عزيزي العاقل
ما تفعله هو تكرار فرضيات ومقدمات لا دليل عليها، ومحاولة ترتيبها بشكل يوحي أنها محاكمات منطقية تقود إلى نتائج لا جدال فيها، والواقع أن الكثير مما تعتبره بديهياً ومسلماً به لا يصمد أمام الجدل.
كلامك يدور ضمن الأطر التقليدية من بلاغة القرآن والعلم الذي جاء به وبعض القرائن التاريخية، وسأحاول الإجابة على كل منها.
بالنسبة لبلاغة القرآن، حجة كثيراً مما تتردد وهي أضعف بكثير مما يظن البعض. أولاً، تقييم اليلاغة والأدب لا يقوم على مبادئ علمية أو منطقية بحيث يصدر فيها قرار نهائي جازم، يل تتدخل فيها عوامل الذائقة وتختلف حسب المعايير المطبقة. هل تخبرني ما هو دليلك على أن القرآن هو أكثر الكتب بلاغة في العربية؟ هل هناك معايير موضوعية تثبت ذلك؟ لا أنكر بلاغة القرآن وروعة أسلوبه، ولكن لا يمكن الإنكار أن بلاغته تتفاوت بين آية وأخرى. ومن ناحية أخرى، فهناك الكثير من الإبداعات الأدبية القديمة والحديثة في اللغة العربية مما يجاري بلاغة القرآن ويتفوق في رأيي على كثير من آياته.
تقول " وهذا يعني ان الاسبق دائما اقوى بالتعبير وسليقته افضل .. فنادرا ما تجد شاعرا في زماننا افضل من امريء القيس او المتنبي .. ومع كون محمد اوسطا بين العرب”
هل المقصود أن الأسبق زمنياً أكثر بلاغة؟ هذه فرضية هزيلة لا أدري ما دليلك عليها. على العكس، المعروف أنه مع تطور الحضارة وتراكم الخبرات الأدبية يرتقي مستوى التعبير وتتسع آفاق الأدب.
اقتباس:
2- ان من جاءوا بعده من الشعراء لم يستطيعوا ان ياتوا بمثله ....
3- ان هذا التحدي لو كان من ذات محمد لكان للغباء اقرب منه الى الغرور .. فكيف يدعوا بدعوة ربما يحتمل ان يخرج من يرد عليه قوله .. او ينقض تحديه ..
ومن هم الشعراء الذين يجرؤون على أن يأتوا بمثله؟ ومن يحميهم من خطر التنكيل والاضطهاد؟ لا أظنك ستحدثني عن "يا ضفدعة على ماذا تنقين"، وغيرها من الأمثلة السخيفة التي يكررها بعضه البسطاء دليلاً على استحالة مجاراة القرآن. ثم ماذا تقصد بمثله؟ وما هو معيار التقييم؟ قلت لك أن هناك الكثير من النماذج الأدبية مما يتفوق على بعض آيات القرآن. أما إذا كنت تقصد أن التقليد يجب أن يحاكي القرآن في إسلوبه وصياغته، فهذه محاولة محكوم عليها مسبقاً بالفشل، لأنكم ستقولون أن القرآن أفضل وأرقى لأنه الأصل، والتقليد يظل دون الأصل لمجرد أنه تقليد. وإذا كان الادعاء أن تميز القرآن يعود لابتكاره أسلوباً فريداً لا يشبه ما قبله، فكلام الأحناف وبعض كهان العرب يشبهه في الصياغة والأسلوب.
ولنفرض بعد ذلك كله أن القرآن أكثر الكتب بلاغة في العربية، فهل يعني ذلك أنه من عند الله؟ شكسبير مثلاً يعده الكثيرون أعلى أمثلة البلاغة الإنكليزية، ويتعجبون كيف استطاع هذا الرجل المحدود التعليم أن يبدع تحفة أدبية بعد أخرى ما زالت تتحدى مبدعي اللغة الإنكليزية حتى اليوم. ولهذا يقولون أنه عبقري، ولكن لا أحد يصفه بالنبوة. وكذلك هوميروس في الأدب اليوناني، وملحمتيه ما زالتا قمة هذا الأدب حتى اليوم، رغم أن الكثيرين حاولوا التقليد وفشلوا، فهل كان هوميروس نبياً؟ أما إذا قلت أن النبي كان محدود التعليم، أو حتى أمياً، فشكسبير لم يتلق سوى تعليم ابتدائي. ولماذا نذهب بعيداً؟ كان العديد من فحول الشعر الجاهلي أميين، وكنوا يؤلفون مطولات القصائد بشكل شفاهي صرف.
