إنهم جميعاً يحاولون تجنبي.
عندما أقترب أو أمشي في الجوار يبتسمون لي، وأكثرهم جرأة يتظاهرون برغبتهم في انضمامي إلى مجالستهم.
ولكني أقرأ عيونهم ، وأشعر بأنفاسهم.
إنهم يحاولون تجنبي، ويخافون مني أيضاً.
هذا لأني أحمل خطاياهم كلها في ملامحي، وعندما أتكلم، يستطيعون سماعها في نبرات صوتي.
أنا أتحدث عن كسر الصمت.
الصمت سر مقدس، وعالم بذاته، لايحب من يكسره بفجاجة، ولكنه لا يمانع في أن يتدرج إلى أسفل بنعومة، من صمت مطلق إلى أفكار تهمس من بعيد، ثم تقترب رويداً دون إثارة ضجة، ثم تتسلل إلى الحنجرة تسلل الحقنة المخدرة، حتى تنتهي بالعقل نحو هبوط ناعم وانسيابي في دنيا الكلمات والأصوات.
فتصدر نغمة موسيقية لا إرادية عن الحنجرة في لحظة شرود، قد تعقبها حركة خفيفة، وربما ضغطة لطيفة على العينين أو تمريرة باليد على شعر الرأس.
الصمت لا ينتهي بالكلمات فقط.
في القليل من المواقف كنت شارداً في تفكير عميق، ولم أكن أتوقع أبداً أن أحداً يمكنه أن يجرؤ على مقاطعتي دون أن يفقد شيئاً من كرامته، ولكن ما يحصل هو أن أجد فجأة كوباً من الكاكاو الساخن يتسلل أمامي ثم يتبعه وجه أنثوي مبتسم، لا أتذكر الآن صاحبته. أو رائحة ناعمة تأتي من الجوار – أنثوية أيضاً ، دائماً أنثوية.
مثل هذه الأشياء يمكن لي أن أسميها : النهايات السعيدة للصمت.
ولكن بالطبع نحن نعيش في هذا العالم المأساوي، وللصمت أيضاً نهايات بشعة ومأساوية لا ترصدها فضائيات أو صحف وكثيراً لا تدركها العقول أيضاً. وهذه النهايات العنيفة عادة ما كانت تحصل لي بواسطة شخص في البيت.
دائماً ما أتصور أن لدى كل منا شخص في البيت.
إنه دافع قوي من دوافع الجنون يتنكر في صورة فرد من أفراد العائلة، ويتظاهر بأنه يحبنا بقوة، حتى يشل قدرتنا على مقاومته وسحقه. بينا يدفعنا كل يوم نحو الحافة – حافة الجنون – أكثر فأكثر، بأسلوب احترافي يستحيل على الضحية اكتشافه ، فضلاً عن إدانته.
وفي الحالات النادرة، عندما تتنبه الضحية إلى هذا الجنون المتخفي في زي فرد من أفراد العائلة، فإن إقناع الآخرين بحقيقته يصبح مهمة خارج قدرة البشر.
في حالتي فإن الجنون المتنكر على هيئة شخص في البيت كان يستعمل معي أسلوب كسر الصمت.
وكما قلت في البداية، الصمت مقدس للغاية لا يطيق من يكسره.
ومنذ طفولتي المبكرة وأنا أحب الصمت، وكثيراً ما كنت أستغرق في عالمه، وفي هذه النقطة تحديداً كان الشخص في البيت يلعب لعبته، ويدق على هذا الوتر لسنوات طويلة.
الشخص في البيت كان يحب تقليب قنوات التلفاز، حتى في عصر ما قبل الريموت كنترول، وعندما كانت الصورة بالأبيض والأسود.
وعندما اخترع الريموت كنترول لأول مرة، سارع الشخص في البيت باستعماله، وهكذا بدأ الجنون يعمل بحرية أكثر.
في غمرة الصمت والتفكير أفاجأ بصوت حاد جداً كضربة الفأس في الرأس يصرخ:
" حرام حرام عليتش، ليش تعاملني هالمعاملة، أنا ويش سويتلك".
أنتفض من مكاني كمن مسه جان وأنظر نحو الشخص في البيت فأجده وقد ارتبك وهو يقلب الريموت في يده محاولاً البحث عن زر تخفيض الصوت، لأنه فتح التلفاز فجأة دون مبرر في فترة صمت لذيذة، ممزقاً إياها بعنف غبي ومجرم بهذه العبارة من إحدى المسلسلات الخليجية، حيث تصرخ امرأة بدينة ترتدي ثوباً منزلياً طويلاً مزركشا بحماقة، وزوجها يجلس إلى جوارها مرتديا الجلباب والغترة البيضاوان ، وابنهما البدين الذي أتخمت جثته المربربة بشتى أنواع الآيس كريم والحلويات، يجلس كدودة القز على مقعد وثير تحت جهاز التكييف الضخم وأمام البلاي ستيشن ، متظاهراً بأنه حزين لأن أمه تتشاجر مع أبيه، مما قد يهدد مستقبل كرتونة الكولا التي وعده بها أبوه أن يحضرها له في الليل.
والأب والأم والإبن، جميهعهم حفاة على السجاد الفاخر الناعم بأقدامهم القبيحة اللزجة التي أتخمت من الترف والطعام ولم تعد تقوى سوى على ضغط مكبس البنزين والفرامل في السيارة الأوتوماتيك الأمريكية. كما ان أيديهم البضة لا تقوى سوى على ضغط مكبس الريفيل المتدلي من ثلاجات البيبسي في المطاعم.
