أريد أن أعتني قليلاً هنا "بمصر". وأريد أن نقرأ سوياً الآن هذه السطور التاريخية "الأكاديمية" التي تتحدث عن تلاقح ثقافي اجتماعي اقتصادي سياسي بين "مصر القديمة" و"الجزيرة العربية" منذ الألف الرابع قبل الميلاد.
أنقل هذه السطور من كتاب بعنوان: "دور القبائل العربية في صعيد مصر". وهو رسالة جامعية من تأليف الدكتور عبدالرحمن عبدالرحيم الريطي (استاذ التاريخ الاسلامي في جامعة قنا) بمراجعة الدكتورين محمود الحويري، أستاذ تاريخ العصور الوسطى بآداب سوهاج جامعة أسيوط، والدكتور حسن أحمد محمود، أستاذ التاريخ الإسلامي بكليةالآداب جامعة القاهرة.
صدر الكتاب عن مكتبة مدبولي سنة 1996. وهو، على غرار كل الأبحاث الأكاديمية، مليء بالمراجع المعتمدة التي يثبتها الكاتب عند ذكره لحقيقة تاريخية أو رأي تاريخي، هذه المراجع والمصادر لم أنقلها مع هذه الفقرات التي أنشرها هنا. ولكن بالإمكان تنزيل الكتاب بمجمله على الرابط التالي:
http://www.4shared.com/file/116860599/a1..._.html?s=1


لنقرأ إذاً من صفحة 26:

وخرج العرب من شبه جزيرتهم على شكل موجات أو هجرات متعاقبة للبحث عن حياة أفضل، فمنهم من اتجه نحو بلاد الرافدين، وبلاد الشام، ونحو بلاد النيل الخصيب، نظراً لخيرات هذه البلاد الوفيرة، واستقرت هذه الهجرات في تلك البلاد التي نزحت إليها. وسرعان ما أصبحت من جملة عناصر سكانها، وساهمت في البناء البشري والحضاري فيها.

ولقد جاء العرب إلى مصر من شبه الجزيرة العربية منذ عهود سحيقة، وكانت شبه جزيرة سيناء الطريق الأول لقدوم العرب إلى مصر، أما الطريق الثاني فهو طريق البحر الأحمر، حيث يقترب شاطيء شبه الجزيرة العربية، وشاطيء أفريقية عند باب المندب، حيث تبلغ المسافة بينهما خمسة عشر ميلاً.

ففي سنة 3500 ق.م. جاءت أقوام سامية من عرب آسيا، من شمال شبه الجزيرة العربية، وغزوا وادي النيل، وأحدثوا بعض المتغيرات على الشعب الحامي – شعب مصر ما بين أسوان والبحر المتوسط. وفي خلال عصر الأسرتين الأولى، والثانية الفرعونية (3200 ق.م.)، استطاعت مصر أن ترد غارات عرب الصحراء الشرقية الذين دأبوا على العبور من البلاد الشرقية – أي من شبه الجزيرة العربية ، واتخذوا الصحراء الشرقية مركزاً لهم، وعاشت فيها قبائل عربية كثيرة منذ زمن قديم، وكانوا يمثلون حلقة من حلقات السكان في مصر، على عكس ما يتصور البعض أنهم جاءوا مع الفتح العربي لمصر.

وقد عثر في آثار الأسرة الفرعونية الأولى على رسوم تمثل البدو. وكانت كلمة (عمو) معناها بدوي أو آسيوي، ووجدت أيضاً علاقات تجارية بين عرب حضرموت، وعمان واليمن مع بلاد مصر، وكانت كلمة "بلاد بونت" تشمل هذه البلاد مع الصومال.

وكان قدوم "الهكسوس" إلى مصرن في أثناء عصر الأسرة الثالثة عشرة الفرعونية يمثل إحدى حلقات موجات العرب القادمة إلى مصر. لأن بعض المؤرخين وجدوا أدلة تثبت عروبة الهكسوس. وقدمت أيضاً هجرة عربية من قبائل حمير، بعد عبورهم البحر الأحمر إلى وادي النيل. وكانت تمثل حملة على بلاد النوبة، وادي النيل.

كما جاءت هجرة عربية عن طريق البحر الأحمر، واستقرت في مدينة قفط، ووجدت نقوش ترجع إلى العصر الفرعوني موجودة على صخرة قرب مدينة "إدفو" (التابعة الآن لمحافظة أسوان)، ونقش عليها صورة حاكم الأسرة الثالثة الفرعونية وهو يرسل كتائب من جيشه لصد هجوم هؤلاء العرب.

وذكر "هيرودوت" أثناء زيارته لمصر سنة 448 – 445 ق.م. أن الأقسام الشرقية من مصر مأهولة بقبائل عربية، وكان يطلق على الصحراء الشرقية بين نهر النيل والبحر الأحمر بلاد العرب طيلة العصور الفرعونية.

وجاءت هجرات عربية إلى مصر واستقرت في الوجه القبلي، وخرج منها ملوك حكموا عاصمة "طيبة" مثل الملك "أحمس"، و"كامس"، وقد جاءت هذه الهجرات أصلاً إلى الصعيد عبر الصحراء الشرقية.

وفي عهد دولتي معين وسبأ (1200 – 650 ق.م.) كانت هناك علاقات بين مصر وهاتين الدولتين، فكان العرب يأتون إلى صعيد مصر، عبر البحر الأحمر، ومعهم تجاراتهم، ويصلون إلى بلدان مصر العليا. مثل "طيبة" وغيرها، وكان العرب القاطنون في صحراء مصر الشرقية يحملون التجارة على الجمال في قوافل تجارية من ميناء "القصير" إلى مدينة "قفط"، ومنها عن طريق نهر النيل إلى مدينة الأسكندرية. وحدث في عهد الرومان زمن الامبراطور "دقلديانوس" (284 – 305 ) أن تعرض وادي النيل لغارات قام بها العرب، وكانت علاقات العرب مع مصر أحياناً تظهر بالجانب السلبي. ولكن سرعان ما يزول هذا الجانب بمزاولة نشاطهم التجاري أو بالاستقرار في وادي النيل، ومن تلك العلاقات أثرت اللغة السامية في اللغة المصرية القديمة بنسبة 65% من أصل سامي، وهنا يظهر أثر العرب في حياة الثقافة لدى المصريين القدماء، وقبل الإسلام.

ويذكر المؤرخ اليوناني استرابون (توفي 25 م) أن مدينة "قفط" – إحدى مدن صعيد مصر – كانت في هد البطالمة والرومان بلدة نصف عربية، وذكر كثرة التجار العرب بمدن الصعيد المختلفة، وإقامتهم بصفة دائمة فيها.

وأقام العرب ببلدان مصر، وكانت معبوداتهم تصاحبهم، حيث مارسوا حريتهم الدينية بمصر، حتى جاء العصر المسيحي. ويذكر مؤرخوا الكنيسة أن الرهبنة نقلت من مصر إلى بلاد العرب على يد الراهب "هيلاريون"، ويؤكد بعضهم أيضاً، أن نسطور صاحب المذهب المسيحي، قد نفاه الإمبراطور ثيودتيوس الثاني (408 – 450 م)، فهرب من منفاه إلى بلاد العرب ... إلخ.

واسلموا لي
العلماني