بعيداً عن مظلة الجامعة ، و سوريا بقيادة آل الأسد لم تكن يوماً معنية بمظلة العروبة رغم أنها معقل حزب البعث – على الأقل صيرته أداة لها – إلا أن تاريخها حافل بالمواقف المعادية لوحدة الصف العربي خصوصاً عندما يتعلق الأمر بحسابات نظامها المذهبية فليس الأمس ببعيد عندما خرقت الإجماع العربي في دعم العراق ضد إيران في حرب الخليج الأولى ، كما أن تاريخها لا ينسى فيما يتعلق بضرب العراق و رفض الحل العربي لمشكلته مع الكويت مطلع التسعينات مقابل الحصول على حرية اليد في لبنان و حفنة من الدولارات النفطية.
لا يقدم محور إيران الموسع بدولة قناة الجزيرة شيء للفلسطينيين كما قال عباس فشعبه لازال يذبح في غزة من الوريد إلى الوريد، و خطبة مشعل في الدوحة تبدو نوع من التدليس العلني بين مزاعم النصر و رؤيتنا لدبابات الكيان الصهيوني و هي تتمشى في قطاع غزة فلا احترق الأخضر و اليابس و لا كانت غزة مقبرة للصهاينة كما ادعى بالأمس فيما رئيس وزراء حماس يتضرع إلى الله شاكياً ضعف قوته و قلة حيلته و هوانه على الناس! لا اعرف كيف يمتلك مشعل هذه الجرأة على إطلاق الأكاذيب و لا يخجل على الأقل من دماء الأطفال و النساء التي كان يفترض به أن يأتي ضارعاً بها باكياً مصيرها لا أن يخرج علينا بخطاب المنتصر يطمئننا و يدعونا للصبر على مأساة الفلسطينيين على أساس انه هناك ينجز انتصاراً تاريخياً على إسرائيل و أنها تخسر و تتألم و تدفع ثمناً باهظاً !!!!! ففعلاً حسبنا الله و نعم الوكيل على حد تعبير أمير قطر.
إن مشعل في هذا تفوق حتى على السيد نصر الله على الأقل نصر الله حينها اعترف بأنه لو كان يعلم أن هذا سيحدث لما فعل ما فعل و عاد اليوم ليتمسك بأقوى درجات و مستويات الصبر و ضبط النفس التي تدعو للتأمل لهذه القدرة الرهيبة على التحمل و هو ينفي مطلقاً أي علاقة له بأي قذيفة تعبر الحدود إلى إسرائيل و انه ملتزم كلياً بالقرار 1701 بل أكثر من ذلك يرسل السيد بري للمنظمات الفلسطينية ليأمرها بأن لا تستخدم الأراضي اللبنانية فيتورط بذلك نصر الله فقد انتصر الأخير مؤخراً لكن على بقية اللبنانيين و صار سيداً مطلقاً على لبنان الجديد!
لقد ملينا تماماً من طريقة زعماء الهزائم العربية هزيمة طاحنة و سحق على الأرض و ادعاء الانتصارات بعد ذلك أما آن لهذه المهزلة أن تتوقف ؟!
بعد كل هذا الدم الذي أهدر و معانات أبناء غزة ماذا ربحت حماس و ماذا ربح الغزيون ؟ سيقول لنا خطباء حماس غداً أن صمود المقاومة دليل عملي على انتصارها ثم يؤول هذا الصمود على انه وجود قيادات و كوادر حماس بالتالي فهو نفس المنطق بعد كل هزيمة على الأرض طالما أننا موجودون و هنية يتنفس و مشعل يهتف لقد انتصرنا!
طرائف كنت أتابعه بتأمل و ألم عميق و أنا أتابع مهرجان غزة في الدوحة بين لصوص نفط الأمة من ناحية و جزاري شعوبهم الذين يطلقون تظاهرات غزة على أراضيهم و هم مطلوبون لمحاكم الجرائم ضد شعوبهم بما ارتكبوه من إبادات جماعية و آخر جاء يبحث عن شرعية بعد أن نفذ انقلابه على نظام ديمقراطي و هكذا و آخر يسلط إخوان فلسطين ليسيروا وفق إرادته مع انه هو نفسه يعدم الإخوان من مواطنيه و آخر يغمز في قناة النظام المصري المشغول بأمنه الداخلي و شرعيته و ينسى انه بالأمس القريب انقلب على أبوه ليجلس مكانه و انه بلا حدود مع الدولة العبرية كان على رأس المهرولين لإقامة العلاقات مع ذلك الكيان دون أي اتفاقيات يجد نفسه مرغم عليها فليس له أرض يستردها و لا حدود يؤمنها!
الحقيقة كان مهرجان هزلي بامتياز ليس فيه مستفيد أو مبدع إلا نظام ملالي إيران.
