الانسان من نوع الهوموسابينس ، عندما كان في بدايات بزوغه التي يطلق عليها فترة cro-magnon, وصل ال اوروبا ، على الاغلب، من خلال المضائق الجبلية ومجاري الانهار الواقعة شمال البحر الاسود ومن ثم يتبع طريق على طول مجرى نهر الدانوب.
هذا الامر حدث في احدى الفترات الدافئة من العصر الجليدي الاخير، حيث كان لايزال الماموث ووحيد القرن ذو الشعر الطويل لازالوا يسرحون في وديان اوروبا، وحيث كانت الغابات لازالت تغطي وجه اوروبا.
وخلال محاولتهم استعمار القارة الجديدة، التقوا بإنسان اخر، من نوع اخر. الانسان الاخر ينتمي الى جذور اقدم، ووصل الى اوروبا قبل حوالي على الاقل 200 الف سنة. لقد اطلق عليهم اسم إنسان النيندرتال. ماهذا الانسان، من اين جاء ومالذي حصل عندما التقى بالانسان الجديد؟
توجد العديد من الاثار التي خلفها انسان النيندرتال. حتى الان تم العثور على هياكل عظمية تعود لما يزيد عن 40 شخصا، وهو كثير للغاية. هذا الامر يجعلنا نعرف كيف كان شكلهم على وجه الدقة.
لقد كانوا اصلب واقوى من الانسان الحديث، وبالتأكيد ليسوا انصاف قرود تصل ايديهم الى الارض. نيندرتال عاش فترة طويلة في الشمال، وفوة بينتهم وقصرهم، يعتقد انها تحولات تتناسب مع البيئة الباردة، تماما كما هو الحال مع انفهم الغليظ. لقد كان صدرهم عريض ويتسع لزوج كبير من الرئة.
لقد كانوا يعيشون على اصطياد الحيوانات الكبيرة، مثل الماموث والحصان والوعول، وهو امر يتطلب قوة على الركض والقدرة على التعاون بين بعضهم.
الحسابات تشير الى الشخص الواحد من النيندرتال، يحتاج الى 5000 كيلو من الكلورات في اليوم الواحد في البيئة الباردة. هذا الامر يتطابق مع حاجة متسابق االدراجة في الجبال الفرنسية لمرحلة واحدة.
النيندرتال كان يعرف اشعال النار، ويدفن موتاه، وكان يعرف صناعة الحلي ويستخدمها للتزيين، كما كان يقوم بصبغ نفسه بالالوان المستخرجة من الطين، وتوجد مؤشرات على انه كان يملك لغة.
على الاغلب، عاشت النماذج الاخيرة من النيندرتال في شبه الجزيرة الايبيرية، في اسبانيا الحالية والبرتغال، والاخيرين منهم اختبئوا في مغارات جبل طارق.
كافة الدلائل تقدم صورة مترابطة. لقد جرى إبعادهم الى اعماق غرب القارة، حتى لم يعد هناك منفذ لهم للهروب اليه. مالذي اجبرهم على الابتعاد وترك اراضي صيدهم القديمة والالتجاء الى اقصى القارة الاوروبية، غير القادمين الجدد؟
ولكن مالذي حدث فعلا؟ حل هذه المعضلة له اهمية كبيرة في كيفية رؤيتنا لتاريخ تطورنا، ولنعرف من نحن فعلا. وكما هو الامر دائما عندما يجري النقاش عن تاريخ تطور الانسان، يكون النقاش حاراً
احدى السناريوهات، ان الانسان الحالي والنيندرتال التقوا عدة مرات وفي مناطق مختلفة على مر الزمان، وفي ظروف مختلفة. احيانا ادت هذه اللقاءات الى صراع واحيانا اخرى ادت الى انسحاب احد الطرفين وتفادي الاصطدام، او الاختباء خوفا.
ولكن بعض اللقاءات لربما حدثت في ظروف خاصة، بحيث نشأت علاقات جنسية، لربما بنتيجتها نشأت مجموعات مختلطة الدم. احد العلماء الذي يعتقد بهذا السناريو يشير الى انه وجد مخلفات عظمية لمثل هذه الجماعات " الهيبريد".
هذه اللقية لبقايا هيكل طفل ، من منطقة تسمى "Lagar Velho", تقع في البرتغال. وايضا على اساس بقايا لهياكل عظمية من مناطق سكنها النينورتال في رومانيا وتشيكيا، كنموذج على " الهيبريد". احد المؤيدين لنظرية " الهيبريد" هو العالم الامريكي Erik Trinkaus.
حسب التفاصيل التي يقدمها ايريك، تملك هذه الهياكل سمات مكتسبة من النيندرتال والهوموسابينس على السواء، او كما يقال "سمات تنحرف عن سمات النيندرتال الكلاسيكية". انها تتميز بكونها اكثر انسيابية واقل حدة من ملامح النيندرتال التقليدية، في حين لازالت تحتفظ بسمات تقليدية اخرى، مثل الاسنان الغليظة او الانحراف الكبير للرقبة التي تميز هياكل النيندرتال.
