هذه خواطر تتقافز في ذهني وأنا أتحضر لعودتي إلى بلدي بعد ستة عشر سنة من الغربة والحنين ... أنقلها تباعاً وكيفما اُتفق.

-1-

أصدق شهادة هنا وهناك في البلدية الفرنسية، في وزارة الخارجية، أتدافع لدائرة رسمية وأنا أحس مسبقاً بالحنين لوطني الثاني .. أفكر بأنها آخر مرة سأرى بها هذا المكان أو ذاك، أحن منذ الآن لما سيمضي.
التوتر على أشده وخسرت "كذا" كيلو خلال أيام معدودات، تعيدك سفارة بلادك حين تزورها للماضي، تحس فيها أن الزمان توقف وأن لا شيء تغير، هناك حرارة الشرق وأيضاً "بيروقراطية" العالم الثالث التي تستفزك، الوقت يمضي على وتيرة مختلفة في الشرق، كالشعر العربي لا تعرف حين تسمعه لأي عصر ينتمي، جاهلي أو أموي أو عباسي أو حتى حديث. تتشابه الأزمنة كلها في بلادي.
يخبرني أخي بأنه مضطر لإغلاق مسنجره فالكهرباء ستنقطع .. تنقطع؟ هكذا كان وبقي الوضع فيها بلادي التي ليست ككل البلاد.
أتطلع حولي وأصمت .. أصمت .. ثم أغني وأدندن لكيلا أسمع صوت أحشائي الداخلية، ولكيلا أسمع نبض قلبي، ولكني أتذكر أهلي وأحبتي وحرارة الناس، أتذكر بخلل ما أيضاً تدخلهم السافر بكل تفاصيل حياتي .. ولكنهم يبقون معك يساندونك بكل لحظة تتألم بها. لكن من يساندك في الغربة؟
ما نفع حريتي يا تماثيل الحرية دون جذوري ودون ضحكة حقيقية تقهقه وتخرج من القلب في سهرة سمر؟
ما نفع حريتي الجنسية، إن كنت أشاطر السرير امرأة تائهة تتقاسمه مع غريب لأيام معدودات ثم تمضي أو أمضي، ونتوه في ساحات الإثارة المغمسة بالهباء.

"ما بيعبي عين الإنسان غير التراب"
عندما كنت أتمشى في جبال البيرينيه في جنوب فرنسا منذ سنوات، حدث معي شيء غريب لا أعرف كيف أفسره، شممت رائحة، رائحة خضرة، رائحة من الطبيعة؛ رائحة التراب .. رائحةٌ ذكرتني برائحة أخرى غامضة في طفولتي، تذكرت بشكل غامض جداً نزهات و "سيرانات" في ربوع بلادي. لكني لم أتعرف على شيء محدد، وكان هذا يثيرني ويستفزني، تلعب بك الذاكرة بشكل محبط ومخيب للآمال أحياناً.
لكن ما كانت تثيره هذه الرائحة (رائحة التراب) لدي من مشاعر كان قوياً، أحسست معها أني طفل في حقل من حقول حوران أو جبل الدروز، ما عدت أذكر تماماً.
تركت لتلك الرائحة أن تجتاحني وتعتريني كما تحب، تركت لها حرية غمري بحنانها كأم، كانت المشاعر التي تستحثها وتفيض كتلك التي تفيض من لقاء عشيق بعشيقته، دوار يصيب الرأس فيديره ولا نعود نعي العالم من حولنا.
هل للوطن من رائحة؟ لا بد أن له رائحة، لكنها كرائحة الحبيب لا نشعر بجبروتها إلا ونحن بعيدون بمنأى عنها.
الوطن كثيراً ما يكون كالإدمان، كلما افتقدناه كلما جننا حنيناً لتعاطيه.

ربما يتبع ...