ليس هذا انحياز لمحور مصر السعودية الأردن ، لكنه مطالبة لمفارقة حالة المراهقة السياسية من ناحية و العمل تحت العمة المذهبية الإمبراطورية الإيرانية ، لأن المطلوب عمل عربي مشترك و موحد يتسم بالعملية و الواقعية و الفعالية ، يدرس خياراته بحكمة و بموضوعية بعيداً عن الخطاب الذي لا يهدف إلا للمزاودات الكلامية الفارغة ، واضح تماماً أن الحملة يوظفها المحور الإيراني ضد مصر و السعودية خصوصاً و هو محور لا يعنيه الشأن الفلسطيني إلا بقدر أن يربح جولاته في صراع المنطقة ، و ليس مهماً عنده وحدة الجسم الفلسطيني حتى لو احترقت فلسطين كلها ، أين كان محور الملالي و عرفات محاصر في المقاطعة؟!
أين كان و حماس تقود انقلابها و لماذا اخذ صفها ضد عباس؟!
هل من عاقل معني بمصير الشعب الفلسطيني و الدولة الفلسطينية يكرس انفصاله بل و يلح على حماس الخارج أن تتصلب أكثر و أكثر فيما حماس الداخل نفسها لم تعد تحتمل و تبحث عن أي مخرج عبر مصر؟!
لنقرأ ما بين السطور و نفتش عما قدمه هذا المحور الدعائي لشعب فلسطين و هو يسير بكل محاور التفاوض عكس تيار مسير القضية الفلسطينية فلم نسمع أن الأسد ربط بين حصار غزة و مسار تفاوضه عبر تركيا الذي يعلقه اليوم و سيستأنفه غداً لأن غزة و فلسطين كلها ليست على خارطة اهتمامه أصلاً إلا كقضية للمزاودة و التلاعب و تحقيق المكاسب السياسية.
إذا صدق النظام السوري فليفتحها معركة كسر عظم نهائي مع الكيان الصهيوني عبر سوريا فليست تنقصه الحدود و الشعب الفلسطيني لن يزاود عليه حينها لأنه على أي حال في أتون الحرب و لننسى أن نظام آل الأسد ابتداء قام بانقلابه فيما اسماه الحركة التصحيحية أصلاً على خط سياسي كان يرمي إلى هذا النهج فيما سعى الأسد لنهج الدولة و الحدود الآمنة ، فمن لا يقرأ التاريخ لا يمكن أن يفهم الخطب العصماء في سياقها الصحيح أبداً.
(15)
ماذا حقق مسار التفاوض السلمي ؟ و ماذا استفدنا من خيار السلام؟ !
أسئلة استنكارية يطرحها العرب، إلا أن الجواب ليس أبداً: " لا شيء"
في الحقيقة ليس الاعتراف السياسي ثمناً لشيء و هدوء الجبهة السورية مثلاً منذ 73 لن يغير فيه شيء إن كانت سوريا تعترف بإسرائيل أو لا تعترف ، يوماً ما كانت غولدامائير تتساءل مستنكرة :"أين هو هذا الشعب الفلسطيني ؟! لا يوجد شعب فلسطيني"
في الواقع هناك الآن اعتراف دولي بالشعب الفلسطيني و هناك وجود منظم فلسطيني على الأرض الفلسطينية نفسها و مهما بدت الصورة لنا قاتمة فإن المعركة اليوم هي على أرض فلسطين التاريخية و ليست خارجها كما كان الحال من قبل.
حل الدولتين مهما تعثر و مهما حاولت إسرائيل التنصل منه هو حل قبله الجميع و تعهدت به الولايات المتحدة نفسها ، و بعد واي ريفير 2 و فشل مباحثات الحل النهائي في كامب ديفيد 2000 خرج علينا بارك ليقول أننا ضيعنا فرصة تاريخية و أنه لا يوجد زعيم إسرائيلي يمكن أن يعرض على الفلسطينيين ما عرضه هو عليهم في كامب ديفيد 2000 ، منذ سقوطه و مجيء شارون و إسرائيل تعمل بجد على تصدير المشكلة الفلسطينية للعرب بفصل غزة و ربطها بمصر و بناء الجدار العازل تمهيداً لفرض المناطق المعزولة بالضفة على الأردن و ربما توسيع هذا المخطط الطموح إسرائيليا لضم منطقة المثلث العربية إلى الضفة أو ربما طرد أهله إلى الأردن أيضاً ليكون الأردن هو الوطن البديل للغالبية الفلسطينية التي ستسكنه في هذه الحالة.
لا نملك الحقيقة للأسف أي صيغة لما عرضه كلينتون و باراك على عرفات في كامب ديفيد 2000 إلا ما أعلن من أنه يشمل دولة فلسطينية على 97% من الضفة و القطاع ، في نفس الوقت لم نقرأ أو نسمع إطلاقاً من عرفات أي اعتراضات تتعلق بالأرض و المؤكد أنها المناطق التي نص عليها اتفاق أوسلو الذي سبق أن وقعه عرفات و قبل به الفلسطينيين بل كانت الاعتراضات تتعلق بالتنازل عن حق العودة و السيادة تحت الأرض على القدس العربية!