تأكيد علاقة جنسية من هذا النوع بين النوعين يمكن استنتاج العديد من الاستنتاجات، مثلا، ان هذه الامور كانت علاقات استثنائية وليست القاعدة، او انها كانت القاعدة. وان هذا الامر ادى لى ذوبان النيندرتال في الحوض الجيني للهوموسابينس، ليفسر اسباب اختفاء النيندرتال الكلاسيكي. ومثل هذا الاستنتاج يعني ان الانسان الاوروبي قد حصل على " إضافات جينية" من النينرتال ميزته عن بقية شعوب الارض.
غير ان الإدعاء ان النينرتال يعيش في جيناتنا، اصبح إدعاء نادر. بالذات بسبب تزايد معلوماتنا عن الخريطة الجينية للانسان وللنيندرتال. تحليل الحمض النووي لمختلف شعوب الارض تشير الى صورة اننا جميعا " اقرباء"، وننتمي الى جذر واحد يعود اصله الى افريقيا، وقام بالهجرة قبل 60 الف عام، لينطلق الطريق الى التنوع.
ولكن اين يقع مكان قرابة النينرتال مع شجرة عائلة الانسان؟ الجواب على هذا السؤال اصبح اليوم اكثر وضوحا، وقريبا سيحصل على جوابه النهائي. العالم السويدي Svante Pääbo, العامل في معهد ماكس بلانتش في المانيا، احد اشهر الاختصاصيين في دراسة وفك شيفرة الاحماض الامينية ذات الجذور القديمة. منذ عام 1997 نجح العالم السويدي Pääbo ومعاونيه في قراءة جزء من شيفرة الحامض النووي من ميتاكوندري يعود الى نيندرتال عُثر عليه في Feldhof, الالمانية عام 1856. التحليل اظهر ان النيندرتال لايمكن وضعه في اي من المجموعات التي جرى تقسيم الانسان الحديث اليها، على اساس الحمض النووي. هذا يعني ان النيندرتال اقدم من الانسان الحديث، وبالتالي فهو قريب اقدم.
عام 2007 جرى نشر فس دراستسن مختلفتين، نتائج تحليل كامل لحمض نووي قادم من ميتاكوندري عائد لنيندرتال، عُثر عليه في كرواتيا. لقد أظهرت الدراستين انه لايوجد " علاقات جنسية" بين النوعين، ولكن ذلك لم يعني حسما أكيداً للامر.
الحمض النووي للميتاكوندري، هي المعلومات الوراثية الموجودة في وحدة انتاج الطاقة الخلوي داخل الخلية، والمعلومات الوراثية في الميتاكوندري يجري تناقلها وراثيا فقط عن طريق الام. هذه المعلومات لاتقدم الكثير عن الاختلافات الشكلية بين مجموعتين، ولكنها تقدم معلومات كافية لمعرفة شجرة انحدار العائلة من جهة الام، وبالتالي درجة القرابة.
في عام 2006 قام العالم السويدي ومجموعة ابحاثه ببدء وضع خريطة شاملة للمورثات الجينية لدى النيندرتال. وهنا ايضا يجري استخدام بقايا قادمة من هيكل يعود الى 38 الف سنة، جرى العثور عليه عام 1980، في مغارة Vindija, العائدة لكرواتيا.
نتائج هذه الخارجة سيجري مقارنته مع خارطة الجينوم الانساني، من اجل ايجاد نقاط الاختلاف التي تجعلنا مانحن عليه، بالمقارنة مع اقربائنا من النيندرتال او الشيمبانزي. إضافة الى ذلك سيظهر فيما إذا كانت لدينا مورثات ورثناها عن النينرتال وكانت خافية علينا. من المتوقع ان تكون النتائج جاهزة عام 2009، ولكن بعض التقارير المبكرة اثارت الاهتمام منذ الان.
في اكتوبر من عام 2008 جرى الاعلان عن إكتشاف من جهة، " جين اللغة" المسمى FOXP2, عند انسان النيندرتال، ومن جهة اخرى جين مسمى mc1r, الذي وعند وجوده بزوج يكون جلد صاحبه ذو لون فاتح وشعره احمر، تماما كما هو شكل سكان غرب اوروبا اليوم.
لازال مبكرا معرفة وظيفة " جين اللغة" ، ولكن هناك إعتقاد انه يؤثر على قدرات الكلام. "جين اللغة" عند النيندرتال ظهر انه نفس نسخة الجين عند الانسان، فهل يمكن ان يكون قد جاء الينا من عند النيندرتال؟ غير ان اغلب المعطيات تقول العكس. على الاغلب كان هذا الجين موجود لدى اجدادنا المشتركين، من المحتمل قبل 800 الف سنة.