وأتصور بأن المخرج الذي يصور مشهداً كهذا لا بد وأن يكون منغمساً في صحن من الكبسة أو المنتو أثناء التصوير، بمشاركة المصور بالطبع، بينا تترك الكاميرا لتعمل على موود التصوير الأوتو.
وبعد أن يعثر الشخص في البيت أخيراً على زر تخفيض الصوت في الريموت، يكون الأوان قد فات وينقطع أحد أوتار العقل التي أحملها.
وماذا يمكن أن يقال له أو لبقية من في البيت؟ لا شيء بالتأكيد. فقد فعلها باحترافية شديدة، ولا يمكن لأحد أن يصدق أن الشخص في البيت هو في الحقيقة مجرم متخف، هذه هي الجريمة الكاملة، أو بدايتها على الأقل.
* * *
وتمر الأعوام، والشخص في البيت يكرر نفس الأسلوب بلا أثر وراءه ليدينه، وتتقطع الأوتار كل يوم في عقلي.
حتى جاء اليوم الذي كبرنا فيه جميعاً...وبدأ الشخص في البيت بعد عشرين سنة أو أكثر من تكرار جريمة كسره للصمت بفجاجة يدرك جرمه عندما جاء وقته ليدفع ثمن أفعاله.
ليس وحده، بل كل الأشخاص الذين معه في البيت.
فقد كانت محصلة تلك الأعوام الطويلة هي أنني بشكل تلقائي وبعد فترة صمت عميق ، أصبحت أكسر الصمت بإحدى العبارات العشوائية الصارخة التي انهال علي بها من قبل الشخص في البيت، ثم أتبعها بضحكة مجنونة، وأحياناً أنظر إلى الشخص في البيت نظرة أرى مردودها ارتباكاً وخوفاً في وجهه وعينيه.
أتذكر تلك المرة التي كان يطالع فيها الجريدة بانهماك تام وصمت، وكنت أنا أجلس صامتاً مفكراً إلى جواره. حيث انتهيت فجأة ، وضربت الجريدة بيدي ثم صرخت فيه مقلداً صوت هالة فاخر الرفيع المزعج:
" إيه يا بوجي اللي انت بتعمله ده؟ قاعد تقرا جرايد حضرتك وسايب اللبن يفور على النار؟ "
نعم كانت هذه العبارة هي إحدى قواطع الأوتار العقلية التي ضربني بها الشخص في البيت بريموته الكنترول من قبل، وبأعلى صوت ممكن للتلفاز بلا رحمة. والآن ارتدت عليه بذات القسوة.
ولكن الأمر لم يعد يتوقف عليه، وإنما تعداه إلى أشخاص آخرين في البيت، منهم أخي مثلاً.
والذي كان يوصلني إلى منزلي في الساعة الثالثة بعد منتصف الليل بعد يوم عمل طويل وشاق، ولم يكن أحد في الشارع سوى فرد أمن وحيد ، وكان الصمت لذيذاً في السيارة حيث قطعته بأن أمسكت أخي من ياقة قميصه وخنقته بشدة وهجمت عليه قائلاً :
" كده ممكن تيته تزعل مننا "
وهي إحدى العبارات القواطع التي اعتدى بها علي من قبل أيضاً بواسطة الشخص في البيت وهو يقلب في قنوات الدش.
أتذكر أن قائل العبارة ممثل مغمور أبيض البشرة ، فقري الوجه مجعده ، مهلهل الملابس ، كان يقولها لفتاة صغيرة سمينة ، ( ولكنها ليست كسمنة فتى المسلسل الخليجي السابق، بل هي سمنة الفقر التي نشأت على أطباق الفول وأرغفة العيش البلدي المخلوطة بالخشب وبقايا السجائر ) ، في شقة كانا يقطناها ، أكثر ما يميزها طاولة السفرة القديمة والمفرش المقطوع والرخيص الذي كان يغطيها والمزين بورد كئيب صغير.
الطريف هذه المرة هي أنني رأيت فرد الأمن الذي كان يجلس خلف السيارة في الشارع في المرآة وهو ينظر فزعاً إلينا، حيث ظن أن هجومي على أخي هو قبلة في الفم، مما جعل أخي يدفعني بعيداً وهو يقول : يخرب بيتك حتشبهنا على الساعة 3 بالليل.
فتحت باب السيارة حتى تضيء لمبة السقف ويطمئن فرد الأمن نوعاً ما، ولكنه ظل محدقاً بذات الفزع، دون أن يجرؤ على أي شيء آخر سوى التحديق.
وكان ابن أخي في الثالثة من عمره ينام على الكنبة الخلفية، وهي أول مرة تمنيت فيها أن أجذب طفلاً نائماً من قفاه لأوقظه وأجلسه ، حتى يراه فرد الأمن الفضولي فيعلم أن هناك طفلاً في السيارة ويطمئن.
لكن بعد تفكير، قررت أن أنزل من السيارة في حين ذهب أخي، ثم فردت أنا طولي ونظرت إلى فرد الأمن بكثير من التقزز ، وكدت أصرخ فيه :
" يخرب بيتك وبيت بيتك، لك إنت حمار ما عم تفهم ؟ "
وهي إحدى جمل ياسر العظمة التي قطع بها الشخص في البيت أحد أوتاري من قبل، ولكني منعت نفسي لا أدري لم.
ربما لأن فرد الأمن ليس أحد أشخاص البيت، وربما يكون نفس السبب الذي منعني من جذب ابن أخي ذي السنوات الثلاثة من قفاه لإيقاظه وكسر نومه شفقة عليه أن يتعرض لما تعرضت أنا له عندما كنت في مثل عمره.
Albert Camus