لا اعتقد أن مفاوضاً فلسطينياً يمكن أن يتوقع إطلاقاً أن تمنح إسرائيل حق العودة للاجئين الفلسطينيين لأن هذا ببساطة معناه نهاية دولة إسرائيل و لا نعتقد أيضاً أن مسألة السيادة على ما تحت شرق القدس ليس مشكلة غير قابلة للتسوية على أساس نوع من الضمانات الهندسية ، الجانب الإسرائيلي الذي سار نحو السلام اعتبر أن المشكلة الحقيقية في عرفات الآن لأنه لا يريد تكريس سلام دائم ، بعد ذلك كانت مسيرة شارون اولمرت القائمة على تصور الانفصال الاختياري و عزل الفلسطينيين في كنتونات يصار إلى تصدير مشكلتها إلى مصر و الأردن لاحقاً ، و نحن في الحقيقة لا نعلم ماذا كان عرفات يريد تماماً فقد اعتبر الكثير من انصار كامب ديفيد 2000 فلسطينياً أن عرفات اخطأ في رفض ما عرض عليه ، في المقابل هل كانت عرفات يتوقع أن تعطيه انتفاضة 2000 قوة أكبر يحصل من خلالها عن مزيد من التنازلات؟ أم أنه كان يريد مواصلة مبدأ خذ وطالب على أمل أن تتغير الظروف يوماً ما دون أن يفرض عليه تنازل بشأن حق العودة؟
باراك اعتبر حينها أن عرفات يريد أن يأخذ و لا يريد أن يعطي لأنه يرفض توقيع اتفاق نهائي و انه لن يقدم أي انسحاب بعد الآن قبل توقيع الاتفاق النهائي ، و عرفات أعلن فعلاً انه لا تنازلات بشأن اللاجئين
إن صح ما زعم من أن إسرائيل و الولايات المتحدة عرضت فعلا 97% من الضفة و غزة لإقامة دولة فلسطينية عليها فقد كان رفض العرض خطأ بتقديري ، فليس من المتوقع أن يعطي خط التفاوض السلمي للفلسطينيين آنياً أكثر من ذلك على الإطلاق ، و كان من الممكن تحويل ملف اللاجئين الفلسطينيين إلى ملف دولي يصار إلى إيجاد حلول له عبر مشروع لعودة جزئية و أخرى إلى الدولة الفلسطينية الوليدة و التعويض و التركيز على بناء هذه الدولة الفلسطينية الوليدة بناء نموذجي لتكون دولة ديمقراطية و رائدة اقتصادياً لتكون هونكونغ العرب .
بطبيعة الحال إن أي حلول مهما كانت لا يمكن أن تتوافق مع الحق المشروع بالعودة للأرض التي طرد منها اللاجئين إلا أنه لا تسوية سلمية ممكنة أبداً على أساس العودة ، و أعتقد أننا ندرك هذا جيداً و ندرك أن الهدف الاستراتيجي الذي نضعه نصب عينينا هو إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة أولاً و على أرض فلسطين التاريخية بالذات.
(16)
على أعتاب غزة و آلام غزة ، يبدو أننا أيضاً على أعتاب مرحلة فلسطينية جديدة في سلسلة صراع الفلسطيني من أجل وجوده ، صحيح أنه لا انجازات بدون تضحيات مؤلمة إلا أن المطلوب أن تكون تضحيات الشعب حيث يجب و في الاتجاه الصحيح فحماستان ليست هي فلسطين الإنسان الفلسطيني ، ناهيك عن أنها ليست مشروعاً ممكناًَ و أي تسهيل لمحاولات تصفية القضية بتصدير غزة لمصر و باقي الضفة للأردن جريمة بحق القضية و الشعب و مستقبل الأمة.
المقاومة هي في جوهرها فعل حياة لا فعل موت و المقاومة تحتاج إلى أجندة واضحة تحدد أهدافها المرحلية و المستقبلية و هي جزء من مشروع نضالي و ليست هي فقط المشروع النضالي ، و لا بد الآن الآن من طليعة فلسطينية جديدة لقيادة الشعب الفلسطيني بعيداً عن أرث ممارسات سلطتي فتح و حماس ، طليعة فلسطينية جديدة تقود الشعب نحو التخلص من أخطر ما حل به و هو الانقسام أولاً و تعيد لحمته الوطنية له و تشرع بتكريس دولة فلسطين الحرة العربية المستقلة و عاصمتها القدس الشريف.
المطلوب السير نحو صندوق الاقتراع لتصفية الانقسام الفلسطيني بقيادة طليعة جديدة وطنية قادرة على إدارة هذه المرحلة، و وحدة الشعب الفلسطيني خلف رفض مشاريع تمزيقه و إجهاض مشروع دولته.
محبتي