ما يتوجب عليك لإثباته ليس هيناً، وقضية البلاغة القرآنية مقياس ذاتي وغير موضوعي أبداً، وهو أضعف من أن يثبت مسألة بهذه الخطورة.
والموضوع جرت مناقشته سابقاً، وليتني وجدت الرابط المناسب للموضوع.
اقتباس: نيا .. ان من يقرا القران .. يدرك ان مصدره على قدر من العلم ... وهذا ما لا يختلف عليه اثنان ... فهل كان محمد على هذا القر من العلم ... حين نطق بالقران ...؟؟
كما تدل على أن مصدره على قدر من الجهل. والأمثلة ذكرت من قبل ولا أريد التفصيل فيها الآن، خلق عظام الجنين قبل اللحم، خلق الإنسان من "ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب"، وآيات القرآن في وصف السماء والأرض وغيرها. ثم ما هو العلم المتميز والسابق للآوان الذي جاء به القرآن؟ الكتاب يعكس معتقدات العصر الذي نشأ فيه ولا يزيدها شيئاً، مثل بعض ما ذكرته مسلمة في البداية من ضيق الصدر عند الصعود في عل و أن الشمس والقمر يَسبحان في هذا الفضاء، الخ.
حول الوضوع الأزلي، أمية الرسول.
اقتباس: 1- انه كان امي لا يقرا ولا يكتب ... والدليل قوله تعالى .. (( وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ))
ما هو المقصود بالكتاب في الآية، هل هو أي كتاب بالمطلق؟ أم المقصود بذلك هو كتاب من الكتب السماوية؟ أعتقد أن المعنى الثاني هو الأصح، والغرض أن الرسول لم يكن كاهناً ولم يكن له سابق علم بالأديان السماوية. ولكن هل يعني ذلك أنه لم يكن يقرأ أبداً؟ لا أظن ذلك، فالآية تخصص، ولا تعمم على كل الكتب. ترى لوقلت لك أن فلاناً لم يكتب ذلك الكتاب ولم يخطه بيمينه، هل يعني ذلك أنه لا يحسن الكتابة أبداً؟
على كل حال، سبق وقلنا، الأمية لا تثبت شيئاً لأنها لا تتناقض مع البلاغة، ولأن معلومات القرآن لا تزيد عما كان معروفاً في بيئة محمد.
ورقة توفي بعد عدة سنوات من بدأ البعثة. ثم مالذي يمنع، كفرضية على الأقل، أن يكون محمد قد تعلم منه مبادئ الدين المسيحي قبل وفاته، إذا كان يعرفه منذ زواجه من خديجة قبل خمسة عشر عاماً، وهي مدة أكثر من كافية. والقول "لسان الذي يلحدون إليه أعجمي" ليس دليلاً، إذ يمكن القول أن محمداً كان يستقي معلوماته من مصادر مختلفة ثم يصوغها بأسلوبه.
اقتباس: 2- كما ان السماع منتف عن الرسول اذ ثبت في الخمسة عشر سنة السابقة لبعثته .. كان يخلد الى الوحدة والعزلة والتحنث .. وهذا ينفي وجود السماع الى اصحاب العلم الذي اثبتنا انه لو وجد لما اهله الى الوصول لهذه الدرجة من العلم ....
لم أفهم ما علاقة الاعتزال والوحدة بسماع العلم. وإذا كنت تريد أن أحدد لك
أين كان محمد يتلقى العلم أقول لك لا أدري، ولا أظن أن لهذه القضية في ذاتها أية أهمية.
ثم لماذا تصر على أن مجتمع مكة غير مؤهل للعلم بهذه الأمور؟ ألا يكفي وجود اليهودية والمسيحية في الجزيرة، ووجود رهبان وقسيسين، وغيرهم ممن سافروا واطلعوا على أديان أخرى ووجودهم في مكة نفسها، وبعضهم ممن كان يعرفهم الرسول شخصياً؟ لا أدري ما هي المؤهلات التي تبحث عنها؟
وأخيراً بالنسبة للحجج التاريخية، فقد سبق وذكرت أعلاه نقطة أراها محورية، ولا أدري إذا كنت قد قررت تجاهلها، وهي أن جميع مصادر التاريخ الإسلامي الموجودة لدينا كتبها المسلمون بعد انتصار الأسلام، وفي مجتمعات إسلامية تحكمها أنظمة إسلامية بإسم الدين والشريعة. وبالتالي، لا يمكننا أن نعتبر السيرة النبوية والأحاديث وما شابه مصادر موضوعية ومحايدة، وهذه حقيقة يجب أن نضعها نصب أعيننا (كما تقول كتب النحو) إذا ما أردنا أن نتحدث عن الظروف التاريخية لنشأة الإسلام.
تحياتي