على العكس، نجد النيندرتال يملك جين " الشعر الاحمر" خاص به، اي لايتشابه مع نموذجنا منه. هذا يعني ان جين " الشعر الاحمر" تطور لديه بشكل منعزل ، تماما كما حصل لدى الانسان الاوروبي، من اجل التلائم مع بيئة باردة وقليلة الاشعة الشمسية، بحيث يتمكن الانسان الحصول على فيتامين د بطريقة اكثر فعالية في ظروف البيئة المظلمة.
ولكن، هل يعني ذلك انه ليس فينا اي اثر مهما صغر من جينات النيندرتال؟
يقول عالم بيلوجيا التطور Lars Werdelin, " إذا حصل اختلاط جيني بيننا، فعلى الاغلب في حدود ضيقة للغاية وحالات فردية لم يكن لها اي إنعكاس مؤثر. نحن لانجد اي آثار جينية تدل على الاختلاط، عدا بضعة علائم غير مؤكدة وثنائية المعنى، إضافة الى ان بعض الدلائل يمكن ترجمتها بطريقة ذاتية، مما يفقدها مصداقيتها".
وجهة نظر لارس ويرديلين هي الشائعة اليوم في الاوساط العلمية المعنية. اللقاء التاريخي بين النيندرتال والهوموسابينس تظهر تغييرات واسعة في المستوى الثقافي ايضا. منذ بدء علائم اللقاء نجد ان هناك تغييرات واسعة جرت على الادوات التي كان يستخدمها النيندرتال وعددها. تزايدت اللقى التي عثر عليها الباحثين في مواقع سكن النيندرتال من العظام التي عليها رسومات والحجار المصنوعة والعديد من الوسائل الاخرى. هذا الامر يعتبر مؤشر اضافي على قدوم الانسان الحديث.
ولكن مالذي حدث عند التقاء الطرفين؟
على الاغلب، وغالبا لم يحدث الكثير، بل كانوا يسعون لتفادي بعضهم البعض. هاتين المجموعتين مروا بتطور مختلف ومنفصل على مدى نصف مليون سنة. لم يكونوا مختلفين جسديا فقط، بل وثقافيا ايضا، وهذا الخلاف كان على الاغلب اكبر بكثير مما يمكن لنا تصوره اليوم. انتمائنا يقوم على الاساس الثقافي، وهو الذي يحدد شخصيتنا. في ذلك الوقت كان كلا الطرفين جماعات من الصيادين وملتقطي الثمار. مانعرفه اليوم عن مثل هذه الثقافة ان ابناءها يتفادون الاختلاط الا في المواقف العصبية للغاية.
الشعوب التي تحيا على الصيد، تشير الى نفسها على انها " الانسان"، في حين تنظر الى الاخرين على انهم " الغرباء او العلوج ". ان مايجمعهم ويتعاونون في إطاره هو العشيرة، ولايعرفون رابط اخر. مع الجماعات الاخرى تكون علافاته على الاغلب متوترة مع جرعة كبيرة من العدائية. هكذا كانت العلاقات بين مجموعات قريبة للغاية من بعضها جينيا، حيث ان الجد المشترك للهوموسابينس له من العمر كحد اعلى 150 الف سنة. في حين ان جدنا المشترك مع النيندرتال له من العمر 700-800 الف سنة. عندما التقى هذين النوعين في اوروبا في العصر الجليدي، بعد هذا الوقت الطويل من الانفصال، لابد انهم كانوا بالنسبة لبعض كمن هبط من السماء.
هذا الامر يجعلنا نعتقد ان كل منهم كان يتفادى الاخر. لاتوجد علامات تشير الى حدوث حرب بينهم، على الرغم من انها لربما حدثت. ولكن، في غالب اللقاءات كانت احدى المجموعات تنسحب بهدوء وتغادرالمنطقة، حيث كافة المعطيات تشير انه عندما كانت آثار احداهم موجودة تختفي اثار الطرف الثاني. ببطء سيطر الهوموسابينس، لكونه كان افضل في استغلال الموارد المتوفرة. لقد كانوا اكثر ديناميكية، ويملكون وسائل افضل، ولديهم شبكة اجتماعية اعلى، وقادرين على التلائم اسرع.
النيندرتال لم يموت على الفور. لقد كان الموت يحصدهم بجماعات صغيرة ومتواترة. كلما كانوا ينسحبون من اراضيهم الى اراضي اقل جودة، كانت الموارد تنقص. في النهاية كان كافي ان يمر عليهم شتائين قاسيين متتالين ليقضي على بقاياهم.
المجموعة الاخيرة منهم عاشت في المغارات الاسبانية في ذات الوقت الذي وصل العصر الجليدي الى اقصى امتداد له. جبال الجليد غطت مناطق شمال اوروبا والجنوب تحول من مناطق مغطاة بالغابات الى مناطق جافة مكشوفة. كلا النوعين الانسانيين تقلص عددهم بالترابط مع تقلص الموارد والغذاء. في مثل هذه البيئة القاسية ليس هناك مكان الا لنوع واحد.
للكاتب طريف سردست